الرئيسة \  تقارير  \  كارنيغي: هل ثمة فرصة أخرى لعملية توافقية في سوريا؟

كارنيغي: هل ثمة فرصة أخرى لعملية توافقية في سوريا؟

23.08.2025
ربى خدام الجامع



كارنيغي: هل ثمة فرصة أخرى لعملية توافقية في سوريا؟
ربى خدام الجامع
سوريا تي في
الخميس 21/8/2025
في خطوة أثارت جدلاً واسعاً داخل سوريا وخارجها، أصدر الرئيس السوري أحمد الشرع في آذار 2025 إعلاناً دستورياً لتنظيم أمور الحكم خلال المرحلة الانتقالية. وفي حين قدّم الإعلان نفسه كوثيقة تهدف إلى طمأنة السوريين وضمان الأمن والعدل والحقوق، سرعان ما ظهرت تساؤلات عميقة حول طبيعة الصلاحيات الممنوحة للرئيس، وآلية صياغة الوثيقة التي جرت بعيداً عن النقاشات العامة أو التوافق الوطني.
ومع بدء الإعلان عن رسم ملامح السياسة الجديدة في البلاد، يبرز سؤال جوهري: هل يشكل هذا الإعلان خطوة إلى الأمام نحو بناء دستور توافقي، أم أنه يفتح الباب لعودة الاستبداد بصيغة مختلفة؟ مقارنةً بنماذج انتقالية في جنوب أفريقيا ومصر، تبدو الخيارات أمام السوريين شديدة التعقيد، حيث يواجه البلد تحديات الانقسام والصدمة المجتمعية، وسط مخاوف من أن يتحول الإعلان المؤقت إلى عائق أمام عملية دستورية شاملة.
يعرض موقع تلفزيون سوريا هذا التقرير في إطار التغطية الإعلامية للملفات المتعلقة بواقع الحياة السياسية والدستورية في سوريا، مع الإشارة إلى أن ما ورد فيه يعكس رؤية المؤسسة ومصادرها، ويُقدّم كمادة تحليلية تساعد على فهم طريقة تناول الإعلام الدولي للملف السوري، من دون أن يُعد توثيقاً شاملاً لكامل المشهد أو تبنياً لاستنتاجاته.
وفيما يلي ترجمة موقع تلفزيون سوريا لهذه المادة:
في آذار من عام 2025، أصدر الرئيس السوري المؤقت أحمد الشرع إعلاناً دستورياً ينظم أمور الحكم خلال الفترة الانتقالية، وأتت الأهداف التي ألمح إليها الإعلان الدستوري واضحة، ويأتي على رأسها تطمين السوريين بأن السلطة ستحفظ الأمن والعدل، وبأن حقوقهم محفوظة، وبأن الرئيس السوري سيسير بالبلد بعيداً عن التجربة المظلمة للحكم الديكتاتوري القمعي.
في الوقت الذي رحب بعض مناصري تلك الأهداف بالإعلان الدستوري، أعرب آخرون سواء في الداخل أو من المراقبين الأجانب عن قلقهم تجاه السلطات المهمة الممنوحة للرئيس بموجب هذا الإعلان، وما أقلقهم ليس فقط نصه، بل أيضاً أسلوب صياغته، لأن من وضعه كانت لجنة صغيرة من المختصين الذين خرجوا به على عجل وبسرية، إذ لم تدر حوله نقاشات أو جدل، كما أنه لم يلمح لأدنى بوادر تشير إلى وجود عملية توافقية بالنسبة له.
