الرئيسة \  تقارير  \  قواعد مرور جديدة.. الطاقة تقود والسياسة تلتحق

قواعد مرور جديدة.. الطاقة تقود والسياسة تلتحق

13.08.2025
صهيب جوهر



قواعد مرور جديدة.. الطاقة تقود والسياسة تلتحق
صهيب جوهر
سوريا تي في
الثلاثاء 12/8/2025
المشهد يبدأ من الإقليم هذه المرّة وينحدر إلى الداخلين اللبناني والسوري. اتفاق باكو – يريفان برعاية أميركية لم يكن مجرّد تسوية لخط تماس قديم، بل إعادة توجيه لمسارات الطاقة والتجارة من القوقاز نحو المشرق.
أنقرة، المتكئة على شراكتها المؤسِّسة مع أذربيجان، تقرأ اللحظة كرافعة نفوذ تُكمّل حضورها في شمالي سوريا وشرق المتوسط، وتربط بين خطوط الأنابيب ومسارات الترانزيت واللوجستيات البحرية.
وواشنطن بدورها تدير نزاعاً مضبوط الإيقاع مع طهران: تضييق مالي متدرّج، ومحاولة لجرّ الأوروبيين والصينيين إلى معادلة الخنق، مع إبقاء فتحات تفاوضية توحي بها تعيينات أكثر براغماتية داخل إيران. وبين هذين القوسين تتحرّك إسرائيل بعقيدة مانعة: أي ممرّ متّصل للطاقة من الخليج والقوقاز إلى المتوسط يجب أن يصطدم بتعقيدات ميدانية تُبقي الهوامش ملتهبة. هكذا يتشكّل فراغ إيجابي هشّ: ليس سلاماً كاملاً، لكنه كفاية هدوء تسمح بتصميم البنى التحتية على الورق بحثاً عن لحظة اختبار على الأرض.
تفاصيل هذا “الفراغ الإيجابي” لا تُقاس بالشعارات بل بوحدات قياس عملية: زمن العبور على الحدود، التعرفة الجمركية، ضمانات التحكيم، قدرة المرافئ على الاستيعاب، وخريطة المخاطر الأمنية. أوروبا المتعطّشة لتنويع مصادرها ستنظر إلى شرق المتوسط عبر عدسة المخاطر قبل الجدوى، والصين ستقيس الممرّات بمسطرة الربط مع “الحزام والطريق”. لذلك تبدو مسارات الطاقة اليوم مثل فسيفساء: قطع جاهزة هندسياً لكنها تنتظر لِحمة سياسية تضمن الاستدامة. في هذا السياق يصبح الشرق الأوسط امتداداً وظيفياً لجنوب القوقاز، لا مجرد جواره الجنوبي، ويغدو الاستثمار أداة ضبط إيقاع سياسي بقدر ما هو مشروع ربح.
 على الضفة السورية، وصول الغاز الأذري بالتوازي مع شهية استثمارية خليجية — ولا سيما السعودية والقطرية — يرفع سقف التوقعات بتحويل سوريا إلى عقدة عبور.
في لبنان، تكليف الجيش إعداد خطة لحصر السلاح ليس تفصيلاً إجرائياً بل إعلان نوايا أمام المانحين بأن الدولة تنوي الإمساك بأدواتها. الخطة، في أي صيغة واقعية، ستتضمّن جدولة زمنية، خرائط انتشار، آليات جمع وتخزين وضبط، وحزمة إجراءات موازية: ضبط الحدود، تحديث العقيدة الأمنية، ورفع جاهزية القضاء العسكري.
ويبدو أن الرهان أن يفتح هذا المسار باب التمويل والإعمار، وأن يُقدَّم للمستثمرين إطار حوكمة يمكن الوثوق به. لكن حزب الله يضع شروطاً مقابلة: وقف الخروقات الإسرائيلية، إطلاق الأسرى، وبيئة آمنة قبل أي نقاش جوهري في السلاح. النتيجة ميزان دقيق: حكومة باقية، وصدام مع الجيش ممنوع، مقابل تصعيد سياسي مرتفع لا ينزلق إلى تكرار سيناريوهات التفجير الداخلي.
أمام هذا الميزان يطلّ سيناريوهان. أفضلُهما يفترض نجاح واشنطن في كبح الاندفاعة الإسرائيلية بما يتيح للدولة التقاط أنفاسها وتمرير خطوات تنفيذية أولى من دون استفزازات ميدانية. عندها تُغلَق شهية “إدارات محلية” مقنّعة تُضعف المركز، ويستعيد الاقتصاد بعض الثقة. أمّا إذا تعذّر الكبح وتوسّعت الضربات، فسيتسع هامش الاحتكاك وتعود نزعات التنظيم الذاتي الرخو لتأكل من شرعية الدولة وقدرتها على ضبط المجال العام. في هذا المسار الثاني، يتحوّل ملف الطاقة نفسه إلى ورقة ضغط: تُربط الإعمار بمشروطيات أمنية، وتُسعَّر الثقة السياسية على نحو يرفع كلفة التمويل، فتخسر بيروت نافذة التمويل قبل أن تُفتح عملياً.
وحتى في السيناريو الإيجابي، لا تكفي نوايا الدولة. يلزمها إشارات تنفيذية صغيرة لكنها دالّة: ضبط جدّي للمعابر غير الشرعية، مسك حسابات المرافئ والاتصالات بشفافية، إحياء الهيئات الناظمة، وتثبيت قواعد لعبة تُطمئن الداخل والخارج بأن المسار مؤسّسي لا شخصي. كما يلزمها مسك العصا من الوسط في علاقة السلطة المدنية بالمؤسسة العسكرية: التفويض واضح، والمساءلة واضحة، والحصانة من التسييس أشدّ وضوحاً. كل ذلك يُترجم إلى نقطة واحدة يفهمها المستثمر سريعاً: المخاطر يمكن تسعيرها، لكنها غير فالتة.
