الرئيسة \
تقارير \ كيف أصبحت القارة الأفريقية في صلب نشاط الحركات الجهادية؟
كيف أصبحت القارة الأفريقية في صلب نشاط الحركات الجهادية؟
04.05.2023
وسيم نصر
كيف أصبحت القارة الأفريقية في صلب نشاط الحركات الجهادية؟
وسيم نصر* – (أوريان 21) 21 آذار (مارس) 2023
الغد الاردنية
الأربعاء 3/5/2023
سعت “داعش” قبل خمس سنوات من أن تخسر الأراضي التي كانت تسيطر عليها بين سورية والعراق، إلى إيجاد موطئ قدم لها في إفريقيا. فالقارة السمراء لم تكن أبدا ساحة جانبية للحركات الجهادية. فإلى الصومال عاد أول الجهاديين العائدين من أفغانستان في منتصف التسعينيات، وفي نيروبي ودار السلام قامت القاعدة بأولى عملياتها ضد المصالح الأميركية عبر تفجير السفارتين العام 1998. وتعد شعوب القارة اليوم في صلب تجديد نبض وزخم العمل الجهادي عالميا.
* *
وعلى العالم لوجود جماعة “داعش” في خضم الحرب التي عصفت وما تزال تعصف بالعراق وسورية، خصوصاً بعدما أعلنت الجماعة قيام خلافتها صيف العام 2014 من الحدود بين البلدين، في إصدار أسموه “كسر الحدود”، تصويراً واقتناعاً منهم أنهم بذلك يصححون ما اقترفته اتفاقية “سايكس-بيكو” بين فرنسا وبريطانيا، والتي تقاسمت بفضلها الإمبراطوريتان المشرق العربي.
خلال ذلك الصيف، كان الجهاديون يسيطرون على منطقة بمساحة بريطانيا بين سورية والعراق، ويعيش تحت سلطانهم حوالي ثمانية ملايين نسمة، وكانت الراية السوداء ترفرف على مدن مشرقية ذات تاريخ عريق. وخلال ذلك الصيف أيضا، كانت دول العالم تعد العدة لكبح جماح “داعش”، فنشأ تحالفان؛ أحدهما غربي بقيادة أميركية، وثانيهما إيراني قبل أن تدخل روسيا على خط المواجهة بعد أشهر قليلة. ومع هذا الحشد العلني، كان الأكثر منطقية أن تركز الجماعة كل قدراتها لحماية سلطانها، إلا أنها لم تتردد بالتخطيط لأمور أخرى. وكما توسعت من العراق نحو سورية العام 2012، سيكون 2014 عام التوسع إلى خارج المشرق، وتحديداً إلى أفريقيا. فتم إنشاء “مكتب الولايات البعيدة” مع استراتيجية أفريقية بل عالمية، بدفع من أبي بكر البغدادي، أمير الجماعة والمسؤول عن توسعها خارج العراق.
سيرت، البداية والنهاية
كما كان أول الجهاديين الواصلين إلى سورية العام 2012 ليبيين، كان أول موطئ قدم للدولة الإسلامية في عدد من المدن الليبية منذ بدايات العام 2014. اجتمع معظم الجهاديين الليبيين فيما كان يُعرف بـ”كتيبة البتار” التي كان لها نوع من الاستقلالية العملانية والإعلامية. وشارك مقاتلوها في عدد من أهم المعارك في سورية والعراق من دير الزور إلى بيجي. واجتمع في صفوف الكتيبة المذكورة أغلب الواصلين إلى سورية الناطقين باللغة الفرنسية من الفرنسيين والبلجيكيين، وعلى رأسهم عبد الحميد أبا عود الذي قاد المجموعة التي قامت بهجمات باريس في الثالث عشر من تشرين الثاني (نوفمبر) 2015.
في شهر تموز (يوليو) 2014، تم اغتيال أمير الكتيبة المذكورة، المهدي أبو الأبيض، في درنة، إلا أنه وبعد ثلاثة أشهر أنشأت الجماعة محكمة إسلامية ومكتب شكاوى في المدينة. لكن وبعد حوالي عام، تم طردها من قبل “مجلس شورى المجاهدين”، وهو فصيل عسكري مقرب من تنظيم القاعدة، ما تم تهنئته عليه، بموقف علني نادر في تلك الفترة، من قبل تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي.
