الرئيسة \  تقارير  \  لبنان وسوريا.. التخلّص من إرث الأسد مصلحة مشتركة

لبنان وسوريا.. التخلّص من إرث الأسد مصلحة مشتركة

31.08.2025
جاد يتيم



لبنان وسوريا.. التخلّص من إرث الأسد مصلحة مشتركة
جاد يتيم
سوريا تي في
السبت 30/8/2025
في كل مرة أريد الكتابة أو التفكير في العلاقة بين لبنان وسوريا، يحضرني عنوان كتاب الباحثة الفرنسية إليزابيث بيكار: "لبنان وسوريا، الغريبان الحميمان" (تعريب "دار الفارابي").
وكيف لا، وهو من شبه المستحيل تقريباً التفكير في تاريخ وتطور لبنان الحديث من دون أن تحضر سوريا بقوة، كشعب ونظام حكم، وتاريخ طويل مشترك من النضال ضد الاحتلال الأجنبي، ومن ثم الصراع اللبناني الطويل ضد هيمنة واحتلال نظام الأسدين في لبنان. ولعلّ ممارسات النظام الأسدي الساقط هي الأشد كثافة ووقعاً في الذاكرة الجمعية اللبنانية والسورية في آن. فالشعار البعثي "شعب واحد في بلدين"، الذي أطلقه الديكتاتور حافظ الأسد، لم يعكس أبداً حميمية النضال والجغرافيا والتاريخ والتداخل العائلي بين البلدين، بقدر ما عنى فعلياً وضع الشعبين تحت حكم نظام قمعي واحد، يحكمه جهاز أمني–مافيوزي أساسه في دمشق ويتبعه ذيل لبناني كرّس كل سياسات الاحتلال وخططه الأمنية التي فتكت باللبنانيين اعتقالاً وتغييباً قسرياً واغتيالات لم توفّر طائفة أو جماعة لبنانية. وهذا كان استنساخاً، أو بالأدق عيّنة مما فعله النظام السفّاح بسوريا وشعبها.
من المفترض أن يسبق زيارة وفد سوري عالي المستوى إلى بيروت، بمثابة إشارة انطلاق لمعالجة الملفات الموروثة من النظام السابق، بروحية إيجابية يجب أن تعكس وقفة اللبنانيين بغالبيتهم إلى جانب سوريا وأحرارها وأهلها في سعيهم للحرية والكرامة.
لذا لم يكن ممكناً ألّا تغمرنا الثورة السورية، كلبنانيين، بالحلم الذي طال انتظاره، لا بل توقّعناه قريباً بعد إنهاء احتلال جيش النظام السوري في العام ٢٠٠٥. لكن، وبعد سنوات من أبشع ممارسات القتل الممنهج بصواريخ سكود والبراميل المتفجرة والكيماوي والمجازر المتنقلة والتجويع والتغييب والاعتقال من قبل نظام السفّاح بشار الأسد وحلفائه وعلى رأسهم إيران وذراعها في لبنان "حزب الله"، سقط النظام وتحررت سوريا في الثامن من كانون الأول/ديسمبر ٢٠٢٤، على بُعد أيام فقط من انتهاء ما نأمل أنه آخر الحروب في لبنان.
في أيام قليلة تغيّر المشهد في البلدين. فقد حوصر البطش الإيراني وفقد قبضته وسطوته، لتنتقل سوريا إلى عهد جديد بكل ما للكلمة من معنى، ويصل إلى الحكم في لبنان من يعبّر عن مطالب ثورتي ١٤ آذار و١٧ تشرين مجتمعين، مع خطاب وممارسة واضحة لاستعادة سيادة الدولة في كل المجالات، وعلى رأسها قرار الحرب والسلم. والمعني الأول هنا هو "حزب الله" ومشغّله الإيراني، وهما العدوان اللدودان للنظام الناشئ عن الثورة السورية.
من هذا المنطلق لم يكن مفهوماً استمرار حال البرود بين النظامين الجديدين في البلدين، وهما يسعيان لأهداف متشابهة ويواجهان مخاطر متشابهة على حد سواء. لا يعني ذلك أنّ العلاقات كانت سيئة، بل إنّه كانت هناك مبادرة لبنانية للتواصل على المستوى السياسي تمثّلت بزيارة رئيسَي حكومة، من دون أي مبادرة مشابهة من الجانب السوري، وإن كان التنسيق الأمني لم يتوقف، خصوصاً بالنسبة للأمن الحدودي.
ومن هنا يكتسب كلام الرئيس السوري أحمد الشرع أمام وفد من الإعلاميين السوريين والعرب، عن العلاقات اللبنانية–السورية، أهمية بالغة، بخاصة أنه لفت إلى أنها يجب أن تقوم على علاقات ندية ضمن الأطر الرسمية، وأنّ سوريا الجديدة فرصة للبنان، بالإضافة إلى إعلانه عدم السعي للانتقام من إيغال حزب الله في الدم السوري إلى جانب النظام. وهي النوايا التي أكّد عليها الموفد الأميركي للبنان وسوريا، توم براك، خلال زيارته لبيروت اليوم. ويشكّل هذا التصريح، الذي من المفترض أن يسبق زيارة وفد سوري عالي المستوى إلى بيروت، بمثابة إشارة انطلاق لمعالجة الملفات الموروثة من النظام السابق، بروحية إيجابية يجب أن تعكس وقفة اللبنانيين بغالبيتهم إلى جانب سوريا وأحرارها وأهلها في سعيهم للحرية والكرامة، لا اختزال ذلك بانتهاكات "حزب الله" بحق السوريين أولاً، واللبنانيين كذلك.
ولعلّ أبرز الملفات الملحّة في هذا الإطار هي التالية:
