الرئيسة \  تقارير  \  شرقُ أوسطٍ جديد بنكهة السلام والشراكة

شرقُ أوسطٍ جديد بنكهة السلام والشراكة

31.05.2025
حسان الأسود



شرقُ أوسطٍ جديد بنكهة السلام والشراكة
حسان الأسود
سوريا تي في
الخميس 29/5/2025
يشهد العالم بأسره هذه الأيام تطورات كبيرة جدًا، وفي جهاته المختلفة، لكنّ مشهد الشرق الأوسط هو الأكثر وضوحًا حتى اللحظة.
ما حصل في الرياض واستُكمل في الدوحة وأبو ظبي ليس مجرّد زيارة عادية لرئيس أميركي عادي، إنّه انعطافة استراتيجية كبيرة لمواجهة العالم الجديد الذي بدأت ملامحه تتشكّل منذ فترة ليست بالقصيرة. يدرك الأميركيون، وربّما غيرهم كثيرون أيضًا، أنّ ثمّة عملاقاً اقتصادياً وديمغرافياً هائلاً هو الصين، بدأ يُسرّع خطواته لتصدُّرِ المشهد العالمي، وربّما يأتي يوم ليس ببعيد يحلّ فيه محلَّ الريادة ويزيح الأميركيين المتوّجين منذ زمنٍ قادةً لا مجال لمنافستهم.
يتطلّب هذا نوعًا من التحوّط والإقدام لاستكشاف الفرص المتاحة لهذه المواجهة التي بدأت فعلًا. لم يعد بالإمكان حصر أسباب التقدّم في الغرب وحده، فقد أثبتت حرب الأيام الأربعة بين الهند وباكستان أنّ الصين استطاعت تطوير أسلحة هزمت المنظومة الغربية، أو على الأقل نافستها بشكل واضحٍ لا لبس فيه. إسقاط طائرات رافال الفرنسية ليس مسألة عسكرية فقط، بل هي مؤشرٌ على ما هو أعمق من ذلك بكثير. من هنا هرع الرئيس ترامب لوقف الحرب من خلال إقناع قادة باكستان والهند بأنّه ما من فائز فيها، وأنّ الاستثمار في خدمة المصالح أولى من المضيّ في هدمها.
يرى محللون كثُر أنّ الرئيس ترامب قد فشل في تحقيق شعاره الكبير "أميركا قويّة من جديد" عن طريق الضغط على الدول من خلال فرض التعرفات الجمركية الاعتباطية بما يشبه البلطجة، فقد انحنت بعضها للعاصفة وماطلت حتى تمر، في حين صعّدت الصين وردّت بتعرفات مماثلة. وهنا كان التراجع الأميركي خطوة إلى الوراء فعلًا، لكنّه في الوقت ذاته كان مقدّمة للتفكير في آليات جديدة تجلّت في زيارة دول الخليج العربي. عنوان التجربة هذه هو ذاته، أميركا أولًا، ولكن مع غيرها من الدول وليس على حسابها. هكذا يمكن قراءة التهدئة مع الحوثيين الذين هم ذراعٌ إيرانية في النهاية رغم استقلالهم الكبير نسبيًا بعكس بقية أفراد المحور في العراق ولبنان. وهكذا هو واقع التركيز على التفاوض مع إيران بعد شدّ وتر القوس إلى منتهاه من دون إطلاق السهم.
نحن من يرسم الحدود لا أنتم، ونحن من يضع الشروط ويفرض المسارات ويوزّع الأدوار، وعليكم أن تعرفوا حجمكم. كانت لافتة تلك العبارة الوصائية من ترامب خلال أحد التصريحات عندما قال: "ستصب جهودنا في النهاية بمصلحة إسرائيل، حتى لو لم يدرك قادتها هذا الأمر".
ومن هنا يمكن أيضًا فهم هذا التحجيم لنتنياهو وحكومته اليمينية المتطرفة، فالمصالح الإسرائيلية التي باتت خلال الفترة الأخيرة مزروعة تحت الجلد الأميركي تؤرّق ساكن البيت الأبيض، ولن يسمح لها أن تُعيق مشروعه الكبير. صحيحٌ أنّ ترامب لم يخض في رحلته هذه بحر القضيّة الفلسطينية، لكنّ الإشارات التي أعطاها واضحةٌ بابتعاده عن دعم هذا الطفل المزعج مهما فعل من دون حساب. تركيز ترامب على أنّه رفع العقوبات عن سوريا بناءً على طلب من الأمير محمد بن سلمان وليّ العهد السعودي بالتزامن مع طلب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، هو مؤشر واضح على الحدود التي يجب أن تقف إسرائيل عندها.
نحن من يرسم الحدود لا أنتم، ونحن من يضع الشروط ويفرض المسارات ويوزّع الأدوار، وعليكم أن تعرفوا حجمكم. كانت لافتة تلك العبارة الوصائية من ترامب خلال أحد التصريحات عندما قال: "ستصب جهودنا في النهاية بمصلحة إسرائيل، حتى لو لم يدرك قادتها هذا الأمر".
ومن هنا أيضًا يمكن قراءة تحرّك أميركا منفردة للإفراج عن الأسير عيدان ألكسندر مزدوج الجنسية (أميركي إسرائيلي)، الأمر الذي يعطي رسائل قويّة لإسرائيل وغيرها من الدول بمن يملك القرار النهائي في القضايا الشائكة والمعقّدة.
