عن تغيير لم يكتمل بعد في سورية
30.07.2025
ميشال شماس
عن تغيير لم يكتمل بعد في سورية
ميشال شمّاس
العربي الجديد
الثلاثاء 29/7/2025
في لحظة مفصلية وتاريخية من عمر بلدهم، ظنّ السوريون أن سقوط الأسد سيمثّل نقطة تحوّل لا رجعة فيها، وبانهيار النظام سيتحرّر المواطن، وتُبنى الدولة المنشودة على أسس الحرية والكرامة والعدالة، فالأمل الذي رافق لحظة هروب الأسد والفرحة التي عمّت الشوارع حين بدأت ملامح التغيير تلوح في الأفق كانا أشبه بإعلان ولادة وطن جديد تخلّص من قيد دام عقوداً. لكن هذا الأمل سرعان ما بدأت تتسلل إليه شكوك عميقة. لم تكن الأسئلة التي طرحتها المرحلة اللاحقة عمّن سيقودها فحسب، بل عن جوهر التغيير نفسه. هل سقط الأسد فعلياً؟ أم أن رمزه ما زال حيّاً فينا، في مؤسّساتنا، وفي وعينا، وفي طريقة تفكيرنا ومقارباتنا للحكم؟ هل تغيّر الشكل فقط؟ أم أن ثقافة الاستبداد لا تزال كامنةً، وتتخفّى تحت شعارات المرحلة الجديدة؟
القطيعة الشكلية لا تُسقط منظومة الاستبداد، فالأنظمة التي استمرت عقوداً، مثل نظام الأسد، لا تُختزَل بشخص، بل تترك خلفها أنماطاً سلوكية، ومنظومات فكرية، وشبكات من المصالح، وأدوات حكم لا تختفي بمجرّد رحيل الرمز. عندما تُستخدَم مقارنات دائمة مع "عهد الأسد" لتبرير التجاوزات، وعندما يُقال إننا "أفضل ممّا كنا عليه"، فإننا في الحقيقة نعيد استدعاء الماضي معياراً، ونحوّل الفشل إنجازاً، ونعيد تدوير الأزمة بأشكال أكثر ليونة.
لم يكن الاستبداد في سورية مجرّد قرار سياسي، بل منظومة اجتماعية وثقافية تغلغلت في كلّ تفصيلة
لا تُقاس الحرية الحقيقية بالابتعاد عن الأسوأ، بل بالاقتراب من الأفضل، فالمنتقدون للمرحلة الجديدة لا يحنّون إلى الماضي كما يحاول بعضهم تصويرهم، بل يحلمون بمستقبلٍ مختلف كلياً، تكون فيه الحقوق مصانةً، والمساءلة قائمةً، والكرامة غير قابلة للتفاوض. وهم لا يعارضون بناء الدولة، بل يسعون إلى صياغة أسسها على قواعد مدنية ديمقراطية لا تقبل التسلّط أو الوصاية.
حين نُمنع من نقد المرحلة، وحين تتحوّل الشخصيات الجديدة رموزاً لا تُنتقَد، يعود الاستبداد، ليس من بوابة السياسة، بل من بوابة التقديس والتبرير. الخطورة أن يتحوّل الرمز الجديد مرجعيةً لا تُمسّ، وأن تصبح الممارسات السلطوية مغلّفةً بلغة وطنية أو ثورية، تمنع التقييم وتخنق المساءلة. ليس من المفترض أن تُدار المرحلة الجديدة بمنطق "ضدّ الأسد"، بل بمنطق "مع الإنسان". لأن هذا التحوّل يجب ألا يُصاغ ردّة فعل على الماضي، بل استجابةً لتطلّعات الشعب السوري نحو العدالة والمساواة والحرية. فالدولة التي تُبنى على المقارنات لا تخلق واقعاً جديداً، بل تحاكي الماضي بطريقة أكثر نعومة. وإذا لم يكن المعيار هو العدالة، والمحاسبة، والشفافية، واحترام الكرامة، فإن النظام القديم لم يسقط فعلياً.
