ضرورات التحول المؤسسي والجمعي السوري
14.06.2025
محمد شيخ يوسف
ضرورات التحول المؤسسي والجمعي السوري
محمد شيخ يوسف
سوريا تي في
الخميس 12/6/2025
يدرك السوريون وجميع العالم أن سوريا دخلت مرحلة جديدة انتقالية مع سقوط النظام الساقط شعبيا منذ ثورته التي انطلقت في 2011 وتكللت بانتصار عموم السوريين على الاستبداد والديكتاتورية وأجهزة القمع والإرهاب في 8 كانون الأول/ديسمبر وهو ما انعكس في فرحة لم تنته حتى الآن، نظرا لحجم الانتصار الذي لم يكن سهلا وكلفته كبيرة جدا على جميع الأصعدة، وأهمها على الصعيد الإنساني حيث ارتفع أعداد الشهداء والجرحى وبلغ عدد المختفين قسرا نحو 140 ألفا.
وكان لزاما مع المرحلة الانتقالية التي تشمل تشكيل الحكومة وعقد المؤتمر الوطني والإعلان الدستوري وتأسيس اللجان المتعلقة بالسلم الأهلي والعدالة الانتقالية، أن تشهد مرحلة معاقبة ومحاكمة مرتكبي الجرائم بحق السوريين، لأنها تساهم في شفاء الجروح وتخفيف الآلام عن ذوي الضحايا والمختفين قسرا، حيث لا تزال جروحهم نازفة وآلامهم مستمرة، وآمالهم تتبخر مع مرور الوقت، فهو يعد من أهم الملفات في المرحلة المقبلة وبحاجة لمعالجة عادلة ودقيقة دون مسامحات أو تساهل أو تهاون فيه.
المرحلة الانتقالية في سوريا وضمن أسس معينة قائمة على وحدة البلاد والشعب والمواطنة والحقوق والمساواة ودولة القانون والديمقراطية والحريات، بحاجة أيضا إلى التحول في جملة من المفاهيم التي تؤدي إلى بناء سوريا الحديثة، فاليوم لم تعد عقلية سنوات الثورة هي الخلاص وحسب، بل يجب الانتقال إلى العقلية المؤسساتية الرسمية والخاصة، والتحول وفق الدولة المنشودة التي يرغب السوريون بها لمرحلة البناء، وهو ما يرافقه تحول جمعي سوري، يجب خلاله عدم تكرار الأخطاء السابقة، والاستفادة من التجارب التي أدت للثورة، وأهمها معالجة الإقصاء والتهميش والتمييز والتفرقة، فضلا عن القمع والقتل والتعسف في الاعتقال والإذلال، وتغييب الحريات والحقوق والقوانين والديمقراطية.
الانتقال من الثورة لبناء الدولة هي مرحلة جديدة تطلب التفكير بشكل مؤسساتي، إذ إن السوريين الآن أمام دولة جديدة، وبالتالي الدولة يجب أن تعمل وفق هذه المؤسسات وتقدم خدماتها للجميع بشكل متساو، المؤسسة التي يخدم بها الموظفون ومديرها تبقى ثابتة راسخة لا تتغير بتغيير الأسماء، وهذا الانتقال يشمل جميع الأجهزة والمؤسسات بمختلف مسمياتها سواء كانت تشريعية أو تنفيذية أو خدمية أو قضائية، فالبقاء هو للدولة والمواطنين، مرحلة بناء المؤسسات هذا يخدم بالضرورة سوريا أمام المجتمع الدولي ودول الإقليم، وهو ما يتطلب التحول المؤسسي على جميع الأصعدة، فلم تعد المؤسسات السورية عبارة عن منصات أو كيانات بحاجة للاعتراف أو تسوق وجهة نظر معينة فقط، أو تسعى إلى تقديم الخدمات والمساعدات، بل باتت مؤسسات دولة معنية بتحمل المسؤولية والتوجه بها للداخل السوري قبل الخارج.
لعل مرحلة الانتقال هذه بحاجة إلى تغير العقلية في إدارة هذه المؤسسات، حيث إن الإدارة موجهة إلى جميع السوريين، ولا يوجد لون واحد، ولم تعد هناك حاضنة شعبية ذات اتجاه معين، الأجهزة والدوائر السورية حاليا تمثل جميع السوريين بكافة مكوناتهم وأعراقهم وطوائفهم وأديانهم
ولعل مرحلة الانتقال هذه بحاجة إلى تغير العقلية في إدارة هذه المؤسسات، حيث إن الإدارة موجهة إلى جميع السوريين، ولا يوجد لون واحد، ولم تعد هناك حاضنة شعبية ذو اتجاه معين، الأجهزة والدوائر السورية حاليا تمثل جميع السوريين بكافة مكوناتهم وأعراقهم وطوائفهم وأديانهم، فيجب أن تتغير العقلية في الإدارة وهو ما يحتاج إلى تغيير في الخطاب يعكس تغيير العقلية، صحيح أن هناك مرحلة انتقالية وقضايا ملحة بحاجة إلى حل في المرحلة الانتقال والمقبلة، ومنها مرحلة العدالة الانتقالية، ولكن الآن بات أمام السوريين مرحلة بناء الدولة، وهو ما يتطلب فهما أعمق، وصبرا طويلا، واستيعابا للتطورات والتفكير بعقلية الدولة، لا بالمراحل السابقة.
