الرئيسة \  تقارير  \  قراءة في استطلاع المؤشر العربي في سوريا

قراءة في استطلاع المؤشر العربي في سوريا

09.09.2025
مهيب الرفاعي



قراءة في استطلاع المؤشر العربي في سوريا
مهيب الرفاعي
المدن
الاثنين 8/9/2025
يمثّل المؤشّر العربي 2025 أضخم مسحٍ للرأي العام في المنطقة، وقد شملت دورته التاسعة خمس عشرة دولةً عربيةً بينها سوريا لأول مرة منذ تأسيس مشروع المؤشر العربي الذي أطلقه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. أُنجز العملُ بمقابلاتٍ مباشرة، على عيّنةٍ تمثيلية واسعة في سوريا قوامها 3690 مستجيباً موزّعين على المحافظات والبيئات الريفية والحضرية، ضمن مشروعٍ إجماليّ جمع 40 ألف مقابلة في البلدان المشمولة. إن هذا الحجم، وطريقة تصميم العيّنة، ونسبة الخطأ المعلنة (±2–3%)، تمنح نتائج سوريا قيمةً تفسيرية عالية، لأنها تسمح بقراءةٍ تمثيلية لا تنحصر في قصص شارع متفرّقة، بل في مؤشرات قابلة للقياس والمقارنة عبر المحافظات والسنوات. وبما أن هذه هي القراءة التمثيلية الأولى لنبض السوريين بعد التحوّل السياسي الكبير، فمردودها التحليلي يتجاوز الوصف إلى رسم معالم خريطة طريق تُوازن بين الواقعية والسرعة.
الاتجاه العام والتفاؤل الحذر
تُظهر الشرائح أن 56% من السوريين يرون أن الأمور تسير في الاتجاه الصحيح ، مقابل 25% يعتقدون أنها تسير في الاتجاه الخاطئ، وقرابة 17% لا يعرفون أو رفضوا الإجابة. هذه القسمة تكشف حالة تفاؤل حذر : فالأغلبية تُكافئ التغيير السياسي برصيدٍ من الأمل، لكنها أغلبية غير كاسحة ولا مضمونة الاستمرار إن لم تُترجَم سريعاً إلى تحسّنٍ محسوس في الأمن والخدمة والدخل. ويؤكّد هذا الاستنتاج سؤال المقارنة بين مستوى الأمن الآن وما كان عليه قبل سقوط النظام: 46% يرونه أفضل، 30% يعتبرونه على حاله، و16% يعتقدون أنه أسوأ. وفي القياسات التفصيلية للشعور بالأمان في التنقّل، ترتفع الطمأنينة نهاراً بين المدن وداخلها، لكنها تتراجع ليلاً، ما يعني أن التحسّن الأمني نسبيّ وهشّ، وأن ضبط الفضاء الليلي، والحدّ من السلاح العشوائي والحواجز غير النظامية، وإرساء استجابة شرطية موحّدة وسريعة، عناصر لازمة لتحويل التفاؤل إلى ثقة.
ما يهم السوريين عمومًا هو الشعور بالراحة والأمان في تنقلاتهم وحياتهم اليومية، لا سيما بعد أن تعرضوا خلال 14 عاماً مضت لعمليات اعتقال تعسفية على حواجز وضعها نظام الأسد قطعت أوصال المدن وأعادت تشكيل الخريطة المكانية في عموم سوريا، لصالح وحش الأمن السوري؛ بالإضافة إلى عمليات خطف وابتزاز من قبل شبكات ذات صلة بالمليشيات المحلية، وأبرزها الدفاع الوطني، مدفوعة بالانتقام أو الاستباحة كفعل ترهيبي. وخلال سنين العمليات العسكرية في البلاد، شكلت حملات المداهمات المفاجئة والغامضة في أهدافها، وعمليات القصف المتبادلة بين النظام وفصائل المعارضة وإطلاق قذائف الهاون والصواريخ بين الطرفين، قلقاً على الحياة اليومية لا سيما في النهار، في المناطق القريبة من حدود الاشتباك سواء في ريف دمشق، أو دمشق، أو حمص، أو حلب. بعد سقوط النظام، زالت هذه الأسباب، وحل محلّها انتشار السلاح بكثرة مع ضعف الاستجابة والمحاسبة، وانتشار الخطف على خلفيات طائفية وعرقية، وضعف القدرة على التحرك في مناطق الهامش البعيدة عن المركز ( الأرياف والمدن الأكبر).
