الرئيسة \
تقارير \ عن "فاغنر" و"فيلق المتطوعين" والحرب الأهلية الروسية
عن "فاغنر" و"فيلق المتطوعين" والحرب الأهلية الروسية
03.07.2023
وسام سعادة
عن "فاغنر" و"فيلق المتطوعين" والحرب الأهلية الروسية
وسام سعادة
القدس العربي
الاحد 2/7/2023
هو يوم وحيد. لم يكن مقدّراً فيه لعُفاشة “شركة فاغنر” هزّ العالم – إذا ما استعدنا عنوان كتاب جون ريد الشهير “عشرة أيّام هزّت العالم”، الذي سجّل فيه شهادته المواكبة للانتفاضة البلشفية خريف العام 1917. لكنّ “فاغنر” تكفّلت في ذلك اليوم، 23 حزيران/يونيو 2023، بهزهزة العقول.
شريط متسارع من “اللامعقول”، تسمّرت الناس عبر الكوكب لمتابعته في ذهول خلال ساعات قليلة: آلاف المسلحين يغادرون مواقعهم ضمن الأراضي الأوكرانية المحتلة، لأجل غزو بلادهم، ويمضون كأنهم محمولون على بساط الريح. يسيطرون على مركز قيادة الجيش الروسي في روستوف. يتقدّمون إلى فورونيج. يتوعّد رأسهم يفغيني بريغوجين بشنق وزير الدفاع، الشخص الأقل شعبية في روسيا اليوم، وسط الساحة الحمراء. يقومون بإسقاط طوافات حربية روسية حاولت عرقلة تقدّم المسير. يصلون إلى ضواحي موسكو على أعتاب الغروب.
تهديف بريغوجين على شويغو يجعل من الصعب عملياً على بوتين التخلي عنه. وان كان هذا التهديف يزيد من تصدع صورة شويغو، الذي وبعد أن تبختر بما “أنجزه” – بمعية فاغنر – في الحرب السورية، صار عنواناً للرعونة في الحرب الأوكرانية. إلا ان شويغو لم ينبس ببنت شفة في مقابل هجمة فاغنر. فضّل أن يتخذ لنفسه وضعية “خادم الدولة” بصمت.
سهم على موقع “غوغل ماب” يظهر مدى تقدم قوات فاغنر نحو الشمال. تخلو العاصمة من المارة ويبدو فيها كل قطاع عسكري وأمني كأنه ينتظر ما الذي سيفعله سواه. تقطع الجسور في المناطق المتاخمة لموسكو. يبدو كما لو أن ريتشارد فاغنر يتأهب لطهو “بجعات تشايكوفسكي” على مسرح البولشوي! ديمتري ميدفيديف، نائب رئيس مجلس الأمن الروسي (ورئيس كل من الدولة والحكومة قبل ذلك، عندما كانت تحلو المداورة لفلاديمير بوتين) يستغيث – عملياً – بالغرب: حذار وقوع أسلحة الدمار الشامل بيد “فاغنر”. نغمة تلقى صدى في العواصم الغربية: المعلوم أفضل من المجهول في موسكو.
رهاب لينين
في هذا الوقت كان الرئيس الروسي قد أطل ووصف التمرّد بالخيانة العظمى، ودعا في الوقت نفسه المتمرّدين إلى تحكيم العقل / الضمير، أو ما يعادله، وقارن فعلتهم بما حدث عام 1917.
قال إن روسيا – القيصرية – كانت على أهبة الانتصار في الحرب العالمية الأولى، ثم جاء من يحرفها عن هذا المسار، ويدفعها نحو الحرب الأهلية.
في الوقائع التاريخية، كان بوتين يشير إلى نجاح “هجوم بروسيلوف” صيف العام 1916 الذي تمكّن فيه جيش الإمبراطورية الروسية من تحقيق تقدّم نوعيّ على الجبهة الغاليسية – الكارباتية في مواجهة النمسا-مجريين والألمان.
فبعد هذا التقدّم الروسي الكبير على الجبهة بأشهر قليلة اندلعت ثورة فبراير 1917 التي أرغمت القيصر نقولا الثاني على التنحي.
ما لم يستوعبه بوتين – ولم يكلّف أي مؤرّخ عسكريّ في حاشيته إطلاعه على الأمر – أن هجوم بروسيلوف هذا، والكلفة المرهقة جدّاً للتقدّم المحقق على الجبهة في إطاره، وترافقه مع تدهور الحال المعيشية والتموينية، هو الذي فتح الطريق لانفلات الوضع في الداخل الروسي وليس العكس.
