الرئيسة \  تقارير  \  لمحة عن البيئة التي تواجهها الحكومة السورية الفتية وتأثيرها على السياسات العامة

لمحة عن البيئة التي تواجهها الحكومة السورية الفتية وتأثيرها على السياسات العامة

29.09.2025
مصطفى إبراهيم المصطفى



لمحة عن البيئة التي تواجهها الحكومة السورية الفتية وتأثيرها على السياسات العامة
مصطفى إبراهيم المصطفى
سوريا تي في
الاحد 28/9/2025
بغض النظر عن ضعف الدولة أو قوتها؛ تتأثر صناعة القرار لكل الحكومات بضغوطات أو متطلبات البيئتين الداخلية والخارجية. وبطبيعة الحال يوجد النظام السياسي في بيئة محلية ودولية، وهو يشكل تلك البيئات ويتشكل بها. ويتلقى النظام من البيئتين الداخلية والخارجية مدخلات (مطالب أو دعم)، ويحاول أن يشكلها من خلال المخرجات (قرارات وإجراءات). وفي عالم اعتمادي (اعتماد الدول على بعضها بمعنى أن ما تفعله أمة يؤثر على باقي الأمم) لا يمكن للسياسيين أن يفعلوا ببساطة ما تريده شعوبهم، أو حتى ما يريدوه هم أنفسهم إذا ما واجهت رغباتهم ضغطا دوليا قويا.
بين الواقع والمنطق
منطقيا، من المفترض أن تتلقى الحكومة السورية الجديدة التي انبثقت عن القوى التي أطاحت بنظام الأسد الذي كان مصدر قلق وإزعاج معظم دول الجوار، ومصدر قهر وإذلال للشعب السوري دعما من البيئتين الداخلية والخارجية. لقد حصل شيء من هذا القبيل، ولكن الصورة لم تكن دائما على هذا المنوال، فحكومة الاحتلال الإسرائيلي التي من المفترض أنها بسقوط نظام الأسد ووصول حكومة مناهضة لنظام الملالي في طهران تكون قد تخلصت من الوجود الإيراني في دولة مجاورة، وارتاحت لقطع خط الإمداد لحزب الله في الجنوب اللبناني.
نفس المقاربة المنطقية تنطبق على الشعب السوري بجميع أطيافه، فقد كان نظام الأسد على درجة لا بأس بها من العدل في توزيع الظلم والقهر على جميع السوريين من دون استثناء. لذلك، من المفترض أيضا أن يقدم السوريون على اختلاف مشاربهم دعما منقطع النظير للحكومة التي أزاحت من على صدورهم كابوسا أرقهم ونكد حياتهم لعشرات السنين. أو لنقل – كحد أدنى – من المفترض أن يبحث السوريون عن قسط من الراحة بعد كل تلك المعاناة؛ مفسحين الطريق أمام حكومتهم الجديدة في سعيها للتغيير، ولكن يبدو أننا نخطئ أحيانا إذا حكمنا على واقع الامور بالمنطق.
الخوف الوجودي
يشترك الاحتلال الإسرائيلي وبعض القوى المجتمعية في سورية بسلوك يسمى: "وضع العصي في العجلات"، وربما – في بعض الأحيان – يفسر سلوك هذه القوى وأفعالها بأنه محاولات حثيثة لتحطيم العربة والعجلات. ومن المشتركات أيضا؛ أن هذه القوى مدفوعة بنفس العوامل النفسية: "الخوف الوجودي"، فالاحتلال الإسرائيلي رغم أنه يمتلك الجيش الأقوى تسليحاً في المنطقة بقوة عسكرية هائلة وسلاح نووي، ولديه ضمانات أمنية من قبل الدول الغربية؛ تشير معظم الدراسات واستطلاعات الرأي إلى أن الإسرائيليين مسكونون بالخوف والشك في قدرة دولتهم على البقاء لعقود مقبلة.
هذا الخوف ليس محصوراً بسياق محلي، بل هو ظاهرة نفسية متكررة عبر التاريخ وفي كل المجتمعات المتنوعة التي تضم أقليات؛ يطفو على السطح وقت الاضطرابات والازمات. هو خوف دفين، لا واعٍ، متجذر في ذاكرة جمعية متخمة بمآسٍ حقيقية أو متخيلة: من الإبادة، إلى التهجير، إلى الاضطهاد، وصولاً إلى طمس الهوية. هذا الشعور بدوره يدفع ببعض الأقليات لأن تنجذب لخطاب بعض رموزها المتطرفة المتخم بتأجيج مشاعر الخوف، ويدفعها بالتالي للتقوقع على ذاتها، والتقارب مع كل من يشاركها نفس المخاوف، بل ويدفعها للهجوم إن كانت الظروف مواتية.