بداية الحلم الدستوري الوطني.. الجمعية التأسيسية السورية (1949 – 1950)
ومنذ ذلك الحين، بدأت تلك الوثيقة المؤقتة برسم ملامح السياسة في البلد، لكنها لم تغلق الباب من دون أي مسار بديل خضع للتجريب والاختبار أو أي مسار يعرفه خبراء العالم في مجال كتابة الدساتير، أي الطريق نحو اتفاق واسع على المبادئ الدستورية ومراجعة المسودات على يد محكمة دستورية، فقد أسهم هذا المسار في تسهيل خروج دولة جنوب أفريقيا من سياسة الفصل العنصري كما بوسع ذلك أن يسهم في إدارة حالات التوتر بسوريا. وعلى المقلب الآخر: أثار هذا المسار في مصر شكوكاً كبيرة بين صفوف الإسلاميين على وجه الخصوص، وساعد على حرف العملية الدستورية المصرية عن مسارها بعد ثورة عام 2011، وقد أضحت تلك التجربة معروفة في المنطقة. ولذلك فإن نجاح هذا المسار غير مضمون بكل تأكيد، كما أنه ليس بالمسار السهل على ما يبدو، ولكن بما أن نص الإعلان الدستوري المؤقت يبيح ذلك، فالأمر يستحق البحث في هذا المسار البديل واستكشافه، ومن المرجح أن من يعملون على صياغة دستور سوريا قد وضعوا نصب أعينهم تلك الحالات التي سجلها التاريخ والأمور التي تدفع لتبني ذلك المسار.
الإعلان الدستوري السوري.. خطوة للأمام أم خطوة للخلف؟
إن من صاغوا الإعلان الدستوري الذي خرج في شهر آذار دافعوا عن عملهم بالقول بإنه مجرد وثيقة مؤقتة تعتمد بكل بساطة على دساتير سابقة لسوريا عالجت قضايا مثيرة للجدل (مثل الدين) واشتملت على إجراءات دستورية مثل انتخاب أعضاء مجلس الشعب، وذكروا بأن إدخال بعض التعديلات على أي وثيقة نهائية أمر محتم، وبأن بعض القضايا يمكن تأجيلها خلال الفترة المؤقتة بهدف منح القيادة في البلد الأدوات التي تحتاج إليها لتوجيه سوريا نحو الخروج بوثيقة تمتد لفترة أطول. وهكذا، لم يخرج الإعلان الدستوري بأي جديد في نهاية الأمر، أما الرموز الديمقراطية التي شددت عليها تلك الوثيقة فغالباً ما تستحضرها معظم الأنظمة الدستورية اللاديمقراطية في الشرق الأوسط.
ما يزال المجتمع السوري منقسماً إلى حد كبير، إذ إنه يخون بعضه بعضاً، ويشك ببعضه، ناهيك عن الصدمة التي يرزح تحت نيرها، لذا فهنالك تخوف كبير من ظهور حالة تفكك سياسي، وهذا ما تسبب بظهور رغبة عارمة ضمن بعض الدوائر تطالب بالحفاظ على النظام والقانون بشكل فوري، غير أن هذا الواقع نفسه هو الذي صعب وإلى حد كبير مسألة الخروج بعملية توافقية.
ما مستقبل سوريا بعد الإعلان الدستوري الجديد؟.. لقاء مع عبد الحميد العواك
ولهذا، فإن مزالق الإعلان الدستوري والعملية التي خرجت عنه واضحة إلى أبعد مدى، إذ بداية، إن كان هدف الإعلان منح الرئيس الأدوات التي يحتاجها، فإن الوثيقة قدمت له ذلك بحماسة بالغة، لأن هذه الأدوات قد تفلح، بيد أن ترسيخ سلطات الرئيس وجمعها كلها بيده، ومنحه سلطة كبيرة على العملية السياسية قد يتسبب باستبدال الحكم الرئاسي الديكتاتوري الذي تمت الإطاحة به بحكم رئاسي ديكتاتوري آخر.
ثانياً: قد تفشل تلك الأدوات فشلاً ذريعاً، مما قد ينفر مجموعات أساسية وينقل لها رسالة مهمة مفادها بأنهم ليس لهم أي دور في أي عملية انتقالية، وهذا ما قد يسفر عن نزاع وتفكك بدلاً من إعادة بناء النظام السياسي على أسس دستورية.