الاقتصاد المنهار والأمل المعقود
تشير نتائج الاستجابة للأسئلة الاقتصادية إلى فجوةٍ ممتدّة بين الدخل والإنفاق حيث أن 43% يقولون إن دخل الأسرة يكفي بالكاد لتغطية الاحتياجات الأساسية ولا يتوفّر عنه شيء، و42% يقرّون بأنه لا يكفي احتياجاتنا الأساسية ونواجه صعوبات في تغطيتها، فيما لا تتجاوز نسبة من يغطّي دخلهم جيداً ويستطيعون التوفير 11%. ولدى سؤال استراتيجيات سدّ العجز، برزت الاستدانة من الأقارب والأصدقاء (38%) والتحويلات من الخارج (22%) في المقدّمة، ثم المساعدات الأهلية والمحلية بأوزانٍ أقل، بينما بدت القنوات الحكومية والمصرفية ضعيفة الحضور. على صعيد التحويلات، فإن 36% من الأسر تتلقّى تحويلات شهرية من الخارج مقابل 59% لا تتلقّى أي دعم، ما يعني أن شريان الشتات بالغ الأهمية لكنه متقلّب وغير مضمون. هذه الصورة تؤكّد أننا أمام اقتصاد بقاء تُعوِّض هشاشته شبكاتُ التضامن و الدعم الأفقي، لكنه لا يستطيع وحده أن يتحوّل إلى اقتصاد تعافٍ ما لم تُفعَّل أدوات مؤسسية ذكية تقودها الحكومة وفق أسس الحوكمة الرشيدة Good Governance وخطط دعم مستدامة وموجَّه للغذاء والطاقة في الجيوب الأشدّ حاجة؛ أو تحويل جزءٍ من التحويلات إلى أصولٍ إنتاجية صغيرة عبر آليات مطابقة وصناديق دوّارة محلية تُدار بشفافية؛ أو تمويلٌ ميكرويٌّ مضمونٌ بأصولٍ محسوسة (أدوات مهنية خفيفة، وسائل نقل صغيرة، معدات تبريد تجارية، مواشٍ وزراعاتٌ صغرى)؛ أو صندوق حماية الإيجارات لتفكيك قنبلة الطرد القسري التي تفاقم الفقر الحضري. ما قامت به الحكومة السورية من إطلاق "صندوق التنمية السوري" يمثل خطوة نحو تعزيز الاقتصاد الوطني، مع فتح آفاق جديدة للتنمية المستدامة ويجعل منه نواة حقيقية لإعادة الإعمار. وبالتالي إرجاع حالة الثقة بالاقتصاد المحلي المؤسساتي عبر الانتقال من مرحلة الإغاثة إلى مرحلة التنمية، بما يعزز التعايش ويمنح السوريين مستقبلاً مشتركاً قائماً على التعاون وإرادة إعادة إعمار الوطن. الأمر مشابه عندما تكون المحافظات السورية بحاجة على دعم وتمويل، عبر إطلاق حملات محلية رافعة مثل حملة "أربعاء حمص" وحملة "أبشري حوران" وهي كلها مساندة في تعزيز الثقة بشريطة توافر الشفافية والمساءلة ودراسات جدوى واضحة لمشاريع غير وهمية.