في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) 2014، بينما كان “التحالف الدولي” قد بدأ بعملياته في العراق وسورية، قرر أبو بكر البغدادي أن يرسل إحدى أهم وأقرب قياداته إلى ليبيا بعد ما رآه من تقصير من قبل المجموعة الأولى التي وصلت إلى درنة. أبو نبيل الأنباري -واسمه الحقيقي وسام الزبيدي- كان قائدا عسكريا وواليا على منطقة صلاح الدين العراقية. قاد بنفسه مجزرة “سبايكر” في تكريت، والهجوم على مدينة سامراء الذي استُخدم كمقدمة لهجوم الجماعة على الموصل. قُتل الأنباري -أو أبو المغيرة القحطاني بكنيته الليبية- جنوب درنة بقصف مسيّرة أميركية في ليلة الثالث عشر من تشرين الثاني (نوفمبر) 2015؛ أي الليلة نفسها التي شهدت على العمليات الإرهابية التي قادها عبد الحميد أبا عود في شوارع باريس. ولا نعرف إن كان للحدثين علاقة فيما بينهما.
سيطرت “داعش” على مدينة سيرت من حزيران (يونيو) إلى كانون الأول (ديسمبر) 2015، وبالرغم من مقتل الأنباري، استمرت حركة الجماعة في ليبيا، وقامت بالهجوم على مدينة بن غردان في تونس في السابع من آذار (مارس) 2016، كما حضّرت انطلاقا من الأراضي الليبية لعملية مانشستر الإرهابية في بريطانيا في 22 أيار (مايو) 2017.
نجد أيضاً في ليبيا شخصية أخرى كان لها وقع مهم داخل وخارج الجماعة بالرغم من كونها مجهولة من قبل عامة الناس، وهي تركي البنعلي. زار هذا البحريني مدينة سيرت العام 2013، ولم يكن له باع جهادي وقتالي يُذكر مقارنة بأبي نبيل، إلا أنه كان لديه شهادات عدة في الدراسات الإسلامية، أبرزها من مؤسسة الإمام الأوزاعي في بيروت. وكان البنعلي من تلامذة الشيخ أبو محمد المقدسي، الذي تتلمذ على يديه أبو مصعب الزرقاوي الذي مهد لنشأة “داعش”، علماً أن المقدسي يعد حتى اليوم من أهم “أئمة الجهاد المعاصر” ومن أكثرهم نفوذاً. وللمفارقة، فقد أصبح الرجل اليوم من أكثر الأئمة معارضة للجماعة وممارساتها.
إلا أن فكر وفقْه البنعلي وجد له معارضة داخل الجماعة التي عرفت هزات ونقاشات إيديولوجية وفقهية عدة على مر السنين، بسبب تشدد ما يعرف بالحازميين في صفوف قياداتها. قُتل البنعلي بقصف أميركي على مدينة الميادين السورية في 31 أيار (مايو) 2017، وقد شهدت تلك الفترة عمليات مد وجزر داخل القيادة، أدت إلى اعتقالات وإعدامات وترك للصفوف.
مبايعة الشكوي
كانت للتوترات العقائدية في المشرق ما يعادلها في منطقة بحيرة التشاد؛ حيث كانت بدأت بوادر تمكين تواجد “داعش” في إفريقيا، بينما كانت أنظار العالم كله متجهة نحو العراق وسورية. فما حصل خلال بيعة “جماعة أهل السنة للدعوة والجهاد”، المعروفة إعلاميا كـ”بوكو حرام”، يعد من أبرز الأمثلة لتشخيص البيعات التالية في القارة السمراء.
بدأت الأمور عندما عبر أبو بكر الشكوي، الذي كان على رأس الجماعة، عن رغبته في مبايعة أبي بكر البغدادي و”داعش”. وهي رغبة تلقاها البغدادي وقيادته بكثير من الحذر، بسبب شخصية الشكوي وسابقة تقربه مع تنظيم القاعدة التي باءت بالفشل. تم قبول مبايعته في آخر المطاف، وأصبحت بذلك جماعة الشكوي ثاني جماعة تبايع عدة وعتاداً بعد جماعة “أنصار بيت المقدس” العاملة في سيناء. وكان لنا تواصل مع أحد رجال الدين الذين كانوا يسهلون ذلك التقارب، فصرح لنا أبو مالك بأنه “كان للدولة الإسلامية دفتر شروط لقبول البيعة، وأهمها التوقف عن خطف الأطفال من الطوائف الأخرى، وعدم ظهور الشكوي إعلاميا، وتعيين ناطق رسمي، كما فرضت الجماعة أن يمر أي منشور إعلامي بجهاز الإعلام المركزي”.