١- الأمن والحدود: التعاون متقدّم في هذا المجال، لكنه يحتاج إلى المزيد نظراً لأن محاولات التهريب المنظّم للسلاح من سوريا إلى لبنان وبالعكس ما تزال قائمة، وإن كانت تواجه إجراءات حازمة من قبل البلدين. ويأتي في هذا الإطار الجهد السعودي لترسيم الحدود بين البلدين، وهو أمر يوليه الأميركيون أهمية بالغة لدرجة إدراجه ضمن خارطة الطريق الأميركية لتثبيت وقف إطلاق النار وتسليم سلاح حزب الله وانسحاب الاحتلال الإسرائيلي. يشكّل هذا الملف امتحاناً جدياً للقوى الأمنية في البلدين من الناحية الأمنية ولتثبيت الاستقرار السياسي كذلك. كما أن التقدم في ترسيم الحدود ينهي ملفاً تاريخياً عالقاً من جهة، ويساعد في ضبط الحدود ومنع التهجير على جانبيها بسبب عدم الاستقرار. علماً أنه، وبسبب طول الحدود وتضاريسها، فليس من الممكن إنهاء ظاهرة التهريب تماماً، لكن بالتأكيد يمكن خفض تأثيرها ومنعها من أن تكون عمليات تهريب منظّمة في خدمة مشاريع أو مجموعات تهدف إلى زعزعة الاستقرار.
لا يمكن تصور حلّ كل الملفات العالقة بسهولة وبوقت قصير، لكن الأساس أن لا نرث أحقاداً وتبعات الإجرام الممنهج بحق الشعبين، الذي عمل نظام الأسد على مأسسته.
٢- الموقوفون والمحكومون السوريون في السجون اللبنانية: يشكّل هذا الملف نقطة ساخنة في العلاقات الحالية ويُعدّ جرحاً نازفاً يجب معالجته، مع العلم أن النظر إلى الأمر على أنه مظلمة سورية فقط يؤدي إلى الاحتقان، وهو يجافي الواقع. فالحقيقة أنّ مئات الموقوفين السوريين واللبنانيين أمضوا في التوقيف سنوات طوالاً فاقت أحياناً أحكام سجنهم، وذلك يتطلب الإسراع بالمحاكمات، وهو أمر لطالما بقي وعوداً من دون تنفيذ. لكن الغالبية من السوريين تم توقيفهم لأسباب إدارية تتعلق بالأوراق أو الإقامة، وأحياناً سُجّلت حالات تعذيب لأسباب كيدية سياسية تتعلق بمواقفهم المناهضة لنظام الأسد، وهو أمر لا يمكن أن يستمر مع سقوط النظام. أمّا بالنسبة للمحكومين، فهذا أمر آخر ويستدعي مذكرة تفاهم قضائية يبدو أن وزير العدل اللبناني عادل نصار في صدد إنجازها. التعامل مع هذا الملف بإنسانية وروحية مختلفة قائمة على فتح صفحة جديدة بين البلدين، يمكن أن يزيل أي محاولات لزرع الاحتقان بينهما.
٣- اللاجئون: يشكّل هذا الملف أمراً بالغ الحساسية للبنان، سواء لناحية العبء الاقتصادي، أو لناحية الحساسية الطائفية والديموغرافية بالنسبة لبعض الجماعات اللبنانية، بالإضافة إلى خوف أمني مشترك لدى الجميع من احتمال خلق خلايا مقاتلة نائمة ضمن هذه التجمعات للعمل داخل الأراضي اللبنانية، بهدف زعزعة مشروع بناء الدولة في البلدين. لكن، مع هذا العدد الهائل من اللاجئين السوريين مقارنة بعدد سكان لبنان، يمكن القول إن استيعاب اللجوء كان آمناً مقارنة بما حصل في العديد من بلدان اللجوء الأخرى، فاللبنانيون "فتحوا قلوبهم قبل بيوتهم"، كما وصفت الأمر لي مرّة، المفوضة السابقة لمفوضية شؤون اللاجئين في لبنان، نينت كيلي. تقود الأمم المتحدة جهود إعادة اللاجئين بالتعاون مع الحكومة اللبنانية، بطريقة طوعية وآمنة، لكن لا نرى حماساً ظاهراً من الجانب السوري لهذا الموضوع، من دون أن يعني ذلك أي عرقلة. وعودة هؤلاء، برأيي، حاجة سورية للنهوض بالبلاد قبل أن تكون مطلباً لبنانياً.
٤- أموال المودعين السوريين في لبنان: قد يكون هذا الملف الأكثر تعقيداً، خصوصاً أنه مظلمة مشتركة للمودعين السوريين واللبنانيين على حد سواء. لكن، نظراً للتعقيدات التي كان يواجهها السوري في فتح حساب مصرفي في لبنان، فإن عدداً لا يُستهان به من المودعين السوريين في لبنان كانوا من رجال الأعمال المرتبطين بالنظام السابق وربما على قوائم العقوبات. وفي هذه الحالة، لا يكفي حل مشكلة الودائع التي ترفض المصارف اللبنانية الاعتراف بها حتى الآن، بل إن الأمر قد يتعلق بشخصيات هناك شكوك حول مصدر ودائعها وبكونها جزءاً من عمليات غسل أموال ضخمة. وهذا أمر متروك للخزانة الأميركية.
لا يمكن تصور حلّ كل الملفات العالقة بسهولة وبوقت قصير، لكن الأساس أن لا نرث أحقاداً وتبعات الإجرام الممنهج بحق الشعبين، الذي عمل نظام الأسد على مأسسته. إنّ كل تسريع في عودة لبنان وسوريا جارين طبيعيين، بما تمليه ذاكرة الجغرافيا والتاريخ، هو مسمار إضافي في نعش النظام السابق وحلفائه.