ماذا يدور في عقل توماس باراك؟
06.07.2025
علي أسمر
ماذا يدور في عقل توماس باراك؟
علي أسمر
سوريا تي في
السبت 5/7/2025
لطالما كانت سوريا مسرحًا واسعًا لتصادم الأجندات الدولية والإقليمية، لكن ما يجري اليوم مختلف تمامًا عمّا عرفناه طوال العقد الماضي؛ فبعد سقوط النظام القديم وصعود قيادة جديدة، بدا أن الجميع يعيد رسم خرائط مصالحه وفق حسابات جديدة، وفي القلب من ذلك يقف توماس باراك، المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا، الذي لم يضيع وقتًا منذ تسلمه مهامه في إطلاق سلسلة تصريحات تكشف عن ملامح مشروع متكامل لإعادة صياغة سوريا والمنطقة.
وفي هذا المقال، أحاول قراءة هذه التصريحات المتعاقبة وربطها بخلفياتها السياسية والأمنية والاقتصادية، للوقوف على حقيقة ما يدور في عقل باراك، وما الذي يعنيه حقًا حين يتحدث عن سوريا الجديدة الآمنة والمستقرة.
من وجهة نظري، لا يمكن التعامل مع تصريحات توماس باراك منذ تعيينه مبعوثًا أميركيًا خاصًا إلى سوريا وكأنها مجرد مواقف دبلوماسية عابرة، بل أرى أنها أشبه بخريطة ذهنية واضحة لما يدور في عقله، ولِما تخطط له واشنطن فعلًا تجاه سوريا والمنطقة خلال السنوات القادمة. فمنذ أسابيعه الأولى في مهمته، رسم باراك ملامح مشروع متكامل، يربط بين الأمن والسياسة والاقتصاد، ويعيد تعريف سوريا الجديدة بما يخدم مصالح الولايات المتحدة وحلفائها بالدرجة الأولى.
وقد كان لافتًا أن أول إطلالاته القوية جاءت في 24 مايو عبر صحيفة The Guardian، عندما امتدح الرئيس السوري الجديد أحمد الشرع بقوله: "إن الرجل يُظهر ذكاءً وتركيزًا ملحوظًا، وهو حليف محتمل في الحرب على داعش"، مضيفًا أن إدارة ترمب جاهزة لدعم سوريا أمنيًا. في تقديري، لم يكن هذا التصريح مجاملة عابرة أو بروتوكول تهنئة برئيس جديد، بل كان رسالة مبكرة تؤسس للاعتراف بشرعية النظام الوليد في دمشق، بشرط أن يتقاطع مع أولويات واشنطن، وعلى رأسها مكافحة الإرهاب.
بعد خمسة أيام فقط، بدا أن باراك انتقل خطوة إضافية على طريق رسم ملامح العلاقة الجديدة؛ ففي 29 مايو، تحدث لوكالة Reuters بكلمات تحمل أبعادًا استراتيجية، حين قال إن "إعادة رفع العلم الأميركي في دمشق بعد عقد كامل رسالة ثقة في سوريا الجديدة، التي نعتقد أنها مستعدة للتفاهم مع إسرائيل، وحتى لاحقًا لترسيم الحدود"، ثم أضاف لوكالة AP أن "واشنطن لا تريد ديمقراطية صورية في سوريا، بل استقرارًا حقيقيًا يعيد ترتيب المنطقة".
أعتقد أن هذا التصريح يكشف بوضوح أين تقع الديمقراطية ضمن سُلّم أولويات واشنطن. المهم بالنسبة لباراك هو الاستقرار الذي يضمن أمن إسرائيل أولًا، ويمنع بروز داعش مجددًا ثانيًا، ويمنح أميركا يدًا طولى في إعادة ترتيب خارطة النفوذ الإقليمي.