تم احترام تلك الشروط لفترة من الزمن، فضلاً عن الدعم عن بعد من ناحية تفعيل التكتيكات العسكرية والقدرات الإدارية وبعض الدعم المادي، ما أدى إلى تمكين الجماعة على الأرض. إلا أن الشكوي لم يتمكن من الالتزام بكل تلك الشروط لمدة طويلة، وعاد إلى ما كان عليه من منهج وتصرفات، إلى أن وصل به الأمر إلى اغتيال عدد من قياداته التي أبدت تحفظات على أدائه، وكذلك إمام مسجد، خلال صلاة عيد الأضحى. وإذا بأبي مالك، سالف الذكر، أن عاد إلينا بتسجيلات خاصة بصوت الشكوي “تبرهن عن غلوّه”، ليبرر قرار البغدادي تنحيته من القيادة في 2016، في مرحلة كانت فيها الجماعة الأم تُرمى بالغلو بسبب ممارساتها. وجد الشكوي بلا ملاذ بعد أن تمت محاصرته في غابة سامبيسا في 19 أيار (مايو) 2021، فقام بتفجير حزامه الناسف، آخذا معه عددا من رفاق الأمس. لكن ما تزال جماعته موجودة حتى يومنا هذا.
لم تعرقل هذه الحرب الداخلية توسع ما بات يُعرف بـ”ولاية غرب أفريقيا”، التي أصبحت من أهم ولايات “داعش” من حيث رقعة الأرض التي تسيطر عليها وبوادر المؤسسات الإدارية التي ظهرت فيها. كما توسعت رقعة عملياتها نحو وسط نيجيريا، إن كانت عمليات عسكرية أو التفجيرات التي تستهدف المسيحيين والمراكز الحكومية، والتي وصلت مؤخرا إلى كوجي مع محاولة اغتيال فاشلة للرئيس السابق للبلاد في أوكيني في 29 كانون الأول (ديسمبر) 2022 عبر تفجير سيارة مفخخة.
تُعدّل “داعش” استراتيجيتها وفق الأرضية التي تنوي التجذر فيها. إذ لم تتم تسمية ولايتها الساحلية مثلاً بـ”ولاية الساحل” إلا بعد مقتل مؤسسها أبي الوليد الصحراوي على يد القوات الفرنسية في 17 آب (أغسطس) 2021. ذلك لأن القيادة كانت ما تزال تعتبره مقرباً من قيادات القاعدة، وكان البغدادي يخشى تكرار الخطأ الذي حصل في سورية مع أبي محمد الجولاني. فبعد أن دخل الأخير سورية العام 2012 وكان مبعوثاً من قبل البغدادي، بايع الظواهري أمير القاعدة العام 2013، ثم ما لبث أن فك ارتباطه بالقاعدة ليؤسس “هيئة تحرير الشام”، مبتعداً عن الجهاد العالمي، ليقاتل القاعدة وداعش في مناطق سيطرته شمال غرب سورية، ساعياً في الوقت نفسه للتقرب من المجتمع الدولي.
بقيت مبايعة الصحراوي قرابة السنة دون قبول رسمي، وذلك حتى شهر تشرين الأول (أكتوبر) 2016. ولم يتم نشر الصورة الأولى التي تُظهر وجود الجماعة في المنطقة قبل 2019 وكانت من بوركينا فاسو. وكان 2019 عاماً مفصلياً من حيث عدد المواجهات، التي أودت بحياة عشرات الجنود في صفوف الجيش المالي وأربعة عشر عسكريا فرنسيا في شهر تشرين الثاني (نوفمبر). كما تم تبني الهجمات التي وقعت في النيجر وبوركينا فاسو من قبل “ولاية غرب أفريقيا”. وقبل تلك الفترة، لم تُسفر أي عملية عن تبنٍّ رسمي، حتى عملية تونغو تونغو التي جرت في تشرين الأول (أكتوبر) 2017، والتي أدت إلى مقتل أربعة عسكريين من النيجر وأربعة من القوات الخاصة الأميركية. بل لم يأت التبني سوى العام 2020، حيث ذُكرت العملية في أول إصدار للجماعة من منطقة الساحل -ولم يكن الأخير.
فعلاً، كرس هذا الإصدار في محتواه وخاتمته الشرخ القائم مع القاعدة، ونهاية ما كنا نُوصّفه بالاستثناء الساحلي. إذ كانت هذه المنطقة الوحيدة في العالم التي لم تشهد مواجهة شاملة بين الجماعتين الجهاديتين. ومنذ ذلك الحين، ازدادت المواجهات عدداً ودموية في كل من ميناكا وانسونغو، ما أدى إلى وقوع مئات القتلى في صفوف الطرفين، ودفع بعدد من السكان المحليين إلى الانضواء تحت راية هذه الجماعة أو تلك بحثاً عن الأمن والأمان.
