سلطة دمشق تحت الاختبار
14.06.2025
بكر صدقي
سلطة دمشق تحت الاختبار
بكر صدقي
القدس العربي
الخميس 12/6/2025
أثارت تصريحات أدلى بها رئيس “لجنة السلم الأهلي” حسن صوفان ردود فعل غاضبة أعادت إلى الواجهة موضوع العدالة الانتقالية الذي تعاملت معه سلطة دمشق منذ البداية بكثير من الحذر. وأكثر ما أثار الغضب هو تبريراته بشأن “إعطاء الأمان” لمجرمين معروفين كفادي صقر الذي كان قائد “قوات الدفاع الوطني” (الشبيحة) المسