الرئيسة \  تقارير  \  لماذا تهتم الصين بتحويل الصحفيين إلى جواسيس!؟

لماذا تهتم الصين بتحويل الصحفيين إلى جواسيس!؟

02.05.2023
عادل صبري

لماذا تهتم الصين بتحويل الصحفيين إلى جواسيس!؟
عادل صبري
الجزيرة مباشر
 الاثنين 1/5/2023
أخيرا، أفصحت السلطات الصينية عن مكان احتجاز الصحفي دونغ يو يو Dong Yu Yu المحرر الدبلوماسي بجريدة “قوانغ مينغ ديلي” Guang Ming Daily المُخفى قسرا منذ القبض عليه، يوم 21 فبراير/شباط 2022، أثناء مقابلة له مع دبلوماسي ياباني بمطعم أحد الفنادق بوسط العاصمة بيجين.
اكتفت السلطات بإخطار عائلة دونغ، الأسبوع الماضي، بأنه متهم بالجاسوسية، دون أن تحدد لأي دولة عمل لحسابها، لا سيّما أنها أفرجت عن الدبلوماسي الياباني، بعد ساعات من القبض عليهما في أثناء المقابلة، بينما ظل الصحفي مُخفى قسرا لمدة 6 أشهر، ظهر بعدها بأروقة محاكم الأمن القومي، دون أن تتمكن عائلته من التواصل معه أو الاطلاع على أوراق القضية.
عائلة الصحفي حائرة في أسباب استهداف رجل يبلغ 61 عاما، لم تكن له علاقة مشبوهة مع أي جهة أجنبية، وتأتي مقابلته مع الدبلوماسي الياباني، جزءا من طبيعة وظيفته، وأن ما كان ينشره من موضوعات، سمحت بها الحكومة لسنوات، في إطار النقاش العام، مع دأبه على دعم سيادة القانون والسلطة القضائية.
الصدمة
صدمة العائلة لم تكن الدافع وراء اهتمامنا بتهمة تسجن المرء 10 سنوات على الأقل، وقد بدأ مجلس نواب الشعب (البرلمان)، الأربعاء الماضي، مناقشة قانون يوسع “تعريف معنى التجسس”، تثير المخاوف من حملة قمع مشددة على الأفراد والشركات الأجنبية، بل لأن الرجل زميل مهنة، تقابلنا معه مصادفة، في مؤتمر دولي بجامعة بيجين عام 2013. قدم زملاء دونغ للحضور بفخر، على أنه صحفي ليبرالي، تخرّج في كلية الحقوق العريقة بالجامعة، التي تعتز النخبة الصينية بأنها قِبلة السياسيين والمفكرين العظام.
اشتهر بكتاباته اللاذعة، عقب التحاقه بالصحيفة عام 1987، مع فترة انفتاح سياسي امتدت لعقدين، حتى فاز بجائزة جمعية الصحفيين لعموم الصين عام 2012، التي تضم 55 ألف صحفي وناشر، ويديرها الحزب الشيوعي.
نال دونغ الجائزة عن تقارير تحث الحكومة على تقديم المزيد من القروض للطلاب الفقراء، وأتبعها بمقالات عن اهتمام الحكومة المفرط بالنمو الاقتصادي، وتجاهل التلوث ومشكلات العمال.
اعتاد زملاء دونغ بالجمعية، ممن التقينا بهم مرارا في بيجين والقاهرة، التباهي بهذا النموذج القادر على نقد الحكومة، بصحيفة يصدرها الحزب الحاكم، ويعلقها على أبواب مقاره والمكاتب الحكومية، وتوزع أكثر من 5 ملايين نسخة يوميا، بوصفها الوجبة الثقافية الدسمة التي تنقل الآراء المؤيدة والمعارضة داخل الحزب لجميع المواطنين.
بداية الغضب
بدأ التضييق على دونغ عقب تولي شي جين بينغ السلطة عام 2013، عندما وجّه الصحفي انتقادات إلى الثورة الثقافية التي قادها ماو تسي تونغ، وتسبب في إراقة الدماء لملايين الأبرياء. طالب دونغ الحزب بأن يتحمل مسؤولياته عن الأشخاص الذين يمثلونه، ولا يكتفي فقط بتقسيم أعضائه ما بين “أشرار” و”أخيار” للتهرب من مسؤوليته التاريخية، في حال ارتكاب أحدهم أخطاء سياسية.
اشتد التضييق عندما وصف أفكار الرئيس التي طرحها في كتابه عن الرخاء والاشتراكية، وأصبحت مقررة على طلاب المدارس والجامعات بأنها “معادية للاشتراكية”، فوضعوه في دائرة المغضوب عليهم عام 2017، مع تركه يكتب باسم مستعار حتى 2018.
