الرئيسة \  تقارير  \  قسد والتخفي وراء المصطلحات

قسد والتخفي وراء المصطلحات

27.08.2025
محمد خالد الرهاوي



قسد والتخفي وراء المصطلحات
محمد خالد الرهاوي
سوريا تي في
الثلاثاء 26/8/2025
ذكرني كتاب حرب اللغات والسياسات اللغوية لـ (ويس جان كالفي) بما يجري في الساحة السورية خاصة والدولية عامة، فالمتأمل للمصطلحات المستعملة فيها يدرك أن اللغة ساحة حرب لا تقل ضراوة عن ساحات القتال، والكلمات والشعارات يمكن أن تكون أسلحة تضليل فعالة، ففي الصراعات الحديثة لم تعد الحروب تقتصر على قصف المدافع والصواريخ والطيران ودوي الانفجارات، لكنها امتدت لتشمل ساحات أكثر تعقيداً وخطورة: اقتصادية، علمية، فكرية..
لكن ما يهمنا هنا هو ساحات العقول والوعي التي تتحول فيها الكلمات إلى أسلحة، وتُصاغ المصطلحات لتكون قذائف تهدف إلى إعادة تشكيل المفاهيم وهدم الثوابت، فالمصطلح عندما يُفرّغ من محتواه الأصيل ويُستخدم قناعاً برّاقاً لمشاريع مشبوهة، يصبح أخطر من رصاصة؛ لأنه لا يقتل جسداً وإنما يغتال حقيقة، ويشرعن مشاريع التفتيت والتقسيم تحت عناوين جذابة مثل الحرية والديمقراطية والمدنية وغيرها.
ويتجلى التخفي وراء المصطلحات الجذابة بأوضح صوره على الأرض السورية، ولا سيما مصطلحات ميليشيا جبال قنديل التي تتستر وراء اسم جذاب (قوات سوريا الديمقراطية) واختصارا له (قسد)، وتتبعها في هذا النهج جهات أخرى مثل بعض الفلول وبعض العصابات المسلحة الخارجة عن القانون في السويداء، وذلك لخدمة مصالح شخصية وفئوية ذات أبعاد عرقية وطائفية ضيقة تهدف إلى تدمير وحدة سوريا أرضاً وشعباً، وتتلاقى أهدافها على نحوٍ فاضح مع أجندات خارجية لم تخفِ يوماً عداءها لوحدة الأراضي السورية وسيادتها.
لقد دأبت هذه الميليشيات على استثمار المصطلحات النبيلة مثل الديمقراطية، والدولة المدنية، والوحدة الوطنية، والمشاركة واتخاذها ستارا تخفي وراءه ارتباطات عضوية بمشاريع خارجية ومصالح ضيقة لا تمت بصلة لتطلعات الشعب السوري، وذلك في محاولة يائسة لتسويق مشاريع انفصالية وتمكين فئوي على أنها مطالب شعبية وطنية. ولنتناول بالتحليل بعض مصطلحات ميليشيات قسد، وأولها مصطلح (قوات سوريا الديمقراطية) الذي يشكل حجر الزاوية في عملية التضليل التي تمارسها ميليشيات قسد، فأول تخفٍ لها يكمن وراء اسمها نفسه، فقد صاغته أو بالأحرى صِيغ لها بعناية ليكون ستاراً دعائياً يوحي بالشرعية والوطنية والديمقراطية، ويبعد عنها طابع العرقية الكردية كما صرح مقترح المصطلح السياسي نفسه الكردي العراقي لاهور جنكي في مقابلة متلفزة على قناة دجلة قبل اعتقاله. وعند تفكيك هذا الاسم إلى مكوناته الأساسية تتكشف الحقيقة الصادمة التي تخالف مسماه في كل جزء منه.
الجميع يعلم بمن فيهم التحالف الدولي بقيادة أميركا أن الكوادر الوافدة من قنديل وتركيا وإيران هي العقل المدبر والعصب الحقيقي لهذه الميليشيات.
أولا: قسد ميليشيات عقائدية مؤدلجة وليست قوات؛ ذلك أن مصطلح (قوات) يوحي بوجود جيش نظامي، أو هيكل عسكري وطني يتبع لدولة ومؤسسات، ويحمل ولاءً جامعاً للوطن بكامله. لكن حقيقة قسد أبعد ما تكون عن ذلك، فهي في جوهرها ميليشيات ذات طابع عقائدي صارم، ولاؤها ليس للدولة السورية أو لشعبها، وإنما لأيديولوجيا حزب العمال الكردستاني (PKK) المصنف على قوائم الإرهاب العالمية ولشخص قائده المعتقل عبد الله أوجلان. إضافة إلى أن هيكلها التنظيمي وعقيدتها القتالية ومرجعيتها النهائية كلها تعود إلى قيادة الحزب في جبال قنديل، وهي ذراع عسكرية لمشروع سياسي عابر للحدود، يستخدم الجغرافيا السورية منصة لتحقيق أهدافه، ومن ثَمَّ، فإن وصفها بـ (القوات) تزييف متعمد للواقع يهدف إلى منحها شرعية لا تستحقها.
