الرئيسة \  تقارير  \  سوريا أمام تحدّي بناء الدولة الوطنية

سوريا أمام تحدّي بناء الدولة الوطنية

07.09.2025
فراس آدم



سوريا أمام تحدّي بناء الدولة الوطنية
فراس آدم
سوريا تي في 6/9/2025
لم تكن المأساة السورية وليدة الحرب التي أعقبت ثورة آذار 2011، بل هي تعبيرٌ حادّ عن أزمة عميقة في بنية الدولة والمجتمع. فقد فتكت الحقبة الأسدية، بشكلٍ خاص، بالنسيج الاجتماعي، وزادت من حدّة الانتماءات المحلية والتناقضات ما دون الوطنية، سواء كانت طائفية أو مذهبية أو عشائرية أو إثنية.
ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل إنّ تحريم العمل السياسي الحرّ وسحب السياسة من الفضاء العام، واعتماد النموذج الاستبدادي التوتاليتاري في قيادة الدولة والمجتمع، خلق بيئةً خصبةً للفرقة والفتنة، وقاد موضوعيًا إلى تصدّع الثقة بين أبناء الشعب السوري، وساهم في تشكيل الوعي واللاوعي الجمعي له، فبقي أسيرًا لوعيٍ متأخّر سياسيًا واجتماعيًا.
هذه المحنة، بكلّ مفاعيلها ونتائجها، كفيلةٌ بأن تجعلنا نثوب إلى أنفسنا ونصغي لنداء ضمائرنا، لا إلى تجييش هويّاتنا الضيّقة القاتلة، هوية المكوّنات، وأن تدعونا إلى حبّ السلام وحبّ الحياة والتعايش، وإيثار الحكمة، ورجاحة العقل، والتشارك الحرّ في إنتاج وطننا من جديدٍ كلّ يوم.
إنّ محنة السوريين تتجاوز حدود الدمار المادي، فهي تلامس غياب السياسة الوطنية وغياب المواطن بوصفه فاعلًا في إنتاج الوطن والدولة والمجتمع. ومن هنا يبرز السؤال: ما الذي يمكن أن يجعل السوريين قادرين على إعادة بناء وطنهم؟ وما هي شروط الخروج من النفق التاريخي المظلم، والعبور نحو المشروع–الحلم، أي بناء الدولة الوطنية السورية؟ إنّ الخطوة الأولى على هذا الطريق تتمثّل في بناء الوطن السوري على أساس عقدٍ اجتماعيٍّ جديد، يعيد تعريف السياسة الوطنية من حيث المفهوم والسلوك والممارسة، على أنّها مشاركةٌ حرّة ومبدعة في إنتاج الوطن والمجتمع والدولة، على وجه المساواة والتكافؤ بين جميع أبنائه.
وهذا العقد لا يمكن أن يقوم إلّا بمعارضة ونفي خطاب المكوّنات، وخطاب الأديان والمذاهب والإثنيات السائدة في سورية، بما هو خطابٌ عنصريّ يكرّس الكراهية ويبرّر العنف، سواء كانت المكوّنات المعنيّة إثنية أم دينية أم مذهبية أو لغوية أو ثقافية. وهنا ينبغي التفريق تفريقًا معرفيًا وسياسيًا وأخلاقيًا دقيقًا بين الجماعة والمجتمع السياسي؛ فالجماعة تبقى مغلقةً على ثوابتها العقائدية وتشكّل مجتمعًا صغيرًا قائمًا بذاته، مهما كثر عدد أفرادها. وإن كان لكلّ جماعةٍ الحقّ في التعبير عن ذاتها وعن معتقداتها، فإنّ ذلك لا يعني فرض نفسها أو معتقداتها على الآخرين أو على الفضاء السياسي والمجتمعي العام. بهذا المعنى، فإنّ خطاب المكوّنات هو خطابٌ مضادّ للاجتماع المدني والاجتماع السياسي الحديث، وهو حجر عثرة في طريق العبور من مجتمعٍ أهليٍّ مغلق إلى مجتمعٍ مدنيٍّ مفتوح على المستقبل وعلى سائر المجتمعات. خطاب المكوّنات، بهذا الشكل، مضادّ للخطاب الوطني المؤسَّس على تساوي جميع المواطنين في الكرامة الإنسانية والوطنية والجدارة والاستحقاق.
لقد أدّت محنة السوريين، المتمثّلة في غياب السياسة الوطنية والدولة الوطنية، إلى الكارثة التي حلّت بنا جميعًا؛ فأزهقت مئات آلاف الأرواح، وشرّدت الملايين، ودمّرت المدن والبلدات والاقتصاد، بل، وأكثر من ذلك، دمّرت اجتماعنا المدني والسياسي وثقافتنا وقيمنا. إنّ هذه المحنة، بكلّ مفاعيلها ونتائجها، كفيلةٌ بأن تجعلنا نثوب إلى أنفسنا ونصغي لنداء ضمائرنا، لا إلى تجييش هويّاتنا الضيّقة القاتلة، هوية المكوّنات، وأن تدعونا إلى حبّ السلام وحبّ الحياة والتعايش، وإيثار الحكمة، ورجاحة العقل، والتشارك الحرّ في إنتاج وطننا من جديدٍ كلّ يوم.
