الرئيسة \
تقارير \ ما زال الباب السوريّ إلى الحرية موارباً حتى الآن
ما زال الباب السوريّ إلى الحرية موارباً حتى الآن
28.08.2025
موفق نيربية
ما زال الباب السوريّ إلى الحرية موارباً حتى الآن
موفق نيربية
القدس العربي
الاربعاء 27/8/2025
استطاعت “هيئة تحرير الشام” في أوائل ديسمبر الماضي، أن تقود تحالفاً محدود القوى نحو مراكز سيطرة السلطة الاستبدادية السابقة، التي كان تداعيها وذوبانها يسبق القوات الزاحفة، ومن ثمّ أن تُسقط النظام كبناء من ورق. تلك كانت مهمّة تبدو مستحيلة لعقودٍ مضت، وهي إنجاز كبير قبل البحث بأيّ تفصيلٍ آخر.
لكنّ” إسقاط النظام” لا يستوي كهدف على الإطلاق، ما لم تقم مكانه هياكل وآليّات وإجراءات جديدة، تكون فيها حرية الشعب وكرامة المواطنين مضمونتين، وطريق عودة الاستبداد بشكله السابق، أو بشكل جديد وتحت أيّة أيديولوجيا، مسدوداً ومغلقاً.
يركّز هذا المقال على الآليّات التي يمكن أن تمنع هذه العودة، وتمنح الأمان لأولئك الذين قدّموا تضحياتٍ جساماً في العهد السابق الطويل، خصوصاً خلال مرحلة انتفاضتهم عليه.
أوّل تلك الخطى وأكثرها حسماً تتعلّق بتفكيك مؤسّسات وتأسيسات الاستبداد، من خلال حلّ الأجهزة الأمنية، وإعادة هيكلتها بشكل حديث ومهني ووطني، بحيث يكون ولاؤها موجّهاً نحو الدستور والقانون وحدهما، لا لفردٍ أو عصبة معيّنة. ويُستكمل ذلك بإصلاح القضاء، ووضع استقلاله ونزاهته وسلطته فوق أيّ اعتبار، مع استبعاد القضاة الفاسدين الذين كانوا يسهّلون هيمنة النظام السابق على الجسم القضائي، ومنع أيّ تشويش على مرجعية الحكم والمقاضاة.
الديمقراطية هي العنوان الأكثر شمولاً لكلّ آليات منع عودة الاستبداد، والاهتمام ينبغي أن ينصبّ على استدامتها حتى يطمئن السوريون إلى مستقبلهم القائم على الكرامة والحرية والعدالة
وبالطبع، لا يمكن السير في هذا الطريق من دون خطى موازية للعدالة الانتقالية، تحرّر مفهومها أوّلاً من التشويهات المغرضة، وتستفيد من تجارب الشعوب والخبرة الأممية وتستعين بها، من دون تردّد لا يمكن أن يكون وراءه حين يحدث إلّا النوايا غير السليمة وغير الصحية، ولو كانت تحت عناوين كبيرة أحياناً.
تشمل إجراءات العدالة الانتقالية مأسستها ومنحها السلطات المستقلّة الكافية، لتشكيل لجان التحقيق والحقائق والمصالحة والسلم الأهلي، ولمحاسبة كلّ المنتهكين، ومن الأطراف كلّها حتى تلك التي تتموضع خارج النظام السابق، وتقديم التعويضات للمتضرّرين من الضحايا، وإصلاح المؤسّسات المعنية التي أسّس الخلل فيها لما حدث من انتهاكات، في ظلّ النظام السابق وفي المرحلة الانتقالية أيضاً. ومن أجل منع عودة الاستبداد، لا بدّ من تأسيس صريح للديمقراطية، ابتداءً من صياغة دستور جديد يضمن سيادة الشعب وحريّاته الأساسية، وحقوق الإنسان وفصل السلطات ومنع تغوّل واحدة على غيرها؛ إضافةً إلى كون ذلك الدستور مانعاً لتركيز السلطة، لا في يد فرد يعيد تكرار الحكاية والمأساة، ولا لفئة أو طبقة أو حزب أو قومية أو طائفة، في إطار الوطنية الجامعة، التي تؤمّن مساواة المواطنين وحقوقهم الفردية والجمعية، بأفضل شكل ممكن.
