الرئيسة \  تقارير  \  ما الذي يناسب سوريا حقاً؟

ما الذي يناسب سوريا حقاً؟

27.08.2025
بكر صدقي



ما الذي يناسب سوريا حقاً؟
بكر صدقي
القدس العربي
الثلاثاء 26/8/2025
في تصريحات جديدة أدلى بها المبعوث الأمريكي إلى سوريا توماس براك، قال إن “ما يناسب سوريا هو نظام ليس فيدرالياً ولكن شيئاً قريباً منه”. السمسار العقاري الذي عينه ترامب للمهمة المذكورة، إضافة إلى شغله مقعد سفير الولايات المتحدة في أنقرة، يتحدث كثيراً أمام وسائل الإعلام، وفي كل مرة يثير زوبعة من النقاشات، ليس لأهميته الشخصية أو بسبب “أفكاره” البعيدة عن الرصانة الدبلوماسية، بل بسبب وزن الدولة التي يمثلها في المعادلات الدولية كما في توازنات القوى في سوريا ما بعد الأسد. لذلك لا مفر من أخذ تصريحاته على محمل الجد بصرف النظر عن غرابتها أو عن تضاربها بين تصريح وآخر.
سبق لبراك أن أعلن، قبل نحو شهرين، رفضه للنظام الفيدرالي في إطار ضغطه على قوات سوريا الديمقراطية لتسريع اندماجها في الجيش التابع لحكومة دمشق. ومنذ ذلك الحين برز التباين بين دمشق وقسد في فهمهما لاتفاق العاشر من آذار، فرفضت الأولى المشاركة في اجتماع باريس الذي كان مقرراً. تزامن هذا الرفض مع تصريحات تصعيدية من تركيا سمحت بتفسير التوتر الحاصل بإرجاعه للعامل التركي. بين تصريحي باراك المشار إليهما وقعت مجازر السويداء التي ورطت سلطة دمشق نفسها فيها وخرجت بهزيمة سياسية دفعتها إلى التفاوض على وضع السويداء المحاصرة مع تل أبيب!
فهل تغير الموقف الأمريكي بسبب هذه التطورات التي نتجت عنها قطيعة نفسية حادة لدى الدروز في علاقتهم مع دمشق، بل ربما مع الوطن السوري بكامله؟ هل باتت واشنطن تميل إلى تبني نوع من اللامركزية السياسية التي كانت ترفضها في الشهور السابقة بعدما رأت أن تعايش المكونات السورية تحت سلطة هيئة تحرير الشام لم يعد قابلاً للحياة؟ الأمر الذي ينطوي على فرضية أن هذه السلطة باقية بدعم أمريكي، ولا خطط لدى واشنطن في الأمد القريب لفرض نظام تشاركي على دمشق وفقاً لقرار مجلس الأمن 2254 الذي عاد بيان صادر مؤخرا عن مجلس الأمن إلى التذكير به.
ففي لقاء جمعه مع رؤساء تحرير مجموعة من الصحف العربية والدولية، أعاد أحمد الشرع التأكيد على “ثوابته” بشأن الدولة المركزية وحصر السلاح بيدها ورفض المحاصصة الطائفية. كما أن سلطة دمشق ماضية، في الوقت نفسه، في خططها بشأن تشكيل جسم تشريعي تسميه “مجلس شعب انتقالي” مع إقصاء كل من السويداء والحسكة والرقة بدعوى افتقادها لبيئة آمنة. مع العلم أن الشرع سيقوم بتعيين ثلث أعضاء الجسم التشريعي، في حين تشرف هيئة قام بتعيين أعضائها أيضاً على انتخاب الثلثين المتبقيين.
هل تغير الموقف الأمريكي بسبب هذه التطورات التي نتجت عنها قطيعة نفسية حادة لدى الدروز في علاقتهم مع دمشق، بل ربما مع الوطن السوري بكامله؟ وهل باتت واشنطن تميل إلى تبني نوع من اللامركزية السياسية التي كانت ترفضها في الشهور السابقة