ولعل الإعلان بحد ذاته قد لا يكون أمراً واقعاً، لكنه يوفر بعض الأدوات الخفية لتصحيح العلل التي أشار المعارضون إليها. ومن أبرز السمات التي علق عليها كثيرون في تلك الوثيقة إقالة قضاة المحكمة الدستورية العليا الموجودة بالأصل، ومنح الرئيس السلطة الوحيدة المخولة بتعيين من سيحل محلهم. أي بمعنى أصح، لم يحصل الرئيس على الدستور الذي أراده فحسب، والذي أباح له تعيين ثلث أعضاء القائمين على السلطة التشريعية وتعيين لجنة لانتخاب الثلثين الباقيين، بل أيضاً منحه هذا الدستور سلطة اختيار من يحق لهم تأويل الدستور وتفسيره. وفي تجسيد لما سيحدث بعد الإعلان الدستوري، فإن أي محكمة دستورية عليا سيجري تعيين قضاتها قريباً قد تولد ميتة، لأنه لا أحد يرجح لتلك المحكمة أن تمارس نشاطها خلال الفترة الانتقالية، ولهذا قد تبقى مجمدة إلى أن يصوغ المشرعون السوريون قانوناً لتنظيم اختصاصها وسلطاتها ويصادقوا عليه، ولهذا فمن غير المستغرب ألا يحدد الإعلان الدستوري أي إطار زمني معين لهذا العمل الإطاري التشريعي، وهذا ما يبقي المحكمة الدستورية العليا تتمتع بأدوات تبقيها ضعيفة منزوعة الأنياب تماماً كما كان حال المحكمة التي سبقتها.
يمكن للرئيس المؤقت أن يستعين عوضاً عن ذلك بالسلطة الممنوحة له في مجال التعيين بطريقة مختلفة تماماً، لتتحول تلك السلطة إلى أداة لإطلاق عملية انتقالية بديلة تتمتع بالتوافقية وبوسعها استقطاب كل من لم تعجبه طبيعة الإعلان الدستوري في تركيزها السلطات بيد الرئيس أو كل من يضمر أي شك حيال ذلك. كما يمكن للرئيس إن أراد أن يشجع على قيام عملية توافق من خلالها جماعات متنوعة من السوريين قبل أي أحد آخر على قائمة قصيرة من المبادئ الدستورية العامة، وعندئذ بوسعه منح السلطات للمحكمة الدستورية العليا خلال الفترة الانتقالية لتعمل على توجيه عملية صياغة الدستور بناء على تلك المبادئ، وهذه العملية تشبه العملية التي تبنتها الفصائل في جنوب أفريقيا عند بداية العملية الانتقالية باتجاه الجمهورية الحالية لدولة جنوب أفريقيا. وبوسع الرئيس السوري المؤقت على وجه الخصوص تعيين قضاة في المحكمة الدستورية العليا تعتبرهم شرائح كثيرة يمثلون وجهات نظر متنوعة ضمن المجتمع السوري كما بوسعهم أن يتفقوا على عملية دستورية تفرض على المحكمة الدستورية العليا مراجعة أي نص دستوري مقترح لضمان توافقه مع مجموعة المبادئ المتفق عليها.
تحويل المحكمة الدستورية من مشكلة إلى حل
في حال اقتنع رئيس سوريا المؤقت بتحول المحكمة الدستورية العليا من كيان ضعيف يعبر عن تأويله هو وحده للإعلان الدستوري إلى أداة لإعادة بناء الحياة السياسية في سوريا، فهنالك مسار واضح بوسعه السير عليه:
في البداية ينبغي على القوى السياسية والاجتماعية الرائدة في سوريا أن تضع مجموعة من المبادئ، وتلك المبادئ على عموميتها لن تكون مجرد مبادئ مبنية على محاذير وطموحات، بل لابد أن تصاغ وبكل عناية لتعبر عن معانيها ولتشير إلى البنى والعمليات والأطر الزمنية اللازمة لتنفيذها على أرض الواقع. ويمكن إصدار تلك المبادئ في وثيقة (يمكن أن تأتي متممة للإعلان الدستوري أو أن تأتي على شكل مذكرة تفسيرية) بما يمنح تلك المبادئ قوة قانونية لتوجيه عملية الانتقال.