الهجرة مقابل جدوى البقاء
على الرغم من أن 67% من المستجيبين لا يرغبون بالهجرة مقابل 27% يرغبون بها، تكشف دوافع الراغبين عمق المعضلة المحيطة بالشاب السوري، حيث إن 40% يُرجعونها إلى الأسباب الاقتصادية وغلاء الأسعار، و35% إلى انعدام الاستقرار الأمني، مع دوافع تعليمية، واجتماعية، وسياسية أقل وزناً. الآن بالنسبة للوجهات المفضّلة تُرتّب أوروبا أولاً (54%) فدول الخليج (17%) فالولايات المتحدة (5%)، ثم كندا وبعض الدول العربية وتركيا. ما يهم هو أن هذه الخريطة ليست أهواءً سياحية، بل تقديراً عقلانياً لبيئات الفرص التي تشكل نجاة من واقع الحرب أو ما بعده على اعتبار أن الأمور لم تستقر عموماً. كل نقطة ارتفاع في نوايا الهجرة تشير إلى نزف حقيقي في رأس المال البشري المطلوب لإدارة الخدمة العامة والإنتاج المحلي في مرحلة إعادة الإعمار. يمكن أن نقول إن انعدام الثقة من المسؤولين في الإدارة السورية الجديدة بالشباب السوري الذي كان موجوداً في سوريا خلال سنين الثورة، وعدم انخراطهم بالفعل بأعمال عسكرية ضد النظام، وتصنيفهم أنهم رماديون من الناحية السياسية، وعدم قدرة هؤلاء الشباب على الدخول إلى سوق العمل السياسي وإتاحة الفرصة امامهم لتشكيل فعل مدني، كلها عوامل تعزز رغبة هؤلاء بالهجرة ( أو السفر كفعل خروج). لذلك، فإن خفض هذا المنحنى يمرّ عبر حِزَم تشغيل كثيفة وإنشاء تعاقدات شفافة تُسدَّد في مواعيدها وتُعلن نتائجها، وإشراكهم في مسارات الاستثمار، وبرامج إقراضٍ صغير مُيسّر مرفقة بإرشادٍ مهني، بما يولّد أثراً خلال 6–9 أشهر على دخل هؤلاء الشباب وتعزز فرص بقائهم.
سيادة القانون والعدالة والشرعية
في مقياس سيادة القانون، يرى 47% أن الدولة تطبّق القانون على الجميع إلى حدٍّ كبير، بينما يعتبر 30% أنها تُميّز لمصلحة بعض الفئات، ويقول 12% إن التطبيق غير موجود إطلاقاً، ونحو 11% لا يعرفون/رفضوا الإجابة. تُظهر هذه النسب أن شرعية السلطة الانتقالية تُختبر يومياً في نقاط الاحتكاك، من خلال تقييم التعامل مع مجرمي الحرب أيام النظام السابق، والتعامل مع تجاوزات العناصر الأمنية الرسمية، وتقييم الاستجابة للطوارئ الأمنية الحاصلة في البلاد، وتقييم الخدمات الأمنية والشرطية الداخلية عبر تسهيل نظم معاملات الكترونية مرتبط بوزارة الداخلية والعدل والمحاكم، وسجلّات شرطية مُؤتمتة تقطع النزاعات والشكاوى بطريقة تختلف عما كان أيام النظام للإحساس بالفرق في المعاملات اليومية. من دون ذلك ستلتهم الرشى الصغيرة والكبيرة حتى أي مكاسب خدمية متعلقة بالإجراءات القانونية، ونعود إلى مربع النظام السابق. عموماً تشير تجارب الإدارة العامة إلى أن نشر لوحات مؤشرات شهرية في الخدمات القانونية من قبيل متوسط زمن الإنجاز، نسبة الطلبات المُغلقة ضمن الأجل، زمن معالجة الشكوى حتى الإغلاق يمكن أن يرفع ثقة الجمهور دورةً بعد أخرى ويتيح لهم المجال أمام المساءلة الحقيقية.