وما يغفله أيضاً، أنّ تراجع شعبية القيصر نقولا دفعت بالستافكا، قيادة الأركان الروسية، لعدم الوقوف حجر عثرة دون تنحيته، بل أنها دفعت عملياً في هذا الاتجاه، اقتناعاً منها بأنها أقدر على خوض الحرب من دون القيصر نقولا. فالمركب العسكري – الصناعي قويت شوكته في سني الحرب، وصار يضيق ذرعاً بعشوائية البلاط والأريستوقراطية.
ونقولا الثاني عاند قانون وراثة العرش بأن سمّى أخيه بدلاً منه، فما كان من أخيه إلا أن أعرض عن قبول المنصب الإمبراطوري، وهكذا شغر عرش آل رومانوف!
لكن بوتين كان يقفز في إسقاطه إلى الغمز من قناة البلاشفة. علماً أن هؤلاء تفاجأوا مثلهم مثل سواهم بانفجار الوضع الشعبي في العاصمة القيصرية، بتروغراد، مع ثورة فبراير، وانخرطوا فيها مثلهم مثل سواهم، ليظهر من ثم تمايزهم عن بقية المكونات المنخرطة في الثورة، بعد ذلك بشهرين، مع عودة فلاديمير لينين من منفاه السويسري، بالتفاهم مع الألمان، وقيادته خط المطالبة بالانسحاب الفوري لروسيا من الحرب، الأمر الذي لم يكن بمقدوره لوحده أن يفجّر المسائل لولا أن أضيف عليه صاعق ثوري مدهش، تمثل باعتماد “الديمقراطية” بين العسكر، وانبثاق مجالس مندوبيهم التي قلبت الهرمية العسكرية رأساً على عقب.
لكنّ البلاشفة ما كان لهم مع ذلك باب للوصول إلى السلطة. في تموز/يوليو 1917 وجدوا أنفسهم منقادين إلى اصطدام غير متحسب لأقصى يسار الثورة بكافة أطيافه مع الحكومة المؤقتة الثانية بقيادة الكسندر كرينسكي. أدى ذلك لقمعهم وتشريدهم من جديد. ارتياب البريطانيين من كرينسكي وبعض أعضاء حكومته، من كونهم يخططون لصلح منفرد مع الألمان، هو الذي سيفتح الباب. سيتحلق أقصى يمين المشهد حول الجنرال القوزاقي لافر كورنيلوف، والأخير سيزحف على العاصمة أواخر اب/أغسطس 1917. شيء من مشهدية زحف فاغنر تحاكي زحف كورنيلوف.
كورنيلوف كان يريد قمع القوى المعترضة على استكمال الحرب. أما فاغنر فانتفضت بالضد من الكلفة العشوائية الباهظة لحرب مثلت فيها أداتها الضاربة في معارك تخريب المدن الأوكرانية.
هجوم كورنيلوف على بتروغراد أضعف حكومة كرنسكي، وقوّى في المقابل من حيث لم يرد حزب البلاشفة، الذين استغلوا الهجوم المعادي لإعادة بسط نفوذهم من بعد تضعضع، والظهور بمظهر المدافع عن الحرية في وجه العسكر، ومن ثم، أسرعوا الخطى للاستيلاء على السلطة، كي لا يقتلعهم أمثال كورنيلوف من جديد، الأمر الذي فتح الباب – هنا بالفعل – لسياق الحرب الأهلية.
قطعاً لم يقصد بوتين كورنيلوف وانقلابه الفاشل حين عاد بالذاكرة إلى العام 1917. كان يوجه مرة أخرى افتراءه ضد لينين. فبوتين استطاب منذ وصوله هذه اللعبة: الحقد على لينين (هادم امبراطورية القياصرة) والتشفّع في المقابل لستالين (باني الامبراطورية القيصرية) من جديد. بالتوازي، بمستطاعه تدجين القوميين والشيوعيين الستالينيين الروس في الدوما، واغتيال معارضين ليبراليين أو اعتقالهم. إرث لينين مريب أكثر بالنسبة إليه. يرمز عنده إلى امكانية انفلات الوضع عن السيطرة. البوتينية ظاهرة تستثمر في النوستالجيا السوفييتية كما القيصرية، لكنها مصابة بشكل حاد برهاب لينين. ليس تفصيلا هنا أن يكون بوريس يلتسن قد أبقى على يوم الثورة البلشفية، يوم 7 تشرين الثاني/نوفمبر، كعيد عطلة وان بدّل التسمية إلى “عيد الوئام الوطني والمصالحة”، ليأت من ثم بوتين وينقل يوم العطلة هذا إلى يوم آخر، هو يوم الوحدة، 4 تشرين الثاني/نوفمبر، استذكارا لطرد الروس البولونيين من موسكو عام 1612. في المقابل، استعاد بوتين لحن النشيد السوفييتي. وبدل الكلمات. سيرغي ميخالكوف نفسه الذي كتب عام 1944 “ستالين يربينا، ستالين يلهمنا” في هذا النشيد، وأشرف على تنقيح النشيد لاحقا في مرحلة نزع الستالينية، أرضى بوتين عام 2000 بصيغة “الله يحفظنا” على اللحن نفسه!