وتلك القوى الاجتماعية والسياسية الرائدة نفسها يجب أن تتفق على حكومة يعين فيها فقهاء متخصصون بالقانون يمثلون شريحة واسعة من المجتمع السوري، وهنا يتعين على الرئيس أن يستعين بسلطته التي لا يقف في وجهها شي في مجال التعيينات وذلك بطريقة تخلق حالة من الثقة لدى أهم الفرقاء وتطمئنهم بأن وجهات نظرهم ستكون مسموعة، على الرغم من أن القضاة يجب أن يكونوا مستقلين ومؤهلين بشكل احترافي لتحليل الدستور لا أن يكونوا مجرد مندوبين أو ممثلين لتوجهات عرقية أو سياسية معينة.
بعد ذلك تفوض المحكمة الدستورية العليا بمراجعة أي مسودة نص دستوري (وتطلب مشورتها من قبل عدد محدد من أعضاء أي مجلس لصياغة الدستور) وذلك لضمان توافق تلك النصوص مع المبادئ الدستورية، أما قرارتها المعنية بخرق تلك المبادئ فيجب أن تكون ملزمة لتفرض على لجنة صياغة الدستور إعادة دراسة المسألة.
الشرع
في نقد الإعلان الدستوري
من الواضح بأن المحكمة الدستورية العليا الجديدة لم تعين لتضطلع بهذا الدور، إلا أن الإعلان الدستوري الحالي أتاح للرئيس على الأقل تشكيل تلك الهيئة، وعلى الرغم من أن التاريخ الحديث للسلطة القضائية التي يهيمن عليها الجانب التنفيذي وللفقه الدستوري يتمحوران حول فرض الإرادة التنفيذية، فإن هنالك سوابق حقيقية يمكن الاستناد عليها فيما يتعلق بالطموحات الديمقراطية التي أعلن عنها السوريون والتي يرغبون بتحويلها إلى دستور عندما يتاح لهم المجال.
خلال نصف القرن الماضي، كان القضاء والمحكمة الدستورية العليا يرضخان لأهداف النظام الاستبدادي وغاياته، ولكن في التاريخ الأقدم الذي يزعم من صاغوا الإعلان الدستوري الذي خرج علينا في آذار الماضي بأنهم اعتمدوا عليه واستمدوا منه، نجد بأن الدستور كان يمنح القضاء دوراً أكثر فعالية، إذ يعود تاريخ الدستور السوري لعام 1920، أي أن هنالك تاريخ من النصوص والنقاشات التي يمكن أن تستمد منها معلومات لتقوم عليها هذه العملية التي تجري اليوم، كما أن دستور سوريا الذي صدر في عام 1950، والذي أبدى من صاغوا الإعلان الدستوري الحالي احتراماً له بشكل خاص، كان أكثر دستور توافقي عند صياغته، كما أنه كتب قبل مرحلة الحكومات الديكتاتورية وحكم الحزب الواحد، لذا لابد من إحياء هذا التقليد الدستوري لا ابتداع تقليد دستوري آخر.
 الشيخ حكمت الهجري يعلن رفض الإعلان الدستوري السوري ويطالب بتصحيح المسارات
إن فكرة مراجعة القضاء للقضايا الدستورية ليست غريبة على التقليد الدستوري السوري، إذ ابتداء من مسودة دستور عام 1920، ظهر مخطط لـ"محكمة عليا" إن لم تكن محكمة دستورية كاملة، وهذه المحكمة تتمتع بسلطة تخولها محاسبة كبار المسؤولين السياسيين، ولكن لم يتم تبني تلك المسودة بصورة كاملة على الإطلاق، كما أن البنود الخاصة بتشكيل محكمة دستورية في النصوص اللاحقة وضعت بعض القيود عموماً على الحكم الاستبدادي في سوريا، غير أن المحكمة الدستورية العليا بقيت تمثل جزءاً رسمياً من الدولة طوال عقود، إذن فالمحكمة موجودة ولديها إجراءات واضحة، والخبراء في الدستوري السوري لديهم أفكار مفصلة حول الطريقة التي يمكن من خلالها تحويل تلك المحكمو إلى محكمة يمكن أن تستمر في عملها.
