الرئيسة \  تقارير  \  علام تؤشر كثرة المبادرات السورية؟

علام تؤشر كثرة المبادرات السورية؟

07.08.2025
حسان الأسود



علام تؤشر كثرة المبادرات السورية؟
حسان الأسود
سوريا تي في
الاربعاء 6/8/2025
سبقَ سقوطَ نظامِ الأسد خروج مبادرات كثيرة للعلن من أجل انهاء حالة الاستعصاء السورية، بعضها من دولٍ وحكومات مهتمة بالشأن السوري، وهذه وجّهتها بالدرجة الأولى لرأس النظام البائد، لكنّها لم تلق منه قبولًا، وأدّى تجاهله إياها في النهاية لسقوط نظامه وهروبه شخصيًا والمقربين منه خارج البلاد.
سبب فشل تلك المبادرات الإقليمية والدولية أنّها غضّت الطرف عن بنية النظام العفنة، وأنّها حاولت تجاوز جرائمه منقطعة النظير، وأنها قفزت على تضحيات الشعب السوري الذي ناضل جزءٌ كبيرٌ منه للوصول إلى الديمقراطية والحرية. لم يقبل النظام البائد المبادرات التي طُرحت عليه لأنّه لم يستطع استيعاب التغيرات الكبيرة التي طرأت على المشهد الدولي، وظنّ أنّ دوره في المنطقة باقٍ ولا يمكن تجاوزه. لكنّ النظام أخطأ كثيرًا عندما لم يلحظ أنّه فقد دوره الوظيفي عندما استعان بإيران والميليشيات للبقاء في الحكم. لقد كان النظام مقبولًا طالما أنّه كان متحكمًا بالأرض السورية وقادرًا على إدارة التوازن في المنطقة دون أن يشكّل خطرًا وجوديًا على إسرائيل. لكنّه فقد هذه الوظيفة بعد أن أصبح قراره بيد غيره، لدرجة جعلت القاصي والداني يعلن أكثر من مرّة أنّه لولا تدخله في الصراع السوري لسقط النظام.
ما الذي تغيّر بعد 8 ديسمبر / كانون الأول 2024 في خارطة القوى السورية الفاعلة في الساحة، وهل تغيّرت جذريًا حتى نقول إنّ المبادرات التي تُطلق على أيدي السوريين يمكن أن تساهم في حلحلة التشابكات وتفكيك عقدها؟
بعض هذه المبادرات كانت من جهات سورية وأفراد سوريين، ظهرت لتقترح حلولًا لحالة الاستعصاء السياسي التي خيّمت على البلاد جرّاء تعنّت النظام في تطبيق القرار الأممي 2254، وعجز المعارضة السياسية عن إجباره على قبوله وتقديم التنازلات اللازمة لتنفيذه. واجهت هذه المبادرات صعوبات في التنفيذ، فالجهات القائمة عليها لم تكن تمتلك من القوّة إلا ما يسمح به الفضاء الافتراضي، هذا على فرض أنها لم تُهاجم من كثيرين لم يقرؤوها أو لم يفهموها. لكنّ افتقار أصحاب هذه المبادرات للقدرة على تنفيذها لم يكن سببه أنّهم لا يملكون قوات عسكرية أو سيطرة على الأرض فقط، بل لأنّ الأجواء العامّة لم تكن ناضجة لنجاحها أيضًا، فالتوافق الدولي على حلّ الاستعصاء السوري كان مفقودًا، والتنافس الإقليمي كان على أشدّه بين مشاريع كثيرة كانت تتخاطف السوريين وبلادهم، إضافة بكل تأكيد لحالة العجز البنيوي عند المعارضة السياسية السورية التي باتت الآن خلفنا ولا حاجة لاستذكارها.
لقد تغيّرت الخارطة بشكل جذري، فقوى إقليمية كبرى مثل إيران اندحرت من الباب، ولا شكّ بأنّها تحاول العودة من شبابيك الفلول وزعزعة الاستقرار والتجييش الإلكتروني لتخريب الفضاء العام السوري، لكنّها تلقى مقاومة عنيفة من عموم المجتمع السوري والسلطة الجديدة ومن الدول الإقليمية والدول الكبرى.
أمّا روسيا فإنّ وضعها أكثر تعقيدًا، وتبدو الدولة السورية بحاجة للنظر بالعلاقة معها بعين مختلفة، لأنّ روسيا تمتلك حقّ النقض في مجلس الأمن، وهناك تشابك المنظومة العسكرية التي اعتمدت منذ أيام خالد العظم على السوفييت لتسليح الجيش السوري وتدريبه، ثمّ هناك الترابط في قواعد البنية التحتية، ومسألة القواعد العسكرية الروسية في عدّة مناطق من البلاد، وثمّة حاجة سورية أيضًا للتعاون في قضايا تسليم رأس النظام وأركانه واستعادة الأموال المنهوبة، وغيرها الكثير من القضايا التي لا بدّ من معالجتها بتبصّر. ثمّة حضور عربيّ خليجي متزايد بقيادة المملكة العربية السعودية، وهناك تأثير تركي كبير في عدد من الملفات، ولا ننسى استفحال الدور الإسرائيلي وتدخله الفظّ ومحاولاته المستمرّة رسم الخارطة السورية على مقاس مصالحه. لا يجب أيضًا إهمال الفرصة الكبيرة التي منحتها الإدارة الأميركية ودول أوروبا الغربية المؤثرة للحكم الجديد، وهذه لا بدّ من التعامل معها بمسؤولية كبيرة ومهنيّة عالية حتى تعبر البلاد من عنق الزجاجة.