 
تقييم السياسات الداخلية والخارجية
نسبة جيدة من السوريين لا ترى أن السياسات الاقتصادية الداخلية والخارجية تعبّر عنهم، ويمكن تفسير ضعف الثقة الاقتصادية باستمرار حالة التضخّم، وانهيار القوة الشرائية، وغياب رؤية تنموية واضحة، واستمرار شبكات الفساد القديمة/الجديدة بدون محاسبة، وتغوّل شركات وهمية في الاستثمارات الجديدة في البلاد دون شفافية، وطرح مشاريع واتفاقيات تفاهم بقيم عالية دون أن يكون لها ضمان وفق الأسس الاقتصادية ذات الصلة بالمؤسسات والدولة. دخول الشركات الإقليمية وحضور مستثمرين إقليميين لا يعني تحسن الوضع الاقتصادي بالضرورة، طالما أن الخدمات الأساسية المرتبطة بالتعافي الاقتصادي، مثل قطاع الطاقة وقطاع الخدمات المحلية لا تزال ضعيفة وعلى حالها سابقاً؛ مع إنشاء مجلس استشاري اقتصادي مستقل يراجع الموازنات والدعم، ومواثيق أصحاب مصلحة تربط كل تسهيلٍ استثماري بعددٍ واضح من الفرص الوظيفية.
 أما على خط السياسة الخارجية، فالمشكلة مزدوجة: إرث سرّيةٍ وتقاطع مراكز قرار، وغيابُ ورقةٍ بيضاء تُشرح خيارات التموضع الإقليمي ونتائجها على أمن الحدود والممرات التجارية وكلفة الواردات وملف الجولان وملف الأمن الإقليمي وملف الدبلوماسية الخارجية لإنقاذ البلاد من براثن الاحتلال الإسرائيلي والتقسيم المدعوم خارجياً. العلاج ليس الاستفتاء اليومي، بل مسار تشاركيّ مقروء عبر جلسات استماع علنية في مجموعات المجتمع المدني ( والتي لا تزال ضعيفة ومعدومة أحياناً) والمجالس المحلية، طرح أوراق سياسات مبسطة، وبالتالي تصبح صناعة القرار مقروءة، تتحوّل لا ثقة الناس من رفضٍ صريح إلى ترقّبٍ مشروط ، ولا سيما في العلاقات الخارجية والسياسات الداخلية.
الديمقراطية وخشية الفوضى
يؤيد السوريون فكرة النظام الديمقراطي، وإن كانت له مشكلاته، فهو أفضل من غيره، لكن مع فجوةٍ بين الإيمان بالمبدأ والاعتقاد بإمكان تطبيقه فوراً في سورية. يفسّر ذلك إرث السلطوية الطويل، وتجربة انتقالٍ أولية لم تنتج انتظاماً مؤسسياً سريعاً، ومخاوف مجتمعٍ متنوّع من ديمقراطية غير مُقنّنة قد تسطو عليها أكثريات عابرة. لا يمكن بناء نظام ديمقراطي في سوريا من دون الانطلاق من القاعدة المحلية، على اعتبار أن المجالس المنتخبة تمثل الأداة الأهم لترسيخ الديمقراطية، إذ تمنح الناس حق المشاركة المباشرة في القرار، وتحوّلهم من متلقّين لسياسات مفروضة إلى شركاء فاعلين في صياغة مستقبلهم. هذه المجالس قادرة على إدارة شؤون الخدمات والاقتصاد بواقعية، وتعزيز السلم الأهلي، وخلق آليات سلمية لحل النزاعات بعيداً عن الفوضى أو حكم القوى المفروضة. إن تأسيس حكم محلي شرعي وفعّال هو الخطوة الأولى نحو بناء دولة ديمقراطية مستدامة، تنبثق من المجتمع نفسه وتستند إلى خبراته وتجربته. المسار العملي هو ديمقراطية عبر مراحل، حيث البدء بانتخاباتٍ محلية وبلدية شفافة مُراقبة بقضاءٍ انتخابي سريع، وقانون أحزاب وتمويل حملات يحدّ الارتهان، وضماناتٍ دستورية صُلبة للحقوق الأساسية لا تُستباح بتقلّبات الأغلبية، وبهذا فقط يصبح قبول التداول سلوكاً مجرّباً لا شعاراً مُعلّقاً.