"سابقة إيجابية"
ما تزال العملية الانتقالية من الفصل العنصري إلى الديمقراطية في جنوب أفريقيا إحدى الرحلات الدستورية التي حظيت بأكبر قدر من الدراسة والتمحيص والإعجاب في التاريخ المعاصر، إذ يستشهد بها في أغلب الأحوال بوصفها أنموذجاً، ليس فقط بفضل الدستور الذي تمخضت عنه، بل أيضاً بفضل العملية التي كتبت من خلالها، إذ احتلت المحكمة الدستورية قلب عملية التحول بجنوب أفريقيا، وهذه المحكمة لعبت دوراً محورياً في فرص وصاية على النظام الديمقراطي الجديد بالبلد. واستمدت المحكمة فعاليتها من التصميم المؤسساتي الدقيق الذي بنيت عليه، ومن سلطتها القضائية المتقدمة، ومن قدرتها على خلق حالة توازن ما بين النشاط على المستوى القضائي والقيود التي تخضع لها، وهذه الميزات أسهمت في تعزيز ثقة الشارع بمصداقيتها.
تعود أصول شرعية تلك المحكمة للدستور المؤقت الذي صدر في عام 1993، والذي حدد أربعة وثلاثين مبدأ دستورياً لتوجيه عملية صياغة الدستور النهائي، وكفلت تلك المبادئ إقامة نظام قانوني جديد على أساس حكم ديمقراطي، وعلى أساس حقوق الإنسان الأساسية وعلى أساس المساواة. وبذلك حدث فصل واضح ما بين تركيبة المحكمة وبين السلطة القضائية أيام الفصل العنصري. كما اختارت الأحزاب في هذا البلد القضاة الذين يتمتعون بسمعة طيبة في مجال التمسك بحقوق الإنسان والالتزام بها.
من إحدى أهم إسهامات تلك المحكمة استعدادها للخوض في قضايا اجتماعية-قانونية معقدة، والاستعانة بتأويل الدستور كأدة للتغيير المجتمعي. ومن خلال أحكامها التاريخية، ألغت تلك المحكمة عقوبة الإعدام وأبدت التزامها بالحقوق الأساسية إلى جانب استحداث دور قانوني وقضائي جديد، وعبر قراراتها التي صدرت وفقاً لبنود التحول الواردة في الدستور، لم ترسخ المحكمة الحريات الفردية فحسب، بل إنها أيضاً أسهمت في إعادة صياغة الهوية الجمعية في جنوب أفريقيا.
"لا يمثل كل المكونات".. ناشطون يتظاهرون ضد "الإعلان الدستوري" في الحسكة
إن دوافع العملية الانتقالية في جنوب أفريقيا ألهمت الدول بصياغة دستور يتلزم بالعدالة والمساواة والحكم الديمقراطي بشكل واضح، فقد عهدت تلك الدوافع للمحكمة الدستورية بسلطات كبيرة وذلك لضمان تعبير وثائق الدستور الجديد عن تلك الطموحات. وبخلاف المحاكم العادية، لم تكن المحكمة الدستورية مجرد جهة تفصل في النزاعات، بل أيضاً كانت وصية على شرعية الدستور، والأهم من كل ذلك أنها كلفت بمهمة المصادقة على مدى توافق النص النهائي للدستوري مع المبادئ الأساسية التي اتفقت عليها الأحزاب في جنوب أفريقيا ضمن الدستور المؤقت.
عملت تلك المحكمة على جبهة تقنية وأخرى رمزية إلى حد بعيد، فعلى الجانب التقني القانوني، قامت بتدقيق مسودة الدستور لضمان التزامها بالمبادئ الدستورية الأربعة والثلاثين التي وضعت خلال عملية الانتقال السياسي. وأثناء تأدية تلك المهمة التقنية، أصدرت المحكمة حكماً تاريخياً، إذ عبرت عن استقلالية القضاء عندما رفضت المسودة الأولى للدستور، معللة رفضها بنقائص في ترسيخ الحقوق، فأكد ذلك القرار الجريء على دورها بوصفها عنصراً فاعلاً سياسياً في عملية صياغة الدستور، وبأنها ليست مجرد جهة تصادق على تنازلات دستورية.
وبعيداً عن هذا الدور الإجرائي، لعبت المحكمة دور الوسيط بين المجتمع المدني وخبراء القانون والسياسيين من أصحاب المصلحة، وتكفلت بألا يعبر الدستور عن مساومات النخب فحسب، بل أن يعبر أيضاً عن المبادئ الأساسية التي وضعت لتمثل القيم الجمعية للشعب.