على الضفة السورية، وصول الغاز الأذري بالتوازي مع شهية استثمارية خليجية — ولا سيما السعودية والقطرية — يرفع سقف التوقعات بتحويل سوريا إلى عقدة عبور. لكن خبر الوصول شيء، وسياسة العبور شيء آخر. تحويل سوريا إلى منصة توزيع يتطلّب صياغة عقد داخلي جديد: دولة واحدة تُفوِّض سلطات محلية محدّدة الصلاحيات والموارد، لا “فدرلة زاحفة” تكرّس كانتونات.
هذا التفويض المقيّد شرط لازم، لكنه غير كافٍ من دون ترتيبات أمنية وإدارية قابلة للتنفيذ مع قوى الأمر الواقع شرقاً، ومعالجة ذكية لارتدادات السويداء كي لا تتحوّل المطالب المحلية إلى منصة اختراق إقليمي. ضبط العلاقة مع “قسد” على قاعدة وحدة الدولة مع لامركزية منضبطة سيكون الاختبار الأكثر مباشرة لقدرة دمشق على تحويل الاستثمارات إلى بنية دائمة لا خبر عابر.
إسرائيل، في هذا المشهد، تتصرف كمهندس تعطيل متقن: تشجّع على سرديات “الأقاليم” وتدفع نحو ممرات “آمنة” تربط الجنوب بشرق الفرات، مع هدف عملي واضح هو الإمساك بحوافّ الحدود السورية – العراقية وقطع أي سلسلة لوجستية تتجه غرباً نحو المتوسط. بهذا تُعاد صياغة الجغرافيا السورية بطريقة تضمن ضعف المركز ولو من دون تقسيم رسمي. يتكامل ذلك مع رفع سقف الشروط في لبنان ومنع أي استقرار طاقي أو بحري لا يمرّ بمعابر تقبل تل أبيب بها أو تشرف عليها بصورة مباشرة أو غير مباشرة. النتيجة: طريق الغاز يصبح حقل اختبارات سياسية قبل أن يكون خط أنابيب.
التحوّل الإقليمي ينعكس أيضاً على تموضع إيران والولايات المتحدة. بعد حرب الاثني عشر يوماً على إيران، قدّرت دوائر أميركية أن طهران تحتاج عاماً على الأقل لإعادة ترميم قدراتها. واشنطن تتحرك لخنق مسارب التمويل عبر النفط المهرّب، تستدرج الأوروبيين إلى المعاقبة، وتفتح مع بكين ملف المشتريات المخفّضة.
 نحن أمام معادلة معكوسة تبدأ من فوق إلى تحت. إن لم تُحسم قواعد المرور إقليمياً — بين أنقرة وطهران وتل أبيب وواشنطن — ستبقى بيروت ودمشق ساحات اختبار لا منصّات عبور.
وفي طهران، عودة علي لاريجاني إلى أمانة المجلس الأعلى للأمن القومي تُقرأ كبحث عن “واقعية تفاوضية” تُدار على خطَّي واشنطن والرياض من دون التفريط بأوراق النفوذ. بالتوازي، خفّض البنتاغون بعض حضوره البحري والبري في المنطقة، في إشارة لا تشبه قرع طبول الحرب بقدر ما تشي بإدارة نزاع تضبط الإيقاع وتُبقي الباب موارباً لتفاهمات صامتة. هذه “الهدنة العملياتية” لا تلغي التناقض مع إسرائيل التي ترى في استقرار سوريا ولبنان تهديداً لمشروعها في إعادة رسم خرائط الطاقة والنفوذ، فتضاعف محاولات العرقلة من الحدود إلى البحر.
إذاً، نحن أمام معادلة معكوسة تبدأ من فوق إلى تحت. إن لم تُحسم قواعد المرور إقليمياً — بين أنقرة وطهران وتل أبيب وواشنطن — ستبقى بيروت ودمشق ساحات اختبار لا منصّات عبور. لبنان يقدّم نموذج احتكار قانوني للقوة قيد الإنشاء، مشروطاً بكبح الضربات وباتفاق غير مكتوب على عدم المساس بالمؤسسة العسكرية. سوريا تقدّم المعادلة الأصعب: توحيد سياسي مع تفويض محلي محسوب، وإلا انزلقت إلى لامركزية بلا دولة. عند هذا التقاطع فقط يصبح خبر الغاز تفصيلاً في اقتصاد يعمل، لا عنواناً معلّقاً على حافة الاشتباك.
وإذا تغلّبت حسابات التعطيل، ستظلّ الأنابيب خطوطاً على الخرائط، وتبقى الممرات رهينة زرّ تُديره العواصم الكبرى عن بُعد وتدفع كلفته العواصم الصغرى. الطاقة هنا ليست حافزاً تلقائياً للاستقرار، بل اختباراً لقدرة المنظومات السياسية على إنتاج قواعد لعبة جديدة: قواعد تُقنع المستثمر بأن الوقت يعمل لمصلحته، وتُقنع اللاعبين الأمنيين بأن المكاسب الصامتة أطول عمراً من الانتصارات الصاخبة، وتُقنع المجتمعات بأن اللامركزية وسيلة لإدارة التنوع لا سلّماً إلى تقاسمه. هكذا فقط ينتقل الإقليم من ربط الأنابيب على الورق إلى وصل الاقتصادات في الواقع.