 
العدالة الانتقالية والحقّ والاستقرار
أظهرت إجابات السوريين انقساماً متوقعاً حول سؤال وجوب المساءلة ومحاسبة رموز النظام السابق، وكانت الحاجة الأخلاقية والسياسية للعدالة واضحة، والخشية من الفوضى كذلك، مع تصميمٍ مؤسسي لمراحل المحاسبة القضائية حين تتوفّر الضمانات. يوازي ذلك رفع مؤشّر القدرة على انتقاد الحكومة دون خوف عبر تشريعاتٍ تحمي المبلّغين وتجرّم الترهيب وتوفّر مسارات تظلّم فاعلة. الأثر الأمني لهذه الحزمة ملموس، على اعتبار أنه كلما تحرّك الناس داخل المؤسّسات لا خارجها، انخفضت الحاجة للأدوات الخشنة. تقترح المقاربة العملية للعدالة الانتقالية في سورية منظومةً موجَّهة بالبيانات توازن بين مطلب المحاسبة ومقتضيات الاستقرار، عبر مثلث متكامل: كشف الحقيقة بهيئة وطنية مستقلة ذات ولاية زمنية ونفاذ إلى الأرشيفات وحماية للشهادات، وجبر الضرر بسجلّ وطني للضحايا والمفقودين يتيح تعويضات فردية وجماعية ورعايةً صحية/نفسية وتعليمية وإسكانًا للفئات الأشد تضرراً، وضمان عدم التكرار بإصلاح قطاعي الأمن والعدالة عبر تدقيق أهلية فردي وتحديث التدريب وإنشاء آلية شكاوى مستقلة. وتُسند المنظومة إلى ملاحقاتٍ انتقائية للأكثر مسؤولية أمام دوائر متخصصة ونيابة خاصة تراعي توافر الأدلة وسلامة سلاسلها مع برامج لحماية الشهود، وإلى معالجة جرائم اقتصاد الحرب بوحدة لاسترداد الأصول وصلاحيات مصادرة مدنية منضبطة. كما تُسرَّع نزاعات السكن والأراضي عبر مسار قضائي-إداري سريع وحلول بديلة قابلة للتنفيذ، وتُدمَج حساسية النوع الاجتماعي وفئات القُصّر، ويُفعَّل التشاور المجتمعي والشتات، وتُعتمد خطة تواصل شفافة ومؤشرات أداء قابلة للقياس وجدولٌ زمني من 100 يوم إلى ثلاث سنوات مع إدارةٍ دقيقة للمخاطر. ما يجب الإشارة اليه في السياق السوري أن العدالة الانتقالية ليست ضدّ الاستقرار، بل شرطه الأخلاقي والمؤسسي، ونجاحها يُقاس بنتائج ملموسة في حياة الناس.
 
هندسة المزج الاجتماعي
تتسع في سوريا ما بعد الأسد المسافة الاجتماعية، وتتفاقم الحساسيّات الطائفية/الجهوية، ما يفرض هندسة دمج اجتماعي مقصودة تعيد بناء الهوية الوطنية عبر خدمةٍ مدنية وطنية، ومنحٍ تبادلية، وتجمعات سكنية مختلطة، وفعاليات محلية شفافة. ما حصل بعد أحداث الساحل في آذار/مارس وأحداث السويداء في تموز/يوليو 2025، كشف هشاشة هذه الهندسة وضعف البنى الاجتماعية على المستويين الواقعي والافتراضي، وخلق مسافة اجتماعية لا يمكن رأبها على المدى القريب. تفاعل السوريين من طوائف متنوعة كان صادمًا لكنه متوقع في ظل الشحن الطائفي وإعلاء فرضية هيمنة الأكثرية على القرار الاجتماعي والتنقلات في البلاد.