ثانياً: قسد واجهة لمشروع أجنبي وليست سوريّةً، وهنا يكمن التضليل الأكبر إذ كيف يمكن لكيان أن يدّعي صفة السوريّة، وكل قيادته العليا التي تضع الاستراتيجيات وتتخذ القرارات المصيرية وتتحكم بالموارد، هي من كوادر حزب العمال الكردستاني غير السوريين؟ والجميع يعلم بمن فيهم التحالف الدولي بقيادة أميركا أن الكوادر الوافدة من قنديل وتركيا وإيران هي العقل المدبر والعصب الحقيقي لهذه الميليشيات، ولا يغير من هذه الحقيقة أن قسماً كبيراً من عناصرها المقاتلين لا القادة هم سوريون، جنّدتهم قسد عبر الترهيب أو الترغيب أو التجنيد الإجباري، لكن هذا لا يغير من حقيقة أنهم يخدمون مشروعاً لا يمتّ لسوريا بصلة وإن ألبسوه عباءة سورية لتمرير مشروع معادٍ لسوريا في جوهره، فرفع صور أوجلان في كل مؤسسة وساحة عامة، وتدريس أفكاره في المناهج التعليمية، وترديد شعاراته في كل مناسبة دليل قاطع وبرهان ساطع على أن الهوية الحقيقية لهذا الكيان هي هوية حزب العمال، وليست هوية سورية.
ثالثا: قسد ليست ديمقراطية وإنما إقصائية وقمعيّة، ذلك أن الديمقراطية في أبسط تعريفاتها هي حكم الشعب، والتعددية، وقبول الآخر، واحترام حقوق الإنسان. أما ممارسات قسد فترسم صورة مناقضة تماماً، وهي عصابات إقصائية بامتياز، لا تتسامح مع أي صوت معارض، فالقمع لا يطول المكون العربي وحده وإن كان الأكثر، بل يمتد ليشمل أي صوت كردي يجرؤ على انتقاد هيمنة حزب العمال الكردستاني أو سياساته، فالسجون مملوءة بالناشطين السياسيين والصحفيين الأكراد والعرب الذين انتقدوا الفساد أو الاستبداد، والتهمة جاهزة: عناصر من داعش. كذلك تمارس قسد تمييزاً عنصرياً ممنهجاً ضد المكون العربي الذي يشكل الأغلبية السكانية في مناطق سيطرتها مثل دير الزور والرقة والحسكة. يتم تهميش أبنائه من المناصب القيادية، وتُسرق ثرواتهم النفطية، ويُحرمون من أبسط الخدمات، وتُفرض عليهم مناهج تعليمية مؤدلجة غريبة عن ثقافتهم وتاريخهم؛ لهذا فإن واقعها وسجلّها الإجرامي الحافل بالاعتقالات التعسفية والاغتيالات وتجنيد الأطفال وتهجير السكان يفضح زيف ادعاءاتها الديمقراطية.
مصطلح (التشاركية) الذي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بوهم (الإدارة الذاتية)، فقسد تدَّعي أنها تشرك جميع المكونات في صنع القرار، لكن أي تشاركية هذه التي تقصي بشكل ممنهج كل الأحزاب الكردية السورية التاريخية، وتلاحق أعضاءها؟
ولا يقتصر التضليل على الاسم، ولكن يمتد إلى مصطلحات الحكم والإدارة التي تستخدمها قسد لتسويق مشروعها، ولنتناول أبرزها:
أولاً: مصطلح (الإدارة الذاتية) الذي يُعد من أكثر الشعارات جاذبية، فهو يوحي بأن أبناء المنطقة بكل تنوعهم هم من يديرون شؤونهم بأنفسهم في تجربة ديمقراطية وليدة، لكن الواقع على الأرض يكذب ذلك، وكما يقول المثل: الماء يكذب الغطاس، فالإدارة الفعلية لهذه المناطق ليست بيد أهلها، وإنما هي حكر على الكوادر الأمنية والعسكرية والأيديولوجية الوافدة من قنديل. أما أبناء المنطقة -سواء أكانوا من الكرد الرافضين لهذه الهيمنة أم من المكون العربي الأكبر- فليس لهم دور حقيقي في هذه الإدارة، ووجودهم في هياكلها لا يتعدى كونه وجوداً شكلياً ومسرحية سيئة الإخراج، والهدف منها هو تجميل الصورة وخداع العالم بأن هذه الإدارة تمثل جميع المكونات، في حين أن القرار الحقيقي من أصغر تعيين إداري إلى أكبر قرار استراتيجي، محصور في أيدي قيادات قنديل من غير السوريين. إذن فمصطلح الإدارة الذاتية غطاء محلي لإدارة خارجية بامتياز.
