الرئيسة \  تقارير  \  ظلال سوداء في سيرة أطفال سوريا!

ظلال سوداء في سيرة أطفال سوريا!

18.09.2025
فايز سارة



ظلال سوداء في سيرة أطفال سوريا!
فايز سارة
الشرق الأوسط
الاربعاء 17/9/2025
كشفت الأشهر السورية الأخيرة واحدة من أكثر جرائم نظام الأسد بشاعة، وهي اختفاء الأطفال داخل المعتقلات، وخصوصاً أطفال المعارضين. وتراكمت تفاصيل وتطورات الاختفاء عبر 14 عاماً من حرب النظام. ولكن سقوط النظام كسر سياسة الإنكار والسرية الشديدة التي أحاطت بهذه الجريمة، فصارت الأقوال فيها علنية، وكذلك مساعي كشف خيوطها وتفاصيلها، وصار التدقيق في مجرياتها بين مشاغل السوريين من أفراد وأسر ومؤسسات، ووصل الموضوع إلى اهتمامات دولية بحكم روابط جمعية “قرى الأطفال” (SOS) التي لعبت دوراً قذراً في جريمة اختفاء الأطفال، وهي جزء من مؤسسة عالمية خيرية مقرها النمسا، وتعمل في أكثر من 130 دولة، وتجمع تبرعات، وتصرف نحو 1.6 مليار يورو سنوياً.
بدأت فضيحة الجريمة مع تسريب معلومات عن أبناء معتقلين، منهم أبناء المعتقلة الدكتورة رانيا العباسي الستة، الذين قيل إن بعضهم موجود في جمعيات خيرية محلية؛ لعل الأشهَر فيها اثنتان: “قرى الأطفال” (SOS) المشار إليها، والثانية جمعية “الأنصار الخيرية” التي أسسها الشيخ أحمد كفتارو الذي كان مقرباً من الأسد الأب، ومفتي الجمهورية لنحو ثلاثين عاماً.
اعتقال الأطفال في بداية الثورة ضد نظام بشار الأسد لم يكن جديداً؛ بل كان متَّبعاً في أيام حافظ الأسد، وفي حالات كثيرة جرى اعتقال نساء في عقد الثمانينات وبعضهن رهائن، وتم أخذ أولادهن معهن، وزُجَّ بهم معاً في السجن أو المعتقل، ونادراً ما تم إخراج الأطفال قبل خروج الأمهات. وقد عاش الأطفال ظروف اعتقال الأمهات، بما في ذلك التوقيف في المنفردات، وهي زنازين فردية شديدة السوء؛ حسب شهادة شخصية للمعارض الراحل ميشيل كيلو عن سجن المخابرات العسكرية.
جديد اعتقال الأطفال في نظام بشار الأسد، أنه صار سياسة رسمية، تتابعها وتمارسها الأجهزة الأمنية، من المخابرات الجوية إلى مخابرات أمن الدولة، وكل من شعبة المخابرات العسكرية وشعبة الأمن السياسي، وكلها حولت اعتقال الأطفال والاحتفاظ بهم دون ذنب إلى آليةِ إخضاعٍ للمعارضين خاصةً، وللمجتمع بصورة غير مباشرة، وتحويلها وسيلةً تخدم قادة وعناصر الأجهزة وعملاءها، في ابتزاز المعتقلين وأُسرهم، ومصدراً للحصول على المال، ومنافع أخرى.
وبسبب من خصوصية اعتقال الأطفال، فقد شُكِّل هيكل هرمي خاص، لم يكن في سياق عمل أجهزة المخابرات في وقت سابق؛ حيث أقيمت شبكة مدنية متعاونة، تشمل وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل التي تشرف على الجمعيات الخيرية التي أصبحت مراكز اعتقال للأطفال، وكان يجري ترتيب هذا المسار بواسطة محافظ مدينة دمشق، وجرى تأكيد السرية الشديدة (سري للغاية) في كل معاملات وشؤون الأطفال المعتقلين وحولهم.