حتى كتابة هذه السطور، لم يتمكن أي من الطرفين من التغلب على الآخر. إلا أن “داعش” زادت من رقعة عملها العسكري بشكل غير مسبوق، حتى مشارف غاو وميناكا. في تلك الأثناء، وسعت القاعدة من رقعة عملها السياسي لتطال مناطق كان نفوذها فيها ضعيفا، وهي تسعى لتصور نفسها كالمدافع الفعلي عن السكان المحليين، وخصوصاً الطوارق الذين تعرضوا لمجازر طوال العام 2022، إلا أن المعارك في ميناكا أدت إلى تراشق بالتهم حول من يساند هذا الطرف أو ذاك. كما أدى القتال بين الجماعتين في منطقة أنسونغو إلى حصول تجاوزات ضد السكان المحليين، علماً أن جل المقاتلين لدى الطرفين هم من قبائل الفلان، ما يضع القتال الجاري في خانة جديدة تتجاوز الصراعات العرقية المتجذرة في منطقة الساحل.
رداً على سؤال وجهناه لأبي عبيدة يوسف العنابي، أمير تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي، حول الصراع مع “داعش”، أجاب الأخير وبالحرف الواحد -بعد أن وصفهم بـ”الخوارج”- أنه “حالياً ليس بيننا وبينهم إلا الحرب”. ما يعني أنه يُحل قتلهم ويبرر قتالهم كواجب وكأولوية. ويعد هذا موقفاً صارماً من الصعب التراجع عنه، علماً أن “داعش” كانت سباقة في إصداراتها وإعلامها بتوصيف جماعة القاعدة بـ”المرتدين”، ما يعني أيضاً أنها سبقت بإحلال قتلهم وتبرير قتالهم.
في آخر إصدار لها من “ولاية غرب إفريقيا”، هاجمت “داعش” باللغتين الهوسا والعربية تنظيم الانتخابات في نيجيريا، وذلك قبل أيام من بدء الانتخابات الرئاسية، وانتقدت كالعادة الديمقراطية بوصفها وضعية. وبعد أيام، عاد إعلامها ليصدر صورا لجهادييها في جمهورية الكونغو الديمقراطية والموزمبيق وهم يشاهدون الإصدار عينه، كل في بلاده. حتى أن أناشيد الإصدارات ومحتواها من تلك البقاع باتت باللغات المحلية. ونلاحظ أن جريدة “النبأ” التي تصدر أسبوعياً عن الجماعة أصبحت تكرس جل أخبارها ومقالاتها لمناطق التواجد الإفريقي، أي الصومال، والموزمبيق، وجمهورية الكونغو الديمقراطية، والكاميرون، ونيجيريا، والتشاد، والنيجر، وليبيا، ومالي، وبوركينا فاسو، والبينين. علماً أن الجماعة سبق وتبنت عمليات في كل من الجزائر وتونس ومصر، وأنه تم رصد وإيقاف شبكات تمويل عدة في كينيا وجنوب أفريقيا. لكنها في الوقت نفسه لم تتمكن خارج ليبيا من السيطرة طوال أشهر عدة على مدن مأهولة، ما عدا موسيمبوا دا برايا وبالما في الموزمبيق. وعليه، فإن التجربة الأفريقية ما تزال بعيدة كل البعد عن تجربة “الخلافة” المشرقية، على كل المستويات.
لا تمثل هذه الأمثلة التي قدمناها كامل نشاط “داعش” الحالي في أفريقيا، لكن الهدف منها إظهار استراتيجية الجماعة الأفريقية -والمتمثلة في حصد ولاء المجموعات الموجودة مسبقاً- والتي تعود على الأقل إلى العام 2013. كذلك، وبالرغم من البعد الجغرافي، والخطر الأمني، والضغط العسكري الكبير، وقتل عشرات القيادات من الصفوف الأولى على مر السنين، ما يزال للجماعة الأم الكلمة الفصل في أمور ولاياتها الأفريقية، كما ما يزال الاهتمام بها قائماً، كون أفريقيا باتت في صلب نشاط حركة “داعش”، والحركات الجهادية عامة.
فالقارة السمراء لم تكن أبداً “قارب نجاة” بعد فقدان الجماعة لخلافتها المشرقية -كما يردد البعض. إنما كانت هدفاً توسعياً سبق بسنوات الخسارة والانحسار التي مُنيت بها الجماعة في العراق والشام. بل هنالك من يعد في الأوساط الجهادية أن ما يحصل في أفريقيا من تمدد للحركات الجهادية ليس إلا ترجمة لما يُعرف بـ”سنة الاستبدال” حيث “يُستبدل من تخلى عن دينه بمن هم جاهزون للدفاع عنه”.
*وسيم نصر: صحفي في قناة “فرانس 24” مختص في الحركات الجهادية.