وفي نهاية الأمر، كان لوصاية المحكمة الدستورية دور مفيد في رسم شكل دستور ذي رؤية تقدمية، إذ عبر خلق حالة توازن ما بين صرامة القانون والإدارك العميق للظلم الذي تعرضت له دولة جنوب أفريقيا على مر التاريخ، أسهمت المحكمة بصياغة وثيقة سليمة من الناحية القانونية ومنسجمة مع الجوانب الأخلاقية، لتصبح حجر الزاوية في توطيد وترسيخ الحياة الديمقراطية والسياسية في البلد.
الإعلان الدستوري المؤقت وشكل النظام السياسي في سوريا
غالباً ما يستحضر نموذج جنوب أفريقيا والدروس المستفادة منه مع الدول التي تشهد حالة انتقال دستورية، يمكن من خلالها للمحكمة الدستورية أن تشرف على عملية صياغة الدستور بما يكفل التزامه بالمبادئ المجمع عليها. فقد نجحت المحكمة الدستورية بجنوب أفريقيا بفضل جملة من الأسباب والتي كان من بينها بنيتها التي تشكلت لتصبح مؤسسة قضائية، إلى جانب مهمتها التقدمية المتمثلة بالفصل في النزاعات، وقدرتها على ترسيخ نفسها بموجب اتفاق سياسي لم يتم التوصل إليه إلا بشق الأنفس، واستعدادها لتنفيذ المهمة المنوطة بها عبر الاحترام المدروس للعمليات الديمقراطية.
"سابقة سلبية"
غير أن العناصر الفاعلة السورية، وخاصة الإسلامية، لن تفكر على الأرجح إلا بنموذج قريب منها جغرافياً، أي بعملية التحول في مصر، فمصر ليست قريبة من سوريا جغرافياً فحسب، بل إن لديها بعض التقاليد الدستورية المماثلة لسوريا، ناهيك عن اشتراك كلا البلدين بتاريخ دستوري امتد لفترة قصيرة تحت حكم الجمهورية العربية المتحدة خلال الفترة ما بين عامي 1958-1961. فخلال تلك الفترة، استوردت سوريا بعض البنود الدستورية المصرية، وحافظت العديد من نقاشات الوحدة غير المنجزة على مدى العقود التالية على شيء من الحوار الدستوري بين البلدين.
إلا أن فترة الوحدة ليست هي الفترة التي يستمد منها ذلك النموذج، بل إنها الفترة التي سادتها اضطرابات على مدار ثلاث سنوات بعد الثورة المصرية التي انطلقت في عام 2011.
خلال تلك السنوات، طرحت مبادئ فوق دستورية عدة مرات، وخرجت المحكمة الدستورية العليا في مصر كعنصر فاعل بارز على المستوى السياسي، ولكن تلك المبادئ لم يتم تبنيها، بل اعتبرت المحكمة بأنها تلعب دوراً تخريبياً في بعض الأحيان، واتخذ الإسلاميون على وجه الخصوص من المبادئ فوق الدستورية وسيلة لتشتمل على مزايا خاصة بهم في الانتخابات، وقدموا مسوغاً منطقياً لذلك، واعتبروا المحكمة الدستورية العليا الجهاز الذي حل البرلمان والجمعية التأسيسية الأولى التي غلب عليها الإسلاميون، كما اعتبروها الجهة التي دعمت الرئيس المؤقت في حزيران من عام 2013 عند عزل الرئيس محمد مرسي الذي يتبع لحزب الإخوان المسلمين عن منصبه الذي وصل إليه عبر صندوق الاقتراع قبل عام واحد على ذلك.
