قسد ولعبة كسب الوقت
27.09.2025
محمد برو
قسد ولعبة كسب الوقت
تلفزيون سوريا
محمد برو
الخميس 25/9/2025
بعد سقوط نظام الأسد وسعي الإدارة الجديدة لتوحيد الفصائل المسلحة والحرص على عدم إبقاء السلاح خارج مؤسسات الدولة، تُظهر قسد منذ مارس 2025 تباطؤاً شديداً، وربما ارتياباً، في الاستجابة لمطلب تقترحه حكومة دمشق وتحث عليه قوى إقليمية وعربية، دون أي تقدم ملحوظ في صدى تلك الاجتماعات والتفاهمات الأولية.
تتمثل العقدة الرئيسية التي تتمسك بها قسد في الحفاظ على قواتها المسلحة ككتلة مستقلة داخل الجيش السوري الذي يتم تشكيله. وتدرك قسد أن هذا المطلب ما هو إلا مطلب تعجيزي لا يمكن لحكومة دمشق القبول به، وذلك لعدة أسباب:
أولاً، سيفتح هذا المطلب الباب على مصراعيه أمام العديد من الفصائل الأخرى التي ستطالب بالامتياز ذاته، ما سيؤدي إلى دولة هشة شبيهة بلبنان، تتوزع فيها القوى والطوائف مراكز السلطة والنفوذ. وستستمر هذه القوى في سباق التسلح والاستقطاب الداخلي، كونه سيصبح المثقل الأكبر في لعبة المصالح والتوازنات، الأمر الذي يجعل من احتمالية وقوع حرب أهلية قادمة أمراً وشيكاً.
ثانياً، ستفقد الحكومة هيبتها وقوتها المركزية، وتصبح محط تجاذبات تجعل من التوجه لإعادة البناء والإعمار ضرباً من الخيال وأحلام اليقظة.
تكرر قسد بشكل استعراضي، يدركه كثير من الكُرد، تبني قضية "المظلومية الكردية" -وهي قضية حق يُراد بها باطل- من خلال المناداة بضرورة الحفاظ على حقوق الأكراد السوريين والدفاع عنها، مع أنها لا تمتلك تفويضاً لتمثيلهم. كما أن قسد ليست حركة محصورة بالأكراد، طالما أن شطراً كبيراً من جيشها هم من العرب ومن مكونات أخرى. وتعتبر قسد التحول إلى نظام فيدرالي خطاً أحمر لا يمكن التنازل عنه مع أنها بواقع الأمر تسعى لإدارة ذاتية هي أقرب ما تكون لحكومة موازية، وهو جوهر مشروع حزب العمال الكردستاني، على الرغم من أن الدول التي تحولت إلى الفيدرالية في القرن السابق جرى تحولها عبر حوار داخلي أو نتيجة اقتراعات وحوارات بين ممثلي الشعب. وفي أحيان أخرى، كان التحول بفعل ضغط قوى خارجية، كما حدث في ألمانيا بعد عام 1949، حين ضغط الحلفاء لتنفيذ هذه الصيغة.
تكمن الإشكالية الكبيرة التي تصطدم برغبات قسد في أنها تتلقى قراراتها من جبال قنديل، وليست نتاج حوار مكوناتها الداخلية. ولا يمكن إغفال صلاتها وتبعيتها لحزب العمال الكردستاني، الأمر الذي يشكل عقدة إشكاليةً لدول إقليمية لديها تحفظات عميقة حول دور هذا الحزب في بث الفوضى.
تسيطر قسد اليوم على معظم حقول النفط السورية في الشمال والشرق السوري، وتحتكر عوائدها التي تُعدّ خزاناً اقتصادياً محجوباً عن عامة السوريين. وربما تحاول قسد، من خلال ضجيجها الإعلامي حول حقوق الكُرد السوريين ودولة فيدرالية تناضل من أجلها، واستقلال قواتها العسكرية عبر اندماج شكلي بالجيش السوري، تحاول التغطية على أسباب عميقة لا يتم الحديث عنها بشفافية كافية. فهناك أموال النفط المهربة التي تُقدَّر بمليارات الدولارات خلال عشرة أعوام، وشبكات الفساد التي تديرها، وتجارة المخدرات التي ترعاها تلك القوات. ويُضاف إلى ذلك تورط العديد من قيادات قسد في تجارة الكبتاغون والتعاون مع شبكات ماهر الأسد في تهريبه وتبييض الأموال لشبكات النظام السابق وقياداته، ولشبكات عراقية وإيرانية. كل هذا، مع أمور أخرى تجري في الظل، يشكل الدافع الأعمق وغير المعلن للمراوغة التي تقوم بها قسد لتأخير استحقاق الاتفاق الذي ينتهي أجله نهاية هذا العام.