ثانياً: مصطلح (التشاركية) الذي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بوهم (الإدارة الذاتية)، فقسد تدَّعي أنها تشرك جميع المكونات في صنع القرار، لكن أي تشاركية هذه التي تقصي بشكل ممنهج كل الأحزاب الكردية السورية التاريخية، وتلاحق أعضاءها؟ وأي تشاركية هذه التي تعقد مؤتمرات شكلية مثل مؤتمر الحسكة وتخرج ببيانات تدّعي أنها تمثل إرادة الشعب، وهي في الحقيقة تعبّر فقط عن إرادة الحزب الواحد المسيطر؟ وما مطالبتهم بكتابة دستور ديمقراطي إلا مثال آخر على هذا الخداع؛ فالدساتير لا توصف بالديمقراطية، بل الديمقراطية هي ممارسة سياسية ومجتمعية حرة، وهو ما تغيّبه قسد تماماً عن مناطق سيطرتها التي تحكمها بقبضة من حديد.
ثالثاً: مصطلح (الوطنية)، فعندما تتحدث (قسد) عن (الوطنية السورية) فإنها تسقط في فخ التناقض الصارخ الذي لا يمكن لأي عاقل أن يتجاوزه، إذ كيف يمكن ادّعاء الوطنية السورية في الوقت الذي فيه تُرفع صور عبد الله أوجلان وهو شخصية تركية وقائد لحزب يسعى لمشروع عرقي عابر للحدود؟ وكيف تستقيم الوطنية مع وجود قيادات مرتبطة عضوياً بحزب مصنف على قوائم الإرهاب عالمياً؟ أليست هذه الوطنية المزعومة مجردَ شعار أجوف يهدف إلى التغطية على مشروع فئوي ضيق لا يرى في سوريا سوى ساحة لتحقيق أهدافه العرقية والأيديولوجية؟
على السوريين الوعي والحذر مما يحاك لهم داخلياً وخارجياً في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ وطنهم.
أما مصطلح (الوحدة الوطنية) فيتحول على ألسنة قادة قسد إلى نقيضه تماماً، ليس فقط على أرض الواقع بل حتى في تصريحاتهم، فهذا الشعار يقترن دائماً بمطالب الفيدرالية واللامركزية السياسية وتشكيل جيوش مستقلة وقوى أمن مستقلة، وهذه المصطلحات وصفة مؤكدة لتفتيت الدولة وليس لتوحيدها رغم جاذبيتها النظرية لبعض المغفلين، وهي في السياق الذي تطرحه قسد ليست سوى عناوين مخففة لمشروع تقسيم سوريا إلى كانتونات عرقية وطائفية متناحرة ترتبط اسمياً فقط بالدولة المركزية، وتكون لكل منها قواتها وأعلامها وسياساتها الخارجية الخاصة.
رابعا: مصطلح الاندماج الذي برز بعد توقيع اتفاق آذار/مارس 2025 بين الرئيس أحمد الشرع ومظلوم عبدي قائد قسد والذي يُفهم منه الذوبان الكامل في مؤسسات الدولة وتوحيدها لكن الواقع والمطالب التي ترفعها قسد تناقض مفهوم الاندماج مناقضة تامة، فهي تتمسك باللامركزية وبالعودة إلى سوريا الدولة قبل الثورة 2011 وبالإبقاء على هيكليتها العسكرية والأمنية ومؤسساتها الإدارية ومناهجها التعليمية، ولا أدري بعد هذا ما الذي أبقته قسد من مفهوم الاندماج. أليس هذا الاندماج الذي تقصده هو في جوهره دعوة إلى إعادة هيكلة الدولة لتصبح مقسمة على أرض الواقع ولا سلطة لها على مناطق قسد وأمثالها؟
الحقيقة أن قائمة مصطلحات قسد كلها تحتاج إلى تفكيك، وتفكيكها يحتاج إلى مجلدات ولا تكفيه مقالات موجزة، ولكن ما لا يدرك كلُّه لا يُترك قُلُّه، وعلى العموم جميع مصطلحاتها لا تعدو أن تكون شعارات تضليل تستهدف تزييف وعي السوريين تمهيداً لاستهداف جغرافيتهم ودولتهم ووحدتهم وجعل التقسيم أمراً واقعاً ومقبولاً، وقد صدق فيهم المثل العربي القائل: إن وراء الأكَمة ما وراءها. وعلى السوريين الوعي والحذر مما يحاك لهم داخلياً وخارجياً في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ وطنهم.