الجيش الواقف بين “الجهازيين” و”المرتزقة”
انقلاب كورنيلوف الفاشل كانت له نتيجة عكسية: تمكين البلاشفة. هل من نتيجة عكسية لتمرد فاغنر؟ الفارق يبقى أن كورنيلوف كان ضابطاً في الجيش الروسي. في المقابل، فاغنر قوة رديفة. وضعها غير قانوني في روسيا، لكن جهاز الدولة الأمني هو الذي هندس قيامها. كوادرها الأساسية ضباط متقاعدون في الجيش الروسي، وجدوا رواتب أعلى وبيروقراطية أقل واشباعاً أوفى لحس المغامرة ضمن الشركة الأمنية العسكرية العابرة للبلدان.
فاغنر هي الشاهد الوحيد على أن روسيا استرجعت بعد زوال الاتحاد السوفييتي امبرياليتها بعيدا عن حدودها. إلى ان اصطدم هذا الشاهد مع امبراطورية الخيال البوتينية.
مساء 23 حزيران/يونيو جاء تدخل الرئيس البيلوروسي، الأكثر توازنا بالنسبة إلى نوستالجياه السوفييتية مقارنة بالفصام البوتيني. و”سويت المسائل”، لا نعرف كيف. ألغيت جميع التعقبات ضد بريغوجين والمتمردين، الذين عادوا أدراجهم، وتنقلوا مجدداً في طريق مغادرتهم للمراكز التي استولوا عليها، دون أن يسائلهم أحد. تهمة دسمة في الصباح: خيانة الوطن. وعفو عند “اللامقدرة” في المساء.
والجيش الروسي؟ يقف بين “جهازيين” قادمين من المخابرات، لا منه، بمن فيهم وزير الدفاع الذي يهوى البزة العسكرية والنياشين دون أن يكون قد قدم من الجيش، وبين أعضاء سابقين من الجيش لكنهم يعملون في شركة تجهيز وبعث مرتزقة.
بعد يومين على التمرد، عاد بوتين وأكد بأن معظم مسلحي فاغنر وطنيون. وطنيون تورطوا في خيانة كبرى لولا تدخل الرئيس البيلوروسي الذي كان لنظامه جردة حاسمة ضد عمل فاغنر على أرضه قبل بضع سنوات، وهو الآن يستقبلهم على أرضه!
خيانة وطنية في النهار تنتهي بانهاء التعقبات في الليل حيال من زحف من روستوف على العاصمة!
التشكيلات المضادة
في المقابل، قبل أشهر قليلة نال نائب شيوعي روسي غرامة مالية لأنه علّق شعيرات معكرونة على أذنيه وهو ينصت أمام حاسوبه لفلاديمير بوتين هازئاً منه. مع أن الحزب الذي ينتمي إليه هذا النائب يطالب زعيمه، غينادي زيوغانوف، بالالتفاف حول بوتين في الحرب. وقد تدافع نواب روسيا الموحدة البوتينية لتوبيخ الحزب الشيوعي على فعلة نائبه غير المنضبط.
نائب شيوعي روسي آخر كان قد شرد عن حزبه المطيع لبوتين ليذهب إلى مطرح آخر كليا، انه ايليا بونوماريف، العضو الوحيد في مجلس دوما الدولة الذي صوّت ضد ضم روسيا للقرم عام 2014. اتهم بعدها بالتآمر على النظام، و”النيوتروتسكية” وانتهى به الأمر منفياً إلى كييف. وفيها أسس فصيلاً مسلحاً، الجيش الوطني الجمهوري، يعمل بتوجيه من القوات الأوكرانية ضد روسيا، أسوة بتشكيلات نازية جديدة روسية، تقاتل هي الأخرى في صف الأوكران، مثل فيلق المتطوعين الروس، وفيلق روسيا الحرة. ومع أن بونوماريف قادم بعكس هؤلاء من اليسار، إلا أنه ارتضى التوقيع على إعلان ايربين الصيف الماضي لتنسيق هجمات الفصائل المسلحة الروسية المعاونة للأوكران ضد بوتين، وهو ما تمخضت عنه عمليات في العمق الروسي في الفترة الماضية، وثمة أرضية ملائمة لتزايد هذا النوع من الظواهر، المقاتلة ضد النظام والجيش الروسيين، المتعاونة مع الأوكران والغربيين، لا سيما ان “التسرب” باتجاههم متوقع من الآن فصاعداً سواء من جانب جنود وضباط في الجيش الروسي، أو من جانب من “الفاغنريين” أو “الموسيقيين” كما تشتهر تسميتهم بين الروس اليوم.