الشائع العام من أهداف اعتقال الأطفال، كان السعي للحصول على معلومات منهم تتعلق بنشاطات الأهل والأقارب في بداية الاعتقال، ثم يتحول الأطفال إلى أداة ضغط وابتزاز عند التحقيق مع الأم أو الأب، فيتم تهديدهم بتعذيب الأطفال أو قتلهم. وروى حفار القبور الذي كان يدفن الجثث القادمة من فروع المخابرات والمشافي، أنه عاين ودفن جثثاً محطَّمة ومشوهة لأطفال رضع في المقابر الجماعية، في مقبرتَي نجها والقطيفة.
لقد حوَّلت أجهزة النظام اعتقال الأطفال إلى كابوس عند السوريين، بسبب ما يمكن أن يلحق بأطفالهم، إذا تم اعتقالهم.
لم يكن طريق المعتقلين الأطفال يصل بالضرورة إلى دور الرعاية، فهذه ميزة، وإن كانت ميزة سوءٍ غالباً. بعض الأطفال، وخصوصاً الكبار منهم، يبقون في فروع المخابرات، وبعضهم يموت تحت التعذيب، وآخرون يشتغلون في السُّخرة لسهولة السيطرة عليهم من قبل السجانين، وبعضهم يختفي في ظروف غامضة، وهؤلاء حسب التقديرات بالآلاف؛ خصوصاً وسط تقارير تحدثت عن عصابات أدارت تجارة أعضاء تمت في السجون والمعتقلات والمشافي. وثمة حالة كُشِفَ عنها عام 2018، عبر تقارير تلفزيونية عن أطفال سوريين، أُخِذُوا إلى روسيا وأُدخِلُوا إحدى الكليات العسكرية الروسية. وقدَّرت مصادر سورية في حينها أنهم كانوا من الأطفال المعتقلين.
الجزء الأقل من الأطفال صغار السن الذين ذهبوا إلى دور الرعاية أعيدوا إلى أهاليهم لاحقاً، ولكن القسم الأكبر استعادته أجهزة المخابرات، ولم يتبين لاحقاً ما صارت إليه مصائرهم، وهو تقدير مستند إلى تجربة منظمة “قرى الأطفال” (SOS) التي قالت إنه من بين 139 طفلاً استقبلتهم المنظمة كإحالات أمنية، أُعيد 34 طفلاً فقط إلى عائلاتهم، وسلَّمت المخابرات 104 آخرين بعد انتهاء فترة إيداعهم داخل المنظمة، وليس لديها معلومات عن مصيرهم.
كثيرة هي الظلال السوداء في سيرة الأطفال السوريين؛ ليس -فقط- في تجربة الاعتقال والتعذيب والموت والاختفاء القسري في سجون ومعتقلات النظام التي تركت آلاماً وجروحاً في أرواح الكبار ولدى الصغار أيضاً؛ بل إن الظلال السوداء تمتد إلى أبعد مما سبق، وصولاً إلى تدمير طفولتهم بسبب الحرب وتطوراتها، والتي شرَّدت الأسر ودفعتهم إلى فقر وجوع وانتشار ظاهرة أطفال الشوارع، وعطَّلتهم عن التعليم، وعرَّضتهم للانخراط في عصابات إجرامية وجماعات مسلحة، لا تستبعد منها الميليشيات الطائفية والمتطرفة.
ظلال سوداء أصابت نحو 10 ملايين طفل في سنوات الحرب، تجعل السوريين والعالم من حولهم على أعتاب مسؤولية مباشرة في علاج جدِّي وفاعل للظلال السوداء؛ ليس من منطلق إنساني ووطني وأخلاقي فقط؛ بل لأن العالم صار قرية واحدة، وآثار تلك الظلال ربما ستصل إلى كل أزقة القرية.