الرئيسة \
تقارير \ "ضبط الكاميرا" السورية لئلا يتحوّل المجرم ضحيةً
"ضبط الكاميرا" السورية لئلا يتحوّل المجرم ضحيةً
24.06.2025
سميرة المسالمة
"ضبط الكاميرا" السورية لئلا يتحوّل المجرم ضحيةً
سميرة المسالمة
العربي الجديد
الاثنين 23/6/2025
تهدف المراسيم والقرارات التي أصدرتها الحكومة السورية إلى رسمَ ملامحَ سورية الجديدة، وإعادة بناء شرعيتها الأخلاقية والسياسية والقانونية، بعد سنوات طويلة من الحرب التي شنّها نظام الأسد (المخلوع) على شعبه، بدعم مباشر من إيران وروسيا، وبرعاية داخلية كاملة من شبكاتٍ مستفيدةٍ من نظامه الفاسد والدموي، والتي جعلت سورية بلداً خارجاً عن القانون، ومُهدِّداً أمن المجتمع الدولي وسلامته.
وفي هذا السياق، تكتسب كلّ خطوة في طريق العدالة رمزيةً مضاعفةً، وتلقى احتفاءً شعبياً واسعاً، تغذّيه مشاعر ظلم متراكمة في الوجدان السوري تجاه مرتكبي الجرائم بحقّهم. ولهذا، يُقابَل انتشار أيّ صورة تُسرَّب من الدوائر الأمنية لاعتقال أو مقتل شخصية متهمة بانتهاكات بترحيب شعبي واسع، لا يقلّ عن الغضب الجماهيري الذي يُثار عند التسامح مع تلك الشخصيات أو إعادة تدويرها في مشهد سياسي جديد. وكذلك، في غياب القدرة على محاكمة الدول التي مارست الدمار والقتل بالمشاركة مع النظام السوري السابق، يمارس السوريون، عبر صفحاتهم الشخصية في وسائل التواصل الاجتماعي، الاحتفاء بما يسمّونها "العدالة الإلهية"، التي تطاول الأفراد في تلك الدول مع المجرمين المحلّيين على حدّ سواء، ومن ذلك ما نشهده من فرح عابر للاصطفاف مع أيّ من جانبي الحرب (الإسرائيلية الإيرانية)، وهو ما يعبّر عن مشاعر غير مسيّسة، لا تنظر إلى نتائج الحرب أبعد من حالة الدمار التي تراه يتشابه مع ما حصل بسبب الدولتَين في المدن السورية، ولاحقاً في غزّة ولبنان.
تكتسب كلّ خطوة في طريق العدالة رمزيةً مضاعفةً، وتلقى احتفاءً شعبياً واسعاً، تغذّيه مشاعر ظلم متراكمة في الوجدان السوري
العدالة الانتقالية غير الشعبوية، أي "الدولتية"، التي يطالب بها أهالي الضحايا والجهات القانونية والجمعيات المدافعة عن الضحايا، هي التي تُعرّفها الأمم المتحدة بأنها "مجموعة من التدابير القضائية وغير القضائية، التي تُنفّذ لمعالجة انتهاكات حقوق الإنسان الجسيمة بعد الصراعات أو فترات الأنظمة القمعية"، وتشمل هذه التدابير الملاحقات القضائية، ولجان الحقيقة، وبرامج التعويض، وضمانات عدم التكرار. لكن هذه الآليات كلّها لا تكتمل إلا بتوافر شرط أساس، هو "احترام الكرامة الإنسانية حتى أثناء محاسبة من انتهكها".
أي بغض النظر عن خلفية الموقوف، خصوصاً الذي لا أحد من السوريين يشكّك في تورّطه الكامل في انتهاكات وجرائم، يمكن القول إن بعض الصور التي تنتشر من داخل أماكن الاحتجاز تحمل خطراً على مسار العدالة نفسه، ويمكن استخدامها للإساءة إلى صورة الجهة الأمنية، بأنها تمارس "عدالة انتقامية"، وأفعالاً تتشابه في هيئتها مع أفعال مدانة للنظام السوري السابق، إذ يجب أن تستند العدالة الانتقالية إلى مبادئ القانون الدولي الإنساني وشرعة حقوق الإنسان، ففي المادة 10 من العهد الدولي الخاصّ بالحقوق المدنية والسياسية: "يُعامل جميع الأشخاص المحرومين من حريتهم معاملةً إنسانية تحترم الكرامة الأصيلة في الشخص الإنساني". وعليه، فإن عرض صور إذلال الموقوفين، والحديث عن كلّ الموقوفين، حتى إن كانوا متورّطين في جرائم، لا يسيء إليهم بقدر ما يسيء إلى صورة المؤسّسة التي يعوّل عليها تطبيق القانون.
ليس هذا دفاعاً عن أيّ من المدانين، بل هو خوف ودفاع عن صورة سورية الجديدة، التي ولدت من رحم الثورة بعد آلام مخاض دام 14 عاماً، دفع فيه السوريون مئات آلاف الشهداء والمعتقلين، والتي نراها دولةَ قانون وعدالة، وحتى لا نترك فرصةً لأيٍّ كان أن يُقدّم "المجرم" ضحيةً، ويُعاد استغلال المشهد في حملة إعلامية مضادّة تستهدف تقويض مصداقية الدولة وأجهزتها، واتهامها بأنها غير قادرة على ممارسة دورها الفعلي في تحقيق العدالة الانتقالية.
من الضروري اليوم وضع مدوّنة سلوك للمؤسّسات الأمنية، تتوافق مع مبادئ العدالة الانتقالية
يقوّض ترويج هذه المشاهد، في سياق عاطفي شعبوي، الثقة الدولية في مؤسّسات العدالة الناشئة، ويُعرقل فرص الشراكات القانونية أو المساعدات الفنّية من الأمم المتحدة والدول المانحة، التي تشترط غالباً التزاماً صارماً بالقانون الدولي في قضايا حقوق الإنسان والعدالة. ولعلّ من الضروري اليوم وضع مدوّنة سلوك للمؤسّسات الأمنية، تتوافق مع مبادئ العدالة الانتقالية، وتدريب كوادرها على احترام هذه المبادئ، ولا سيّما في مراحل اعتقال أيّ شخص، سواء لأسباب تتعلّق بانتمائه إلى النظام السابق المجرم، أو أيضاً لأسباب مخالفته لأيٍّ من القوانين المعمول بها.
قد يكون الجرح السوري من النظام السابق القاتل (وأعوانه كلّهم) عميقاً، ولا يمكن الشفاء منه، وقد لا تشفي كلّ صور التعذيب للمجرمين غليلَ الضحايا وأهاليهم، والثأر الشخصي مفهوم لدى كثيرين ممّن فقدوا أحبّاءهم، لكنّ العدالة لا تُبنى على الرغبة في الانتقام، بل على الرغبة في تحقيق العدل، والعدالة عموماً، ومنها الانتقالية، تنتصر عندما يُحاسب المرتكب ضمن إطار قانوني نزيه، يجعل من الاحتماء بها هو الملاذ لجميع المواطنين.