لقد لوّح بوتين يوم التمرد الفاغنري التراجي-كوميدي بخطر وقوع بلاده في الحرب الأهلية. لكن ما يحدث منذ 2014 في حوض الدونباس، وامتدادا إلى أوكرانيا ككل منذ العام 2022 وباتجاه الداخل الروسي، سواء مع هجمات التشكيلات الروسية المعاونة للأوكران، أو مع تمرد فاغنر، كل هذا يدخل في سياق “حرب أهلية في الإتحاد السوفييتي السابق” أو قل هي الحرب الأهلية الروسية الثانية بعد تلك التي عرفها التاريخ بين الأعوام 1918-1921. الدونباس مركز الحرب الأهلية الحالية، كما كان حوض الدون ككل مركزا أساسيا للحرب الأهلية السابقة. أوكرانيا دائرتها مرة جديدة. لكن مناخات هذه الحرب تتسلل أيضاً، بأشكال مختلفة، إلى روسيا الاتحادية نفسها.
وما يميز الحرب الدائرة رحاها في أوكرانيا من الجهتين أنها لا تنحصر بحرب بين جيشين نظاميين. فمن الجانب الأوكراني، ثمة “كتيبة آزوف” وسواها من المنظمات القتالية التطوعية اليمينية المتطرفة، وان قامت كييف بدمج هذه التشكيلات بالحرس الوطني، ثم ابتدعت لها لاحقا ما أسمته “الحرس الهجومي”. ومن الجانب الروسي، “فاغنر” وجماعة قاديروف. قاديروف هذا الذي تصور بوتين أنه بمستطاعه أن يعممه كنموذج على كل أرض: متمرد عليه يستميله له ويستثمره في وجه خصومه. لكن قاديروف لم يتعمم نموذجه. لا سيما في أوكرانيا الذي إذ سقط فيها عام 2014 نموذج فيكتور يانكوفيتش، لم يظهر فيها، حتى بين الأوكران الروس الإثنيين، من ظاهرة زعامية حيوية يمكن ان تتكئ السياسة الروسية في أوكرانيا عليها.
الحرب تجري إذا بالتداخل على جانبي النزاع بين لاعبين نظاميين وبين لاعبين موازين، وتفلح فيها كييف فيما تعثرت به موسكو: ربط الميليشيات، أوكرانية وروسية منشقة، بقيادتها العسكرية. في حين لا تواجه موسكو مجرد حالة خروج عن السيطرة، وإنما هي تواجه مشكلة أوسع: مجتمع مفتقد تقريباً للقوى الحيّة. سواء كانت قوى حية في اتجاه الحرب، أو في اتجاه السلم. مجتمع لم يستفق بعد من صدمة زوال الاتحاد السوفييتي وحاولت البوتينية أن تسوق له منذ عشرين مضت بأن كل ما يبعث الامبراطورية، سواء كانت قيصرية أو سوفييتية، جيد. هذا في مقابل بقاء النزعة القومية، على غلوائها الكلامية باردة، غير مستعدة ولا متطلعة لأن تكون أيديولوجيا شعبية تحرك الجماهير أبدا. فما يطالب به النظام ناسه ليس أبداً أن يتحركوا دفاعاً عنه. بل على ما طلبه عمدة موسكو منهم يوم هجمة عفاشة فاغنر أن يلازموا منازلهم! بالتوازي، هم يعلن أنه في حرب مع النازيين الجدد، لكنه كان يعتمد حتى الأمس القريب في مواجهتهم على تشكيل يحمل اسم فاغنر وليس بروكوفييف أو شوستاكوفيتش! ويباهي قادة فاغنر بأنهم نازيون جدد هم أيضاً. أيضا المنشقين عن بوتين الذين يحاربون مع الأوكران ضده، كفيلق المتطوعين الروس وفيلق روسيا الموحدة، يرفعون شعارات نازية. ويختلط الحابل بالنابل هنا. النوستالجيا السوفييتية بمحاباة النازية الجديدة على المقلب الروسي. والتعاون بين تشكيلات نازية جديدة روسية مضادة لنظام موسكو وبين نائب شيوعي سابق، على المقلب الأوكراني. تتطاير اذاك سردية “الحرب الوطنية العظمى” التي سعى الاتحاد السوفييتي إلى بناء وطنية جامعة لمختلف جمهورياته ومكوناته انطلاقا منها، علما ان بوتين كان السباق إلى الطعن بهذه السردية عام 2007 حين ادعى ان الروس لوحدهم، كان باستطاعتهم تحقيق النصر عام 1945 دون سائر الجمهوريات السوفييتية الأخرى!