وكما أنّ خطاب المكوّنات يتنافى مع تأسيس عقدٍ اجتماعيٍّ جديد، فإنّ منطق الغلبة والمغلوبية يمكن أن يفسد كلّ خطوةٍ باتجاه بناء الدولة الوطنية السورية الجديدة، ويجعل بناء العقد الاجتماعي أمرًا مستحيلًا. بل على العكس، فإنّ منطق الغلبة والمغلوبية هو المؤسّس الموضوعي لكلّ الحروب الأهلية، وهو في جوهره أقرب إلى هدنةٍ، تطول أو تقصر، لكنها تهيّئ للمتهادنين وقودًا لحربٍ جديدةٍ ممكنة.
إنّ شروط بناء عقدٍ اجتماعيٍّ سوريّ واضحة ومباشرة. أوّلها الإقرار التامّ بمبدأ المواطنة الكاملة، أي الاعتراف بحقّ كلّ فردٍ – مواطن – في المشاركة على وجه المساواة والتكافؤ في إنتاج المجتمع والدولة، وفي إنتاج النظام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، وكذلك في إنتاج المعرفة والثقافة. وثانيها الوعي بالمعنى العميق والحديث لمفهوم الدولة، القائم على مبدأ العمومية التي تعيّن نوعًا حديثًا وفريدًا من أنواع السلطة، وهو سلطة الدستور والقانون، وكلاهما من طبيعة الدولة وموسومان بالعمومية.
لا يكون للعقد الاجتماعي أيّ معنى إذا ظلّ مجرّد ورقةٍ تُكتب في مؤتمرٍ أو ندوة، بل يجب أن يكون مسارًا طويلًا من النقاش الواعي والهادئ، وسيرورةً في الاعتراف المتبادل، وبناء الثقة من جديد.
إنّ الشرط اللازم لبناء الدولة الوطنية السورية الجديدة هو هذا المبدأ: مبدأ العمومية، الذي يعبّر عن كلّ ما هو مشترك بين جميع أفراد المجتمع المدني وجميع مواطنات الدولة ومواطنيها. وإلى جانب ذلك، فإنّ الاعتراف بالحريات المدنية وبالحريات السياسية للشعب السوري هو الأساس لبناء دولة الحقّ والقانون والمؤسّسات في هذه المرحلة المضطربة والانتقالية من تاريخنا، بما يعنيه ذلك من حركةٍ رشيدة وشفّافة وعادلة وفعّالة، وإلى تشاركٍ فعليّ لا شكليّ. فلا ديمقراطية من دون مساواةٍ حقيقية، ولا عدالة من دون حريةٍ كاملة. الديمقراطية، بمضامينها التي تتقاطع مع العدالة القانونية والاجتماعية والأخلاقية، القائمة على المساواة والحرية وتكافؤ الفرص وتساوي الشروط، هي الأفق الممكن لسورية الجديدة. سورية الجديدة، بقدر ما تكون جديدة فعلًا، لا تخضع لمنطق إعادة الإنتاج أو “التدوير”، ولا لابتزاز الحداثة الخطابية، ولا سيّما اليسارية منها.
إنّ الأحداث المؤلمة التي مرّت بها سوريا منذ التحرير في الثامن من ديسمبر 2024 لا ينبغي أن تذهب هباءً منثورًا، بل يجب أن تتحوّل إلى دروسٍ نستفيد منها لإعادة رسم خريطة الطريق لعبور سورية نحو مشروع الدولة الوطنية الحديثة. وإذا كانت أحداث الساحل والسويداء وغيرها قد ألقت بظلالها السوداء على فرحة الشعب السوري بالنصر، فإنّ من الواجب أن نتخذها درسًا تاريخيًا، وألّا نسمح لها أن تلقي بظلالها مرّةً أخرى على مشروع سورية الجديدة.
من هنا، لا يكون للعقد الاجتماعي أيّ معنى إذا ظلّ مجرّد ورقةٍ تُكتب في مؤتمرٍ أو ندوة، بل يجب أن يكون مسارًا طويلًا من النقاش الواعي والهادئ، وسيرورةً في الاعتراف المتبادل، وبناء الثقة من جديد. هذا هو الطريق الوحيد نحو دولةٍ سوريةٍ جديدة، قادرةٍ على الجمع بين التنوّع والاختلاف، وتحصين المجتمع ضدّ العودة إلى الانقسامات العامودية، وتمكين المواطن من دوره الكامل في صناعة وطنه ومستقبله.