تُواجه قسد اليوم انقسامات وتغيراً في الولاءات يضعف تماسكها، وهي تعلم أنها أمام استحقاق لا يمكن المماطلة فيه طويلاً.
كما أن شبح إعلان الحرب عليها مرهون بلحظة انسجام المصالح بين الداعم الأميركي ودولة تركيا والدولة السورية الجديدة. فخلال سنوات الحرب، هرَّبت قيادات قسد سنوياً ما يزيد على ستة ملايين برميل نفط إلى نظام بشار الأسد، أي ما تتجاوز قيمته التقديرية 300 مليون دولار سنوياً. هذا يؤكد مدى التنسيق الكبير بين قوات قسد ونظام بشار الأسد، الأمر الذي يثير الريبة ويشكك في إمكانية أن تتبنى قسد خياراً وطنياً يهدف إلى تعزيز مصلحة السوريين عامة. يضاف إلى ذلك حزمة واسعة من الموارد التي تتحصل عليها من الضرائب والمعابر والتجارة غير المشروعة والتهريب بشتى أنواعه.
إن التخلي عن جميع هذه المكاسب مقابل وجود قيادات قسد في بنية السلطة الجديدة يُعد انتحاراً لمشروعها الحقيقي، وفقداناً للسيطرة والامتيازات، علاوة على انكشاف أوراقها المخفية التي قد تُعرِّض قياداتها للمساءلة الوطنية والدولية، خاصة أن حجم الانتهاكات التي قامت بها قسد خلال عشرة أعوام لا يمكن التكهن بها جزافاً.
كل ما سبق ذكره يجعل من عملية الاندماج مع الحكومة السورية الجديدة ضرباً من ضروب الانتحار البطيء، ليس بسبب الفساد المستشري وحده، بل بسبب جملة معقدة من المصالح والاصطفافات الدولية التي ستعيد تشكيل نفسها على نحو يفرضه تطور الوضع في منطقة الشرق الأوسط وفي سوريا على وجه الخصوص. وليس بعيداً أن ينفد صبر الجار التركي على هذه المماطلات، لا سيما أن تركيا اليوم تخطو خطوات واسعة في إعادة ترتيب أوراق الأحزاب الكردية وإدماجها في الحياة السياسية والبرلمانية، الأمر الذي سيضيق الخناق على قسد كُردياً، ويفقدها ورقة الأكراد السوريين، الأمر الذي سيقلل من قدرتها على المناورة السياسية.
إن التباطؤ الكبير الذي يشهده الواقع السوري في التعافي من آثار الحرب الطويلة، والتعثر والأخطاء الكبيرة التي صاحبت أزمة السويداء وأزمة الساحل، أغرى قادة قسد بمزيد من التباطؤ والمراوغة، لكن إلى أجل ليس ببعيد. وإن احتفاظ قيادات قسد بالامتيازات الاستثنائية المتأتية من تجارة النفط والمخدرات والضرائب وتبييض الأموال لن يُرضي حاضنتها الشعبية المحلية، وسرعان ما ستتطور تلك التذمرات والاعتراضات لتتحول إلى قوة ضاغطة لا تهدف إلى إصلاح قسد، بل إلى البدء بتفكيكها، الأمر الذي سيصعب معه التكهن بردود الأفعال المصاحبة لذلك.
ستبقى لعبة المراوغة التي تستمر بها قسد محكومة بما ستفرضه التغيرات والتطورات التي تطرأ على الوقائع السائلة وتبدل موازين المصالح لدى الداعمين الإقليميين والدوليين، والتي ستشكل نهاية حتمية لمشروعها سواء بالاندماج التام أو التفكيك.