هذا يعني أن سلطة دمشق التي تحظى باعتراف دولي مشروط، ولا تحظى بقبول عام لدى السوريين، مصممة على تكريس تفردها بالسلطة، على رغم فشلها في التعامل مع تنوع المجتمع السوري، وتسببها بكوارث وطنية في منطقتي الساحل والسويداء، وتشكيلها جيشاً وقوات أمن عام من لون طائفي واحد معزز بإيديولوجيا متطرفة، مع حفاظ الفصائل التي من المفترض أنها انضمت إلى الجيش على ولاءاتها السابقة.
بدلاً من إصرار مجلس الأمن على إلزام دمشق بتنفيذ مضمون القرار 2254 الذي يعني نوعاً من مشاركة جميع الأطياف السياسية والاجتماعية في السلطة المركزية الانتقالية، يأتي تصريح براك الجديد كما لو كان استسلاماً أمريكياً أمام عناد دمشق على التفرد بالسلطة، مقابل توزيع هذه السلطة على الأقاليم في نظام “ليس فيدرالياً لكنه قريب منه”!
الواقع أن النظام اللامركزي قد يكون فعلاً حلاً لمشكلة انعدام الثقة بين المكونات الوطنية والسلطة المركزية في دمشق، وهو ما يطالب به أصلاً كرد ودروز وعلويون، في غياب شبه تام لقوى سياسية عابرة للهويات الصغرى، في وقت نبذت فيه سلطة دمشق ما هو موجود منها، فحل “الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة” نفسه “طوعاً” ويطالب مستشار الشرع أحمد موفق زيدان تنظيم الإخوان المسلمين بأن يحلوا أنفسهم.
مع ذلك كان يؤمل أن يقرر السوريون أنفسهم فيما إذا كانوا يريدون الحفاظ على النظام المركزي كما عرفوه طوال عمر الكيان السوري، أم الانتقال إلى شكل من أشكال النظام اللامركزي، في مؤتمر وطني يضع عقداً اجتماعياً جديداً يؤسس لدولة تحتضن تنوعهم. لا أن يطرح أفّاق أمريكي حدث أن شغل موقعاً مهماً أفكاراً يظن أنها “مناسبة” لهم. ثم إن السلطة القائمة في دمشق اليوم هي سلطة انتقالية، لكنها تتصرف كما لو كانت أبدية، أو كما لو كانت هي “الدولة” على ما يحاول إعلاميو المجموعة الحاكمة أن يروّجوا.
منذ أول تعيينه مبعوثاً لسوريا تحدث براك عن “الخطأ” الذي ارتكبه الغربيون في هندسة المنطقة وفقاً لاتفاقات سايكس ـ بيكو، وقال إن الولايات المتحدة لن تتدخل بعد الآن في شؤون الدول الأخرى. وفي ولايته الأولى قال ترامب إن الشرق الأوسط عبارة عن قبائل متحاربة منذ آلاف السنين! هذه هي رؤية ترامب وفريقه لمنطقتنا. بتمكينهم هيئة تحرير الشام من الاستيلاء على السلطة في أواخر العام الماضي، ثم اعترافهم بها ورفع العقوبات عنها، مع معرفتهم لما يمكن أن تثيره من هواجس لدى السوريين (للأسف تحقق كثير منها) وإطلاقهم تصريحات وأفكاراً متضاربة بشأن مستقبل الدولة السورية، كأنهم يريدونها ضعيفة مفككة “بقبائل” وجماعات تواصل احترابها الداخلي لألف عام إضافي، لمصلحة من؟ حزرتم: لمصلحة إسرائيل بالطبع!
من الحصافة ألا ينساق المرء وراء نظريات المؤامرة. ولكن ماذا نفعل إذا كانت المؤامرات تحاك فعلاً، والأسوأ منها أنها تتحقق بأدوات محلية!