 تقوم الهندسة الاجتماعية هنا على تصميم البيئات لا الخطابة، لسدّ أربع فجوات تبدأ من الثقة الأفقية بين المكوّنات، والثقة العمودية مع الدولة وضعف المساواة وفساد الشبابيك، وأمن الحياة اليومية، والقدرة على التعبير. يترجم هذا عبر تنفيذ تعليمٍ مزجّي وتوأمة مدارس، تخطيطٍ عمراني يوفّر مرافق آمنة، نوافذ واحدة وخطوط شكاوى فعّالة، برنامج خدمةٍ مدنية وصندوق منافع محلية، ومنظومة إعلامية/رقمية تقلّل التضليل بمختبر رسائل ومحو أمية رقمية ومشاركة عامة في السياسات، إلى جانب مسار عدالةٍ انتقالية يدمج الحقيقة مع مساراتٍ سريعة لحقوق السكن. أخلاقيًا تستند إلى الشفافية وعدم التنميط والتناسُب والمساءلة، وتُقاس بمؤشرات واضحة (المسافة الاجتماعية، إدراك الأمان، جودة الخدمة، تراجع الفساد، الثقة بالسياسات، القدرة على النقد، ونوايا الهجرة). الانتقال من الشعارات إلى تصميم الحوافز والبُنى، هو الطريق لإعادة وصل المجتمع بمؤسساته وجعل المساواة الاجتماعية قابلة للتطبيق وترسيخ شرعية أداء اجتماعي واضحة.
 
الدِّين في المجال العام والفضاء الرقمي
يُظهر المزاج العام في سوريا توازناً واضحاً بين قبول الدين كمرجعيةٍ أخلاقيةٍ وثقافية على مستوى المجتمع، وبين تفضيل حياد الدولة ومؤسّساتها عن التوظيف السياسي للدين؛ ما يخفض كلفة الأمن ويسهّل إدارة التنوع. ويتبدّى من الخبرة المريرة مع التشدّد والصراع الطائفي والديني على مدار 14 عاماً مضت رفضٌ واسع للتديّن السياسي السلطوي مع ترجيح تديّنٍ شخصي يحترم الحريات. عملياً، وبحسب الاستجابات، تتجه التفضيلات نحو دولة مدنية بخصائص علمانية مؤسّسية: قائمة على مساواة مواطنية بلا تمييز ديني أو مذهبي، وفصلٌ بين صنع القرار العام والمرجعيات الدينية، مع مكابح دستورية تحول دون استبداد أي أغلبية باسم التفويض الديني. وفي هذا الإطار تُرفض سرديات تفوق مذهبي -سنّياً كان أو غيره- لأن شرعية الدولة تُبنى على تكافؤ الفرص وسيادة القانون لا على تراتبيات الهوية، أو الدين، أو الطائفة، أو المذهب. وتتمثّل الاستجابات السياسية الرشيدة في دسترة الحياد الديني، وقانون أحوالٍ مدنيٍّ اختياري، ومناهج مدنية وإعلام عمومي مهني، وحوكمة محايدة لدُور العبادة، وعدالة انتقالية تُحاسب الفعل لا الهوية. هكذا فقط يتعزّز الإحساس بالأمان، وتُدار التعدديّة بطمأنينة، ويُعاد بناء الثقة الأفقية بين المكوّنات والعمودية بين المجتمع والدولة.