قضى شي جين بينغ على أي آراء مخالفة لوجهة نظره، ومع ذلك لم يدُر بخلدنا أن يصل العداء إلى اتهام صحفي تربّي تحت عباءة الحزب الشيوعي وداخل مؤسسات السلطة بـ”الجاسوسية”، لحساب دولة يكنّ لها عموم الشعب الصيني عداء تاريخيا، لدورها المخزي في اغتصاب النساء وقتل الملايين، خلال احتلالها البلاد عام 1939، وأثناء الحرب العالمية الثانية، بل إن الحزب الذي كان يدفعه إلى التعرف على الصحفيين الأجانب، ويفخر بكونه قادرا على الكتابة بالإنجليزية في جريدة عالمية مثل نيويورك تايمز، وحصوله على زمالة صحفية من جامعة هارفارد عام 2006، وأن يصبح أستاذا زائرا بجامعة هوكايدو اليابانية عام 2014، يَعُد الآن تلك المميزات دليل إدانة، ليضعه في قائمة الخونة، ممن يتصلون بالدبلوماسيين والصحفيين الأجانب.
صناعة الجواسيس
المدهش أن التهمة مارسها الحزب الشيوعي معنا بطريقة معاكسة في التوقيت ذاته، عندما كان يدعونا من خلال مكتبه بسفارة الصين في القاهرة، مع عشرات المصريين ومئات آخرين من الدول العربية وأفريقيا، إلى زيارات دورية للتعرف بمسؤوليه في بيجين، والتجول أو العمل بالمؤسسات الإعلامية والجامعات.
كنت أحد الصحفيين الذين حصلوا على منحة زمالة بجامعة نانكاي في تيانجين عام 2014، ومحاضرا زائرا بجامعة بيجين لعامين. اختارنا مسؤولوه للعمل كاتبا ومستشارا بمؤسسة CPGN “دار الصين للنشر باللغات الأجنبية” لسنوات، بالإضافة إلى تولّي منصب المدير الإقليمي بالشرق الأوسط لمؤسسة GBTIMES.COM، المملوكة لتلفزيون وراديو الصين الدولي.
اعتاد المسؤولون الصينيون أن يطلبوا من الصحفيين الأجانب كتابة “تقرير حالة” عن قضية يختارونها، وعندما لاحظنا أنها لا تُنشر، قالوا: تُرفع إلى قادة الحزب الشيوعي، لتطلعهم على آراء النخبة حول القضايا العالمية! مع تبرّمنا من ذلك، سمحوا بنشر بعضها كآراء بموضوعات في الصحيفة نفسها التي يعمل بها دونغ يو يو باللغة الصينية وغيرها.
صحفيون لا جواسيس
مع تطور الأوضاع السياسية في مصر، بعد 30 يونيو/حزيران 2013، أصبح الصينيون أكثر نهما للمعلومات، وتطورت مطالبهم كي نساعدهم لمقابلة كبار المسؤولين، وشيئا فشيئا زادت إلى طلب تقارير أسبوعية عن الجماعات الإرهابية والمسلحة في سيناء، وموضوعات أخرى ساخنة. لم يدُر بخلدهم أن خبرتنا الطويلة، وعشقنا لبلدنا الطيّب أهله، لن تمنحهم فرصة تحويلنا إلى جواسيس على طريقتهم.
عندما تخطوا الحدود الحمراء، أبلغنا هيئة الأمن القومي بمآربهم، وتسلموا ما أعطونا من أموال وأجهزة حساسة تمكنهم من مراقبة ونقل كل ما نفعله على مدار الساعة مباشرة إلى مقارهم الأمنية في بيجين.
لم يفهموا أن الصحفي الحر الذي يعارض السلطة، في حقيقة الأمر هو عاشق لبلده، وينتقد لأنه يتمنى لوطنه الكمال. أصابتهم الصاعقة، لوقوعهم في يد الأجهزة السيادية متلبسين بجرم خطير، أوقع آخرين في شركهم، ومنهم من أحيل مؤخرا إلى القضاء.
رضي الصينيون أن يحوّلوا صحفيين أجانب إلى جواسيس، ويدفعون ببعض أفرادهم للعمل كصحفيين، لاعتقادهم أن الصحفي ضابط مخابرات يعمل في العلن، وليس صاحب مهنة لها قدسيتها. يكافئون من يرضون عنه بنقله إلى السلك الدبلوماسي أو قيادة الحزب الحاكم، بينما المغضوب عليهم يلقون بهم في السجون.
المصدر : الجزيرة مباشر