قد يكون نتيجة ذلك تحريك موضوع حل الدولتين ضمن ترتيباتٍ جديدة بضغطٍ عربي خليجي، فلا بدّ أنّ ترامب قد فهم وأدرك أنّ بؤرة الصراع المحتدم وشرارة الحرب الدائمة ليست عند العرب والفلسطينيين، بل عند إسرائيل التي قامت على الحرب ويرى متطرفوها أنها ستسقط بتوقفها.
سيسير نهج ترامب إذن عبر مسارات متعددة، بعضها خشنٌ لا ينفع مع الجميع، وبعضها ناعمٌ يمكن أن يؤتي أُكُلَهُ عبر تعاون وثيق مع شركاء إقليميين، يسعى بعضهم لأن يكون لاعبًا دوليًا كما هو حال المملكة العربية السعودية. يمكن القول باختصارٍ شديدٍ وربّما مجحفٍ نوعًا ما، إنّ الأيديولوجيا قد ماتت، أو هي تحتضر الآن.
نحن السوريين لن نترك القطار يفوتنا، بل سنكون في عرباته المتقدّمة رفقة أشقائنا العرب، وبرعايتهم، ورجاؤنا أن يشمل الخير أهلنا في غزّة الذين دفعوا الفاتورة الكبرى، وما زالوا.
لم تعد تُطرح شعارات حقوق الإنسان ولا الديمقراطية حتى في بازارات الضغط السياسي، وتلك التي كانت تستخدمها الإدارات الأميركية السابقة باتت الآن في مزبلة ترامب. التوجّه الآن واضح نحو بناء شراكات قائمة على المصالح لا على الأيديولوجيا. من هنا كانت هزيمة محور الشر الحقيقي المتمثل بإيران وأذرعها مقدّمة لعالم جديد تعود فيه الدول هي الكيانات الوحيدة الموجودة والفاعلة. سيتمّ القضاء على جميع البنى ما تحت الدولتية التي تشكّلت على هامش انفراط عقد الدول في المنطقة. سيتم كنس الميليشيات والجماعات المسلّحة من الخريطة، ومن لم يفهم هذا بالحسنى من الميليشيات العراقية، سيفهمه بالقوّة العارية وسيكون مصيره مصير حزب الله اللبناني. من هنا يمكن قراءة أحد جوانب القرار التاريخي لحزب العمّال الكردستاني حلّ نفسه، فرغم الاستحقاقات الداخلية في تركيا التي لعبت دورًا رئيسًا في هذا الأمر، فإنّ المشهد الدولي العام حاضرٌ في الخلفية. لن يُسمح لأية مجموعات مهما كانت صفتها وأيًا كان تاريخها، أن تُشكّل تهديدًا لطرق التجارة، وخطوط الطاقة، وسلاسل التصنيع، والتوريد.
لا شكّ أنّ ترامب منزعجٌ جدًا من عدم قدرته على فرض وقفٍ سريع للحرب الروسية الأوكرانية، وحُنقه كبيرٌ أيضًا على الأوروبيين الذين وقفوا مع أوكرانيا لدعمها بعد أن ضغط هو على رئيسها زيلنسكي لتقديم تنازلات كبيرة واستراتيجية، رأت فيها أوروبا خطرًا حقيقًيا ونصرًا كبيرًا لروسيا وبوتن شخصيًا. لذلك، ومن هنا يمكن قراءة مسألة رفع العقوبات عن سوريا وأخذها بضمانة سعودية قطرية باتجاه الحلف الأميركي لإبعادها عن روسيا والصين من جهة، ولتعزيز استقرار المنطقة من جهة أخرى، وهذه إشارة ثانية لإسرائيل بضرورة احترام الشركاء الإقليميين القدامى، السعودية وتركيا، والجدد أيضًا. يعتقد كاتب هذه السطور أيضًا أنّ ترامب يرى في الملف النووي الإيراني ليس فقط تهديًدا للأمن القومي الأميركي، بل هو أيضًا تحدٍّ يزعزع الأمن الإقليمي الذي لا بدّ أن يستقر حتى تمضي سياسة مواجهة الصين أميركيًّا. من هنا كان التفاوض مع إيران أولى من استعمال العنف، لهذا لم يترك لإسرائيل أن تؤجج الصراع وأن تقصف المنشآت النووية الإيرانية.
وقد فهم الإيرانيون الأمر فأرسلوا يخاطبون شهيّة ترامب المفتوحة على الاستثمارات الهائلة في بلادهم. في النهاية سيجري الأمر كذلك، لأنّ دول الإقليم لا تريد حربًا ضدّ إيران حتى وإن كانت هي خارجها، فمعظمُ النار من مُستصغر الشرر. هكذا يتخلّقُ الآن عالمٌ جديد قائمٌ على السلام والشراكة عوضًا عن الحروب والاستئثار، والشرق الأوسط في قلب هذا العالم وليس على طرفه، وإن كان الرابح الأكبر هو العم سام، فإنّه لن يكون هناك خاسرون، بل شركاء في مواجهة الغول الصيني القادم من أقصى آسيا، ونحن السوريين لن نترك القطار يفوتنا، بل سنكون في عرباته المتقدّمة رفقة أشقائنا العرب، وبرعايتهم، ورجاؤنا أن يشمل الخير أهلنا في غزّة الذين دفعوا الفاتورة الكبرى، وما زالوا.