وما يعزز ذلك أن باراك لم ينتظر طويلًا حتى يكشف رؤيته الأمنية بشكل أكثر تفصيلًا؛ ففي 3 يونيو، في حواره مع Financial Times، أعلن أن بلاده ستعيد هيكلة وجودها العسكري في سوريا، بحيث تُبقي أقل من ألف جندي فقط، وستقلّص قواعدها من ثماني قواعد إلى قاعدة واحدة، على أن يكون الهدف دمج قسد تدريجيًا في الجيش السوري لضمان عدم عودة داعش. في رأيي، هذه ليست مجرد خطة انسحاب جزئي أو تخفيف أعباء مالية وعسكرية على واشنطن، وإنما هي صيغة لبقاء أميركي طويل الأمد ولكن بأدوات سورية داخلية؛ فحين تدخل عناصر قسد بهيكليتها التي رعتها واشنطن لسنوات في بنية الجيش السوري، تصبح أميركا ممسكة بخيط رئيسي داخل المؤسسة العسكرية السورية ذاتها، حتى لو خرجت دباباتها.
بعدها بيوم واحد فقط، في 4 يونيو، خرج باراك ليعلن من خلال NPASyria أنه تحدث مع مظلوم عبدي، قائد قوات سوريا الديمقراطية، بشأن دمج قواته ضمن الجيش السوري الجديد، معتبرًا أن هذا هو الطريق الأمثل لضمان عدم عودة الإرهاب.
في تقديري الشخصي، هذا التصريح يوضح كيف يريد الأميركيون إعادة رسم الجغرافيا العسكرية والاجتماعية في الشمال الشرقي لسوريا؛ إنه يمنح دمشق الجديدة سلطة ظاهرية موحدة، ويطمئن تركيا بأن حلم الدويلة الكردية انتهى، وفي ذات الوقت يحتفظ لأميركا بأدوات تأثير على الأرض عبر عناصر قسد المدرجين في الجيش.
ثم جاءت تصريحاته لقناة الجزيرة في 27 يونيو لتفتح نافذة أكبر على ما يدور في ذهنه من تسويات تتجاوز الداخل السوري، إذ قال بوضوح: "دمشق الحالية لا تسعى لحرب، وهناك محادثات بهدوء مع إسرائيل، ولا أحد في المنطقة يريد مواجهة شاملة". برأيي، هذا التصريح يرسم إطارًا إقليميًا لسوريا الجديدة، التي ستكون دولة بلا معارك مع إسرائيل، وربما تقف لاحقًا على أعتاب تفاهمات عدم اعتداء، لتفتح الباب أمام إعادة تشكيل التحالفات الشرق أوسطية، تمامًا كما حدث مع اتفاقيات أبراهام.
وفي 30 يونيو، أكمل باراك الصورة عندما قال لوكالة الأناضول: "إن الرئيسين ترمب وأردوغان سيجدان قريبًا حلًا للعقوبات على تركيا وسوريا، إذ إن المسألة لم تعد عسكرية فقط، بل ترتبط بمستقبل سوريا والمنطقة ككل". في تقديري، هذه النقطة بالغة الأهمية، لأنها توضح أن المشروع الأميركي لا يقف عند حد الحرب على داعش، ولا عند دمج الأكراد في الجيش، بل يمتد ليشمل ترتيبات اقتصادية جديدة تطمئن تركيا وتشجعها على الانخراط في إعادة إعمار سوريا، وإحياء تجارتها معها، ما قد يخفف ضغوط ملايين اللاجئين ويهدئ الساحة التركية داخليًا قبل الانتخابات القادمة.
وهكذا، ومن خلال جمع هذه التصريحات وربطها بسياقاتها الإقليمية والدولية، أرى أننا أمام مشروع أميركي براغماتي يسعى أولًا وأخيرًا لضمان سوريا آمنة، موحدة في ظاهرها، خالية من تهديد داعش، مستعدة للتفاهم مع إسرائيل، مطمئنة لتركيا، ومنفتحة لاحقًا على مسارات اقتصادية تعيد دمجها في محيطها. قد لا تكون هذه الصورة مطابقة لحلم كثيرين بديمقراطية سورية واسعة وشاملة، لكنها في المقابل تمنح فرصة لالتقاط الأنفاس بعد سنوات طويلة من الصراع والدمار. ستظل هذه التسوية التي يُراد لها أن ترسم ملامح سوريا الجديدة محكومة بميزان القوى الدولي والإقليمي، أكثر من كونها تعبيرًا كاملًا عن إرادة السوريين أنفسهم. ومع ذلك، قد تُشكل محطة ضرورية في مسار طويل ومعقّد نحو استقرار يحتاجه الجميع، حتى وإن جاء بثمن تنازلات سياسية مؤجلة.