سوريا.. الغلبة والشراكة
21.08.2025
ميشال شماس
سوريا.. الغلبة والشراكة
ميشال شماس
المدن
الاربعاء 20/8/2025
انكشفت هشاشة النسيج السوري وانفتحت جروح الهوية السورية على مصراعيها، ولم يعد من الممكن تجاهل الحديث الصريح عن الأقليات، أو التغاضي عن الخلافات العميقة، التي باتت تفتك بالنسيج الوطني.
باتت الدعوة للوحدة الوطنية بلا معنى، بعد أن تفجّرت الأسئلة المؤجلة حول معنى الانتماء، من نحن؟ وما شكل الدولة التي نريدها؟ ومَن يملك شرعية تمثيل السوريين والسوريات؟
في ظل هذا التصدّع، تبلورت ثلاثة تيارات رئيسية تعبّر عن تصورات متباينة لمستقبل الدولة، وتكشف عن مأزق الهوية الوطنية بين خيار الهيمنة وخيار التشاركية. هذه التيارات رغم اختلافها، إلا أنها تشترك في التعبير عن مأزق الهوية الوطنية بين خيار الغلبة وخيار الشراكة.
أولاً- تيار "الأغلبية القلقة"
يمثّل هذا التيار شريحة واسعة من العرب السنّة، الذين يرون أن تجاوز إرادتهم التاريخية في صياغة الدولة لم يعد مقبولًا. لا يطرح نفسه كتيار إقصائي، بل يسعى لاستعادة موقعه المركزي ضمن بنية الدولة، وفق رؤية تحترم عروبة البلاد وثقافتها الإسلامية، من دون العودة إلى النموذج السلطوي.
لا يخلو هذا التيار من تناقضات داخلية، إذ تبرز داخله فئة ذات توجهات إقصائية، ولديها حضور ميداني مسلح وقوي، يمنحها نفوذاً في بعض المناطق. هذه الفئة تبدي رفضاً حاداً للخطابات المدنية أو التعددية، مما يعزّز القلق لدى المكونات الأخرى، ويعقّد مساعي بناء توافق وطني جامع قائم على الشراكة لا على الغلبة.
وعموماً يُبدي هذا التيار تحفظاً تجاه بعض الطروحات التي تدعو إلى "حياد الدولة دينياً" أو إلى "فصل القومية عن الهوية السورية"، خشية أن تُستخدم هذه المفاهيم -في ظل سياقات دولية مضادة للإسلام السياسي- كأدوات لتهميش المكوّن السنّي ثقافياً وسياسياً، أو لفرض نماذج مستوردة على الهوية الوطنية. لذلك، فإن طمأنته لا تتحقق بالخطابات المجردة، بل عبر بناء عقد اجتماعي متوازن، يضمن له شراكة عادلة من دون وصاية أو إقصاء.
ثانياً- تيار "الأقليات القلقة"
يتألف هذا التيار من مزيج المكونات الدينية والقومية التي تشعر أن السلطة الحالية لا تعبّر عن تطلعاتها، ولا تعكس خصوصياتها الثقافية أو الهوياتية. ورغم تقاطعه حول هذا الشعور، إلا أن التيار نفسه غير موحّد، إذ تتباين داخله الخطابات والتوجهات.
ففي جزء من هذا التيار يبرز خطاب متشدد يرى أن حماية الوجود المكوَّني تستلزم السيطرة الأمنية والإدارية على مناطق بعينها، ولا يجد حرجاً في الانخراط المباشر في تحالفات إقليمية أو دولية، ويرفض رموز الدولة مثل الإعلان الدستوري أو علمها الوطني، باعتبارها لا تمثّله.