وبهذا المنطق، فإن الأفكار المستوردة من جنوب أفريقيا طرحت في مصر ضمن بيئة مشحونة بالجدل والخصام ولذلك فإن كبار العناصر الفاعلة في السياسة فهمت تلك الأفكار ليس بوصفها وسائل محايدة وتوافقية بل بوصفها أدوات مغرقة في التحزب استغلتها عناصر فاعلة غير إسلامية تتبع للنظام البائد ولم يصوت لها أحد لتفوز في الانتخابات. وسواء أكانت هذه السينيكية التشاؤمية مبررة في الحالة السورية أم لا، فمن المرجح لرئيس سوريا ذي التوجه الإسلامي أن يرى بأن لهذا المسار البديل المقترح هنا وقع مألوف لكنه غير مستحب.
ولكن عند تقييم المسار بشكل منطقي، نجد بأن السياق السوري يختلف عن المصري ببعض الجوانب المهمة، أولها أن الإسلاميين ليس لديهم الثقة نفسها في سيطرتهم على أي عملية انتخابية، وثانيها، أن المجتمع السياسي والمدني أشد انقساماً وتفتتاً بكثير، بل إنه يعاني من صدمات أكبر من تلك التي كان المجتمع يعانيها في مصر، حيث وقعت المواجهة النهائية في صيف عام 2013 بين تحالفين واضحي المعالم (على تنوع أفرادهما) وذلك عندما واجه كل طرف الآخر ضمن مجموعة من المجالات المحددة بشكل واضح (وهي مؤسسات الدولة والساحات العامة في المدن الكبرى). ولقد حاول بعض المصريين رأب الصدع وتوحيد المجتمع من جديد، كما أن المجتمع المصري على الرغم من الاستقطاب الذي اعتراه لم يكن يعالج آثار حرب أهلية دموية امتدت لأربعة عشر عاماً.اقرأ أيضاً
مصر وتركيا
تأكيد تركي مصري: وحدة سوريا خط أحمر والحل السياسي ضرورة
في السياق السوري، يمكن لمحكمة دستورية عليا مستقلة تتمتع بسلطات فعالة أن تحمي النظام الإسلامي بحد ذاته، بصرف النظر عن نتائج الانتخابات مستقبلاً. إذ في حال فوز الإسلاميين في الانتخابات، سيجدون أمامهم دولة متماسكة ليحكموها، وفي حال خسارتهم، وهذا ما يخشاه بعض الإسلاميين، فإن المعارضة الحالية بوسعها الاستعانة بالإعلان الدستوري الذي حصر السلطات بيد الرئيس وذلك لتستخدمه ضده، وفي تلك الحالة، قد تصبح المحكمة الدستورية العليا شريان الحياة الدستوري الوحيد للوقوف في وجه الإجراءات التي تتخذها المعارضة.
إذن، هل ستقتنع القيادة السورية المؤقتة بتبني هذه الرؤية بعيدة المدى التي ترى بأن عملية إعادة بناء النظام السياسي تحتاج إلى مقاربة أوسع تشمل فئات أكثر من الشعب السوري مقارنة بما يقدمه الإعلان الدستوري الحالي؟ بالطبع هنالك فرصة لذلك.
هل ما ينفع الكل ينفع البعض؟
لا يجوز الاستهانة بالتحديات التي ستظهر مستقبلاً، إذ من السهل الدعوة لتطبيق الخطوتين المطلوبتين، وهما التفاوض على مجموعة من المبادئ الدستورية وتشكيل محكمة دستورية عليا قادرة على بث الثقة، ولكن قد يصعب تنفيذ هاتين الخطوتين. ولقد قام الإعلان الدستوري المؤقت الذي أقر في شهر آذار الماضي بخطوة أولى مفيدة في مجال الحقوق والحريات وذلك عندما أعلن بأن تلك "الحقوق المنصوص عليها في المعاهدات والشرائع والاتفاقيات الدولية المعنية بحقوق الإنسان" والتي صادقت عليها سوريا أصبحت "جزءاً لا يتجزأ من هذا الإعلان الدستوري". ثم إن إصرار الإعلان الدستوري على العمل بموجب التقليد الدستوري السوري الذي يشتمل على جوانب ديمقراطية من تاريخ سوريا القديم، يقدم للعناصر الفاعلة على الأقل مجموعة من البنود حتى يركزوا عليها ومفردات مشتركة يمكنهم من خلالها التعبير عن اختلافاتهم بلغة دستورية، غير أن تلك الخطوات المفيدة يمكن أن تقف في طريقها المرارة العميقة والمستمرة للعنف المخيف الذي شهدته سوريا خلال السنين الماضية، والانقسامات الطائفية والإديولوجية، والاشتباكات العميقة حول مدى مركزية الدولة والاستقلال الذاتي في مناطق معينة.