ومن خلال نظرة إلى التاريخ، كانت الانتماءات والولاءات تتغير إلى الحاكم الأقوى بغرض الحصول على الحماية والأمن، والقبائل والشعوب في مختلف المناطق، كانت الدماء تحقن عبر التفاوض وتقديم الولاءات، وهناك أمثلة كثيرة عبر تاريخ الدول والأمم والحضارات، فالحصول على الأمن وحقن الدماء، والتفاوض والتعاون من أجل بناء المرحلة الجديدة، خطوة موجودة يمكن اللجوء لها من قبل القوى الحاكمة في أي مكان، ومن المؤكد أن ما حصل من انتصار للثورة السورية المباركة، كان فيه إضعاف لبنية النظام الداخلية عبر متعاونين مقابل الحصول على الأمن، ومع انتصار الثورة يتوجب التعامل بعقلية الدولة الجديدة، ولكن مع التشديد بأن لا مكان لمجرم وقاتل ومرتكب جريمة بحق السوريين مهما كان نوع التعاون والدعم المقدم، لا تهاون مع القتلة ومع من سفك دماء السوريين.
ويتزامن مع التحولات هذه انتقال الشعور الجمعي السوري وخاصة لمن ذاق الألم نتيجة الثورة وتشرد وتضرر سواء داخل سوريا أو خارجها، أو من عانى من ممارسات النظام في مناطقه من القمع، لإدراك أن المرحلة الجديدة بحاجة إلى التفكير المؤسسي الجديد بعقلية جديدة وفق خطاب متطور يرتقي بالمرحلة الحالية، فالتحول الجمعي لا يقل أهمية عن التحول المؤسساتي، حيث إنها عملية مشتركة بين الدولة والشعب بنفس الوقت، فلا يمكن ليد واحدة أن تصفق، لا يمكن تهميش الشعب ومطالبه وحقوقه من قبل المؤسسات الحكومية، يجب أن تتحول وتتطور بما يناسب السياق الجديد، وكذلك الأمر بالنسبة للشعب بمختلف مكوناته ومستوياته، إذ لا يمكن أن يبقى دون تحول يواكب مرحلة بناء المؤسسات الجديدة.
وإذا ما وضعنا التحول المؤسساتي والجمعي في السياق نفسه بالمرحلة المقبلة، فهو بدوره بحاجة إلى الرؤية الشاملة الواسعة من الطرفين، أي أن النظرة يجب أن تكون من منظار أوسع للتطورات الجارية والمرحلة الجديدة، النظرة وفق أفق جديد يقوم على المبادئ التي قامت الثورة السورية من أجلها وتحقيق أهدافها كاملة، فإن كانت المطالب هي الحرية والدولة الديمقراطية التي تكفل الحقوق والمساواة، فهذا يعني عمليا الانتقال من مرحلة الثورة لمرحلة البناء، ولا يجب المحاكمة وفق المنظور السابق، مع التشديد على أنه لا يجب أن تكون هناك مسامحة في مسألة معاقبة المجرمين منعا من ارتكابهم الجرائم مرة أخرى.
وخلال المضي في هذا المسار من اللازم الاستفادة من الأخطاء التي حصلت في السابق وعدم تكرارها، سنوات المعاناة للسوريين لم تكن سهلة، وهي ثورة كانت يتيمة ولم تنجح إلا بثبات السوريين، والثورة كانت لها أسباب، وتعامل النظام وتراكم أخطائه عززت من إصرار الشعب على استكمال ثورته وعدم الاستسلام والتراجع، ثورة الإصرار والكرامة، فتجاهل النظام للسوريين بشكل عام وإقصاؤه لأغلب المكونات، وتجاهل المطالب المحقة، وإصراره على احتكار السلطة، وعدم تحقيق العدالة لأطفال درعا والحولة والبيضا وأبناء جميع المناطق والمحافظات السورية، ترك أثرا كبيرا في تعميق الثورة، مرحلة المحاسبة مستمرة، ولكن تجب مراعاة التفكير المؤسسي الجديد من قبل الإدارة الجديدة، والظروف المحلية والإقليمية والدولية، ومرحلة بناء الدولة الجديدة.
وخلاصة الكلام يجب تغليب العقل والمنطق في المرحلة الجديدة، والتجرد قليلا من العواطف عبر بناء مؤسسات الدولة بشكل مؤسساتي وبناء الدولة الراسخة الثابتة الجديدة وفق المبادئ والقيم التي قامت عليها الثورة، أن تكون دولة دستورية ديمقراطية في دورة مستمرة، تنتهي من مرحلة البناء التي قد تستغرق سنوات للوصول إلى الحالة المنشودة، وهو ما يتوجب من خلاله تخفيف التوترات والاحتقانات، والصبر والتفكر بشكل جيد قبل إطلاق الأحكام، مع البقاء على الثوابت وعدم التنازل عن مطالب محاسبة المجرمين وفق مسار عدالة انتقالية حقيقي.