في سورية، لم يكن الاستبداد مجرّد قرار سياسي، بل منظومة اجتماعية وثقافية تغلغلت في كلّ تفصيلة. والخوف الذي ترعرع في البيوت، في المدارس، في الإدارات، وفي الحوار اليومي، لا يُزال بسهولة. لذلك، ليست الحرية لحظةً تُعلَن، بل رحلة طويلة تحتاج إلى تراكم تربوي، وشجاعة مجتمعية، وممارسة يومية في مساءلة الذات قبل مساءلة الآخرين. الأسد فكرةً، منهجاً، وسلوكاً، لا يسقط إلا بإسقاط أدواته: قمع الصوت الآخر، تقديس الزعامة، وتطبيع الظلم. ليس كافياً أن يُقال "سقط الأسد"، بل يجب أن نُسائل أنفسنا: هل سقطت ثقافته؟ هل تغيّر منطق السلطة؟ هل صار المواطن قادراً على قول "لا" من دون خوف؟ هل أصبح النقد مشروعاً لا خيانة؟ إن بقاء المحرّمات، واستمرار التقديس، وعدم سماع أصوات المعارضة، ولو بصيغة أخفّ، تعني أن الأسد سلوكاً ما زال حيّاً بيننا.
الدولة التي تُبنى على المقارنات مع الماضي لا تخلق واقعاً جديداً
يبدأ بناء الدولة الحقيقية حين يُساءل من يزعمون قيادتها، فالشجاعة لا تقتصر على مواجهة الخصوم الخارجيين، بل تمتدّ إلى الاعتراف بإخفاقات الداخل، ومساءلة من يحتكر تمثيل المشروع الوطني. لا مستقبل مع التبرير المستمرّ، ولا بناءَ جديداً بلا نقدٍ واعٍ يضع أسساً متينةً لما هو آتٍ، بدل إعادة صياغة الماضي بأسماء جديدة. لذلك، فإن مرحلة ما بعد الأسد يجب أن تُصاغ بوحي المستقبل لا ردّة فعل على الماضي. وإن اعتبار سقوط الأسد نهاية المعركة هو وهم قاتل، لأن التغيير الحقيقي لا يأتي برحيل الأشخاص فقط، بل ببناء مؤسّسات تحكم بالقانون، تُحاسَب بالشفافية، وتُختار بإرادة الشعب. نحن لا نحتاج شخصيات "ضدّ الأسد"، بل نحتاج رموزاً "مع سورية الجديدة"، متعدّدة، عادلة، ديمقراطية، تضع الإنسان في صلب المعادلة، وتؤمن بأن الدولة تُبنى على الكرامة، لا على الولاء.
من يُخفي إخفاقاته خلف شمّاعة الماضي لا يبني مستقبلاً، بل يُكرّر حاضره، والمرحلة الجديدة لا تتطلّب طقوساً للولاء، بل شجاعةً في النقد، وجرأةً في المساءلة، ورغبةً صادقةً في التغيير. لا يمكن الحديث عن تحوّل حقيقي من دون مواجهة صريحة مع ثقافة الأسد، التي لا تزال تسكن تفاصيل السلوك السياسي والإداري والاجتماعي، أحياناً بوعي، وأحياناً من دون إدراك. كلّ من يرفض النقد، ويبرّر القمع، ويُخوّن المطالبين بالعدالة، يُسهم في إبقاء هذه الثقافة حيّةً، ولو رحل الرمز.
التحرّر من نظام مستبدّ ليس النهاية، بل نقطة الانطلاق. والتأسيس لسورية الجديدة لا يكون بإزاحة الأفراد، بل بإعادة تشكيل العقل السياسي والاجتماعي الذي يُدير الدولة. حين نتوقّف عن استخدام الأسد ذريعةً، أو معياراً، أو فزّاعةً، ونبدأ في بناء حاضرٍ يُحاسَب بمعايير مستقلّة، فقط حينها يمكن القول إن الأسد قد سقط فعلاً، لا اسماً فحسب، بل منظومةً فكريةً وسلوكيةً لا مكان لها في وطنٍ يطمح للحرية. أمّا إذا واصلنا التبرير، وأسكتنا الأصوات المنتقدة تحت ذريعة "المرحلة تتطلّب ذلك"، وإذا واصلنا قياس كلّ خطوة بمقارنة مع الأسوأ، فإننا لا نعيش حرّيتنا، بل نستمرّ في ظلّ الأسد.
سورية الجديدة لن تُبنى بمنطق "ضدّ الأسد"، بل بمنطق "مع الإنسان".