 
الحرية الإعلامية وفوضى التواصل
بات الفضاء الافتراضي الساحة الأوسع للتعبير والمشاركة في سوريا، بعدما ضاق المجال العام التقليدي بفعل الحرب والقيود السياسية، فوسائل التواصل لم تعد مجرد منصات شخصية، بل تحولت إلى بديل سياسي واجتماعي يمنح الأفراد متنفساً للتعبير والانخراط في الشأن العام. غير أن هذا الاتساع ترافق مع حالة من الفوضى الإعلامية والسعار الافتراضي، حيث تغدو القضايا الكبرى عرضة للتشويه أو للتبسيط المفرط في سبيل اللحاق بـ “التريند”، ما يضعف النقاش الجاد ويحوّل التفاعل إلى سباق على جذب الانتباه أكثر مما هو بحث عن حلول أو مواقف مسؤولة. فبينما يرى السوريون في هذه المنصات مجالًا للتحرر والانفتاح، فإنها في الوقت نفسه أصبحت مرتعًا للخطاب الطائفي، وللهجوم الشخصي، وللانفلات الأخلاقي في التشويه والرصد والمراقبة، فضلاً عن كونها بيئة خصبة لترويج الأخبار الزائفة. بحسب مؤشر مسبار للأخبار الكاذبة بقيت سوريا متصدرة في نشر الاخبار الكاذبة والمفبركة منذ كانون الأول/ديسمبر 2024 وحتى تموز/يوليو 2025، ما يعكس عمق الازمة الأخلاقية على منصات التواصل الاجتماعي في سوريا. واللافت أن نسبة ملحوظة من السوريين تعتقد بقدرتها على نقد الحكومة من دون خوف، ما يعكس إحساساً متزايداً بهامش جديد للحرية يصعب ضبطه، لكنه في غياب ضوابط مهنية وأخلاقية يتحول أحياناً إلى فوضى إعلامية تفقد النقاش جوهره. ومع هذا، فغن سوريا ا تزال متذيلة لمؤشر حرية الصحافة Freedom House Index بمركز 5 من 100، ومصنفة كبلد غير حرة إعلامياً. وهكذا يصبح العالم الرقمي في سورية ساحة مزدوجة الوجه: فرصة للتعبير وإعادة إنتاج السياسة والهوية، لكنه في الآن ذاته تهديد بترسيخ الانقسام والتضليل والانزلاق نحو الاستعراض الإعلامي، الأمر الذي قد يعرقل إعادة البناء الوطني ويشوّه صورة القضايا المركزية في الوعي العام.
التموضع الإقليمي والملف الفلسطيني
ما يزال الموقف الشعبي من القضية الفلسطينية وخطر الوجود الإسرائيلي في المنطقة يشكّل حجر الزاوية في الوعي الوطني السوري، حتى بعد سنوات الحرب والانقسام الداخلي. فالسوريون لا ينظرون إلى إسرائيل باعتبارها قوة احتلال فحسب، بل كفاعل يعمل باستمرار على إضعاف الدولة وتفكيك نسيجها الاجتماعي عبر تغذية النزعات الانفصالية وإذكاء التوترات الداخلية، ما يجعلها في المخيال السوري مصدر تهديد شامل للأمن القومي والوحدة الوطنية. في المقابل، ما تزال القضية الفلسطينية تحتفظ بمكانتها المركزية في الوجدان السوري باعتبارها قضية العرب جميعاً، وهو ما يعكس إدراكاً بأن فلسطين ليست ملفاً خارجياً، بل جزءاً من تعريف الهوية السورية ذاتها وامتداداً مباشراً لمصيرها.
أما الجولان، فقد بقي رمزاً سيادياً لا يقبل المساومة، وخطاً أحمر يعيد توحيد السوريين حوله، بحيث يصبح أي تنازل فيه بمثابة تفريط بالدولة والهوية. على الرغم من الانقسامات الحادة التي أنتجتها الحرب بين السوريين، فإنهم ما يزالون يجتمعون على ثوابت كبرى ترفض التطبيع المنفرد، وتربط بين الأمن الداخلي ومواجهة التدخلات الإسرائيلية، وتدين التدخلات الاسرائيلية وتضع فلسطين والجولان في صلب الهوية الوطنية. بهذا المعنى، فإن المؤشر يكشف أن الهوية السورية ما بعد الحرب لا تُبنى فقط على إعادة ترتيب الداخل، بل أيضاً على تثبيت البوصلة تجاه قضايا الصراع الكبرى التي تمنحها معناها وشرعيتها. المعضلة اليوم ليست فقط وجود إسرائيل في الجولان او فلسطين، بل تكمن بتحكمها بالمجال الجوي والأرضي السوريين، وقدرتها على الوصول إلى أي منطقة تريدها لا سيما في الجنوب السوري؛ وهذا ما يخلق فجوة في الخطاب بين الواقع والمأمول، وبين الواقعي والافتراضي، ويتركنا امام حسابات مفتوحة متعلقة بالسيادة والاستقلال في القرار والقدرة على الدفاع، حتى أمام مخططات التقسيم والعزل التي تسعى لها تل أبيب في الجنوب السوري.