ما الذي تغيّر بعد 8 ديسمبر / كانون الأول 2024 في خارطة القوى السورية الفاعلة في الساحة، وهل تغيّرت جذريًا حتى نقول إنّ المبادرات التي تُطلق على أيدي السوريين يمكن أن تساهم في حلحلة التشابكات وتفكيك عقدها؟ الجواب المباشر هو نعم ولا. نعم، لأنّ فضاء التعبير عن الرأي توسّع كثيرًا، ولأنّ الحماسة لدى أهل البلاد للبدء من الصفر تعاظمت، ولأنّ الإرادة يمكن أن تصنع المعجزات. لا، لأنّ توازنات القوى ما زالت على حالها تقريبًا، فقوات سوريا الديمقراطية ما زالت موجودة، بل وتتلقى دعمًا سياسيًا وعسكريًا كالمعتاد، وقوات الفصائل المنضوية في وزارة الدفاع ما زالت تتبع قياداتها كما السابق رغم تغيير التسميات. أكثر من ذلك أنّ بعض القوى المحلية، كما في السويداء، تعاظم حضورها لأسباب كثيرة، منها الحماية الإسرائيلية المباشرة والعلنية من جهة، وعدم النجاح في إدارة الملف مركزيًا بمجمله من ناحية ثانية. كما إنّ قوى أخرى انحسرت نتيجة حل نفسها مثل المركزيات في محافظة درعا. أصحاب النفوذ والسيطرة لا يطلقون المبادرات، بل يطرحون شروطهم للتفاوض، ويعتمدون مبدأ المثل الدارج: "عدّ ارجالك وارد الميّ". أصحاب السلطة، شرعية كانت أم واقعية، وأصحاب المال، موروثًا كان أم مكتسبًا ومشروعًا أم ملوثًا، يفرضون ما يريدون، وغالبًا ما يكون ثمّة حلف بين هؤلاء وأولئك.
تؤشر كثرة المبادرات على ضعف بنية المجتمع السوري وتشرذمه، وإلى تذرر الهُوية الوطنية وانفراط العقد الاجتماعي السوري، وهشاشة الدولة الوليدة.
الجهة الوحيدة الأكثر ثباتًا في عدم قدرتها على التأثير ما زالت هي القوى الديمقراطية والليبرالية التي لا تمتلك قوات عسكرية تدعم رؤيتها. تشمل هذه مجموعات القوى السياسية والمدنية على السواء. ولأنّ هذه القوى لا تملك أسباب الفرض الماديّة لتجبر غيرها من الأطراف على التفاوض، فإنها تكتفي بإطلاق المبادرات النظرية علّها تساهم في تغيير الخارطة السورية. لأنّ القوى التي تطرح هذه المبادرات في الوقت الراهن تفتقر إلى الحوامل العسكرية والاقتصادية والمالية القادرة على رفعها، فإنّه يمكنها التركيز على الحوامل الاجتماعية التي يمكن أن تساعدها إذا ما حظيت بقبولها. لكن هل حقًا تساعد الأجواء العامّة على هذا الأمر، وهل ثمّة إمكانية لسماع الخطاب الوطني المتعقّل، وهل ثمّة تواصلٌ كافٍ بين السوريين؟ يعتقد كاتب هذه السطور أنّ المشكلة التي تواجه السوريين والسوريات الآن ليست نقص التواصل كما كان الأمر قبل مئة عام عند تأسيس الدولة بعد دخول الجيش العربي مع القوات الإنكليزية نهاية الحرب العالمية الأولى، بل هي زيادته عن الحدّ اللازم. هذا الفضاء المفتوح لمشاركة الجميع خلط الحابل بالنابل، وأصبح صوت الحقيقة والحق ضائعًا بين حطام الإشاعات و"غثاءً أحوى" من القيمة والمحتوى. في هذا الفضاء المنفلت من كل قواعد الضبط الأخلاقي أصبح الصوت الأعلى هو صوت اللا عقل واللا منطق، فبات أصحاب الفكر والرأي يفضلون السكوت أو الإحجام عن خوض الشأن العام وطرح أفكارهم.
خلاصة الرأي، تؤشر كثرة المبادرات على ضعف بنية المجتمع السوري وتشرذمه، وإلى تذرر الهُوية الوطنية وانفراط العقد الاجتماعي السوري، وهشاشة الدولة الوليدة. لن تنجح المبادرات التي لا حوامل لها ترفعها من مستوى الأفكار وتنقلها من فضاءات الكلام والعالم الافتراضي إلى الواقع، لأنّ الظروف الراهنة بغالبيتها لا تساعد على ذلك. لم تتقدّم السلطة المركزية في دمشق بخطوات حقيقية تجاه الداخل السوري كما فعلت تجاه الدول الإقليمية والمجتمع الدولي، وبدورها القوى المحلية تتمترس خلف مصالحها القومية أو الطائفية وترفض الانخراط بحوار جدّي مع المركز أو بقيّة الأطراف، وبعضها مع الأسف يستقوي بالعدوّ التاريخي الذي يحتل جزءًا من البلاد، وإلى حين نضوج الظروف سنبقى بانتظار غودو علّه يعود باكرًا.