جزء آخر من مأسسة الديمقراطية يتعلّق بالحياة البرلمانية، التي يتمثّل فيها الشعب، ويمتلك الصلاحيات التشريعية والرقابية على السلطة التنفيذية، التي تعكس موازين القوى في البرلمان، بعد أن يتمّ انتخابه بشكلٍ نزيه ينطبق على المعايير الدولية وتحت الرقابة المحايدة. تحتاج تلك الانتخابات إلى حياة سياسية نشيطة تؤمّنها حياة حزبية تقوم على برامج سياسية ترتبط بمصالح الناس وميولهم. ولا يمكن أن تعود الحياة السياسية بشكلٍ سليم للسوريين من دون تنظيمها ومنع الفوضى والتعصّب وخطاب الكراهية من التحكّم بمسارها أو الانحراف به.
ثالث العناوين هو تعزيز المجتمع المدني وعقلية المشاركة في الحياة العامة، من خلال ضمان حرية التعبير والصحافة ـ والإعلام عموماً- والاحتفاء بالتعدّد والتنوّع، ومنع احتكار الدولة للمعلومات، أو تركها في خدمة السلطة التنفيذية، وخصوصاً حريّة الإعلام، وحقه في المراقبة الفعّالة لعمل السلطات وأدائها.
ذلك يحتاج أيضاً إلى دعم المنظّمات غير الحكومية، وتشجيعها على النشاط في حقول مهمة كمراقبة الانتخابات والدفاع عن حقوق الإنسان ومراقبة انتهاكاتها، كما على المشاركة في صياغة السياسات العامة للدولة ومؤسّساتها.
لا يمكن أيضاً أن تنجح الديمقراطية دون مواطنين واعين ومشاركين بفعالية في قطع طريق عودة الماضي الأسود، وفتح طريق المستقبل الأفضل. لذا ينبغي تعزيز الثقافة الديمقراطية من خلال التعليم والإعلام، وشرح أهمية التعددية، واحترام الرأي الآخر، ومسؤولية الفرد في الحياة العامة. تقع النقطة الرابعة في الأساس، الذي تمنع متانته التفكّك والبوار: في الاقتصاد وتوزيع الثروة. حيث لا بدّ من تفكيك آليْات الاحتكار التي كان النظام القديم يتحكّم بواسطتها بالاقتصاد وبالموارد، وفتح باب المشاركة الحرة والمنافسة والشفافية. كذلك يتعلّق الأمر أيضاً بتوزيع الثروة، بحيث لا تشلّ الأفراد والجماعات حالة الركود أو البطالة أو لا تتحقّق الكفاية بحدّها الأدنى من الازدهار، حيث لا يستطيع المواطن ولا المجتمع، أن ينهض ويسهم في صياغة مستقبله إلّا من خلال تحرّرهما من العوز والحاجة، معاً، لأنّ الاستبداد يعيش على الفقر، ويتمّ تسويقه جيّداً في بيئة الخيبة واليأس. فما الذي يحدث في سوريا بعد سقوط النظام وحتى الآن، وما الذي يُخشى أن يحدث؟
مفهوم من كلّ ما سبق أن الديمقراطية هي العنوان الأكثر شمولاً لكلّ آليات منع عودة الاستبداد، وهي جوهر ذلك التحوّل، كما أن الاهتمام ينبغي أن ينصبّ على طرق الإقلاع بها بكلّ جوانبها، ثمّ استدامتها حتى يطمئن السوريون إلى مستقبلهم القائم على الكرامة والحرية والعدالة. ما حدث حتى الآن لا يتعلّق بالكثير من التفاصيل المطروحة أعلاه، بما في ذلك تجنّب – وربّما تحريم- اللفظة ذاتها، الأمر الذي يشغل البال ويصيب بالقلق ويضعف الثقة… الضرورية: ليس هنالك تفكيك شفّاف للنظام الأمنيّ السابق، بل محاولة للاستفادة من قدرات لإضافتها لقدرات النظام الأمنيّ الجديد، أو المُجدَّد، بعد انتقاله من إدلب إلى دمشق. واختلط عمل الجيش بالأمن العام، مع بقاء الهيمنة لكوادر هيئة تحرير الشام وآليات عملها- حيث يمثّل “الشيخ” في اختصاصه ومؤسسته ما كانت تقوم به المفرزة الأمنية سابقاً في تلك المؤسسة ـ ومع الاستفادة من تلك الفوضى لتوظيف قدرات القوى “غير المنضبطة” (من فصائل توجّهت إلى الساحل و”فزعة” عشائر إلى السويداء) ثمّ التبرّؤ منها ومن عملها بعد ذلك وعند اللزوم.. حدث مثل ذلك في مسألة خطيرة كالقضاء، كما لم تتعدّ العدالة الانتقالية حدود الذكر واللفظ، رغم تشكيل لجنة لها، كما لغيرها. لم يحدث اختراق مهمّ وموثوق لمسألة الديمقراطية، لا من حيث المسار الدستوري، الذي تمّ تقليصه إلى “إعلان دستوري” يستبق أي حوار، خصوصاً للمسائل التي يمكن أن تتمركز حولها الاختلافات وتتنوّع. ولا ظهرت إشارات تشجيع لإحياء الحياة السياسية، أو أيّ نظام لها، ولو كان مؤقّتاً، بحيث أصبحت تلك الممارسات انتهاكات للقانون يُخشى أن يقع كثير من المعارضين السابقين- أو من بقي منهم- واللاحقين تحت سيفها المُصلت.
من جهة أخرى، يُخشى على تلك التكوينات الأوّلية من المجتمع المدني، التي كانت تختبر درجة الحرية السياسية بعد سقوط النظام مباشرة، من التقلّص والانكماش. حدث ذلك بدلاً من التشجيع على تطوير المجتمع المدني حجماً وممارسةً، وعلى المشاركة السياسية عموماً، وعلى الرغم من التطوّر الملحوظ الذي شهدته هذه الناحية في الفترة الأولى للسلطة الجديدة.
وعلى النهج ذاته، تحسّنت بعض الأمور المعيشية والاقتصادية، فتحسّنت القدرة الشرائية وتوفّر المواد، ولكن الآلاف ما زالوا منقطعين عن عملهم وعن رواتبهم ومصادر دخلهم المحدود، وابتدأ بعض الاقتصاديين ورجال الأعمال بإجراء حساباتهم الأوّلية للانخراط في المرحلة المقبلة: إعادة الإعمار أو العمل الاستثماري، وهم موضع تلمّس اتّجاه الريح دائماً، وبخطوات حذرة، لخبرتهم ومعرفتهم وطموحهم. إلّا أن أخباراً وتقارير دولية تتواتر وتثير التشاؤم حول المستقبل، عن معالجة السلطة -الضيقة- لمسألة أوليغارشيا بشار الأسد، عن طرق التسويات المخفية وفي أجواء غير شفافة وغياب لأيّ مسار للمساءلة والمحاسبة.
هنالك بعض المظاهر الإيجابية المتفرّقة، لكنّ الصورة الشاملة مقلقة، تتحوّل مع المسار الذي حدث في الساحل وجبل السويداء وما يمكن أن يحدث في الشمال الشرقي، وأنباء “التقدّم” في المحادثات مع إسرائيل وغيرها.. تتحّول إلى صورة تحيل إلى الكوابيس!