وفي المقابل، تظهر داخل هذا التيار أصوات عقلانية تدافع عن صيغة الدولة السورية الجامعة، من دون إنكار خصوصياتها الثقافية أو الدينية، وتطالب بحلول سياسية تحمي حقوق المكونات من دون اللجوء إلى خيار التقسيم أو الانفصال. ومن أبرز الأمثلة على هذا الاتجاه العقلاني، قطاع واسع من السوريين الإسماعيليين والمسيحيين، الذين يرفضون الطروحات الانفصالية، ويحرصون على قيام دولة سورية مستقرة، عادلة، تصون التنوع وتحمي حقوق جميع المواطنين من دون تمييز. وينطلق المسيحيون في موقفهم من فهم عميق لمكانة المسيحية كمكون أصيل في الهوية الوطنية السورية.
ثالثًا- تيار "المجتمع المدني العابر للهويات"
يضم هذا التيار طيفاً واسعاً من المثقفين والنشطاء من خلفيات غير طائفية. ويرفض هذا التيار السلطة الحالية بوصفها سلطة شمولية، ويطرح بديلاً عنها تصوراً لدولة مدنية حيادية، تفصل بين الدين والسياسة، وتؤسس للمواطنة المتساوية كبديل عن نظام حكم شمولي. ويطمح هذا التيار إلى تجاوز الانقسامات الهوياتية التي رسّخها النظام السابق، وتحرير المجال العام من الهيمنة الطائفية أو القومية.
ورغم غِنى هذا التصوّر على المستوى النظري، إلا أن واقع التيار الميداني يكشف عن تحديات بنيوية، أبرزها غياب التماسك التنظيمي، وتفكك مكوناته، فضلاً عن افتقاره لقاعدة جماهيرية قادرة على تحويل هذا المشروع الفكري إلى قوة فعلية في المشهد السوري، الذي يظل مثقلاً بالاستقطاب والخوف من التغيير.
تُظهر هذه التيارات أن الأزمة السورية تجاوزت الخلاف السياسي، لتصبح أزمة عقد اجتماعي. كل تيار ينطلق من دوافع واقعية، لكنه يكشف أيضاً حدود مشروعه. والتحدي الأكبر هو: كيف نعيد بناء شراكة وطنية متوازنة تنقذ الدولة من التفكك؟
الجواب يكمن في طرح رؤية استراتيجية تستند إلى مبادئ واضحة تقوم على:
1- إقرار التنوع: الاعتراف بأن المجتمع السوري مركّب، وأن الصيغة المركزية القديمة لم تعد قابلة للاستمرار. يجب أن يُصاغ العقد الجديد بناءً على اللامركزية الإدارية، والاحترام الفعلي للتعددية، من دون أي مساس بكيان الدولة السورية.
2- ضمان حياد الدولة مع طمأنة الأغلبية: لا بد من إعادة تعريف الدولة السوري كدولة مدنية محايدة، لكن من دون أن يُفهم ذلك كاستهداف للأغلبية. وهنا يمكن اقتراح صياغات دستورية جديدة تحفظ الرموز الثقافية الجامعة، وتعطي ضمانات بعدم تهميش العرب السنّة أو وصمهم بسبب ماضي الجماعات الإسلامية المتطرفة.
3- تجريم التفرّد: كل سلطة قائمة خارج تفويض شعبي وطني يجب أن تُخضع للتدقيق والمساءلة. ويجب أن يُربط أي انتقال حقيقي بمؤسسات انتقالية ذات صلاحيات محددة ومراقبة، تنتهي بانتخابات تحت إشراف دولي.
باختصار، لا يمكن تجاوز المأساة السورية بالمجاملات أو القفز فوق التناقضات، بل بمواجهتها بجرأة، والانطلاق من الواقع لا الأمنيات. بناء الدولة لا يبدأ من رغبات الأطراف، بل من الاعتراف بالتنوع، والقبول المتبادل، وإعادة تعريف السلطة كخدمة وطنية لا امتيازاً فئوياً.
فتاريخ سوريا علّمنا أن التفرد لا يصنع وطناً، وأن قوة العقد الوطني تكمن في شجاعة المواجهة لا في التواطؤ أو المجاملة.