مبدأ اركلهم وهم طرحى
في كتابه "عن أسباب الحرب" بحث المؤرخ "جوفري بليني" في العلاقة بين الصراع الداخلي والحرب، واكتشف "بليني" أن ما يزيد عن خمسين في المئة من حروب الحقبة كانت مسبوقة بنزاع داخلي عند أحد طرفي الحرب. وعلق "بليني" على هذا الاكتشاف بقوله: "تنشب الحروب لأن النزاعات الداخلية تغير ميزان القوى بين الدول، ويترتب على الصراع الداخلي في بعض البلدان هبوطا في هامش القوة لديها، ما يغري البلدان الأخرى على الضرب في الوقت المناسب. ويمكن وصف هذه الحالة بأنها نظرية الحرب التي تتبع مبدأ اركلهم عندما يكونون طرحى على الأرض".
في الواقع تعرضت الحكومة السورية الجديدة التي تصدت لمهمة إنعاش بلد مزقته الحرب وأرهقت كاهله لحروب داخلية وخارجية اتباعا لمبدأ: "اركلهم وهم طرحى". بمعنى أنها انخرطت في صراع مركب شديد التعقيد، إذ من المفترض أن أي حكومة تعاني من صراعات داخلية أن تبحث عن السلام والمهادنة مع القوى الخارجية لكي تركز الانتباه والموارد لمهاجمة العصاة في الداخل، ولكن الاحتلال الإسرائيلي المدفوع بهواجس الأمن المبالغ بها؛ لم يقتنع بخطاب الحكومة السورية المطمئن إلى حد بعيد، وفضل استغلال الفرصة التي اعتبرها مناسبة لتحصيل مكاسب قد لا تكون متاحة فيما لو استعادت الدولة السورية عافيتها.
تحالفات إجبارية
في مجمل الأحوال؛ سجل بعض الباحثين ملاحظة ذات صلة، إذ في كثير من الأحيان تتحول الحروب الداخلية إلى حروب دولية، فغالبا ما تلجأ الجماعات المتمردة لبناء روابط قوية مع حكومات أجنبية لمساعدتها في الصمود. كما أن الحكومات ذاتها تقيم روابط قوية مع قوى أجنبية لمساعدتها في إخماد نيران التمردات الداخلية. وثمة وفرة من الأمثلة لحروب وصراعات داخلية تحولت لحروب دولية: فيتنام والسلفادور وتشاد وأفغانستان وغيرها. وهكذا يمكن القول بأن الحروب والصراعات الداخلية تكشف عن الميل للتحول لحروب خارجية في بعض الأحيان.
بالطبع هناك من تنبأ بنشوب حرب إقليمية نتيجة للاعتداءات المتكررة، أو الحرب من طرف واحد التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي، ولكن هذا ليس موضع البحث، وإنما الفكرة الرئيسة لهذا المقال تتمحور حول تصوير حساسية البيئة التي تعمل فيها الحكومة السورية، والإضاءة على المخاطر التي تحيق بها نتيجة لضغوط البيئتين الداخلية والخارجية. صحيح أن الحكومة تتلقى من البيئتين الداخلية والخارجية دعما يفوق حجم الضغوط، إلا أن تعقيدات المشهد والتداخل بين القوى الداعمة والقوى الضاغطة يجعل الهواجس متنامية، ويدفع الحكومة لبناء تحالفات مع بعض القوى تختلف شكلا ومضمونا عن التحالفات التي يمكن أن تبنيها في حالة الاستقرار.
يقول وزير خارجية أميركا السابق "جورج بول": "الأحداث الجارية هي التي ترسم السياسات". وبالنسبة للحكومة السورية الجديدة مهما كانت تفضيلاتها ونوازعها يبدو أنها لا تمتلك هامشا واسعا من الحرية في صياغة سياساتها سواء الداخلية أم الخارجية. وبناء عليه يمكننا أن نتساءل: ما الذي بقي مما كان يخطر في مخيلة صناع القرار السوري مع الأيام الأولى لاستلام الحكم؟ ماذا بقي من مخططات وأفكار؟ هل بقيت الخطوط العرضة وضاعت التفاصيل؟ هل تساقطت كل الأفكار والتخيلات الأولية؟ إن الإجابة عن هذه التساؤلات تؤدي إلى نتيجة واحدة: لا تحكم الدول وتصنع فيها القرارات بالبساطة التي يتخيلها البعض، فالرأفة بحكومة فتية مازالت طرية العود.