على الصعيد الداخلي، سيتعين على العناصر الفاعلة (أي الأحزاب السياسية والحركات المسلحة وزعماء الطوائف) الاقتناع بأن أي عملية دستورية تقوم على تسوية تصب في مصلحتهم. ومن جانبه، يتعين على النظام الجديد أن يحسب بأن الفوائد المترتبة على نجاح تلك العملية ستكون كبيرة على الأرجح، وذلك من حيث احتمالية مساعدتهم على ترؤس مؤسسات قابلة للبقاء، وبأن تلك الفوائد أكبر من الفائدة المرجوة من نظام يتم فرضه بالقوة. ولابد من إقناع قادة سوريا الجدد على الاستعداد لوضع ثقتهم في عملية تنطوي على تقديم بعض التنازلات بشكل حقيقي إلى جانب التبرؤ من أي نية لإعادة بناء نظام ديكتاتوري خلف ستار أيديولوجي جديد.
أما على المستوى الدولي، فإن كثيراً من الدول المهمة تتمتع بتاريخ يشهد لها بأنها اختارت شخصيات سورية تفضلها حتى تدعمها، ولكن ظهرت بعض المحاولات الإقليمية الحقيقية التي تشجع على قيام دولة سورية مستقرة وعادلة، لكنها بقيت محدودة، ومن بين هذه المحاولات تلك المحاولة التي لم تعتمد على أي عنصر مهمين تفضله. أما مستقبلاً، فلابد من الوصول إلى إجماع وتوافق إقليمي وعالمي يؤكد بأن قيام عملية انتقال سلمية يصب في مصلحة الجميع، وبأنه لابد من مكافأة تلك العملية الانتقالية وذلك عبر دمج سوريا من جديد وبشكل كامل ضمن النظام العالمي وإنهاء العزلة المفروضة عليها بشكل نهائي، إلى جانب رفع كامل العقوبات، وإنهاء كل التحديات التي تهدد وحدة سوريا وحدودها، لأن تلك المكافآت ستزيد الحوافز التي سيدفع العناصر السورية الفاعلة لإنجاز تلك المهمة.
مروان قبلان: أزمة السويداء أضعفت الحكومة السورية وعليها إطلاق حوار مع السوريين
قد يبدو هذا السيناريو واعداً ومفعماً بالأمل، لكنه ليس بالبسيط البتة، لأن القانون والسياسة كثيراً ما ينظر إليهما على أنهما أسلوبا عمل متعارضين، فهل تتخذ القرارت بناء على إجراءات محددة بوضوح، أم عبر تنازع عنيف ومشحون بالمناكفات بين المصالح المختلفة والعناصر الفاعلة المتعددة؟ في الواقع لا يمكن طرح هذا السؤال بصيغة إما-أو، لأن تاريخ عملية الكتابة الناجحة للدستور، والتجارب الدستورية الناجحة يشير إلى أن القانون والسياسة يصلان إلى أفضل أحوالهما عندما تعمل الثانية من خلال الأول، فعندما تعبر الأحزاب المتنازعة عن برامجها واستراتيجياتها وأساليبها بلغة قانونية وسياسية في آن معاً، وعندما تتفق على تلك الأفكار وتخرج بمجموعة من الإجراءات يمكن للجميع العيش في ظلها، عندئذ تصبح حظوظ النجاح في عملية صياغة الدستور عالية، أما دمج القانون بالسياسة، أو الخروج بدساتير لتتحول إلى مستودع للاتفاقيات التي لا يتم التوصل إليها إلا بشق الأنفس، فإن المسألة هنا تتحول إلى مسألة ثقة ومساومة أكثر منها مسألة استشراف للمستقبل. غير أن أكبر أمل بالنسبة لسوريا يتمثل في العثور عن مستودع للسياسة ومستودع للقانون لم يسبق لكليهما أن شغله أي اتفاق.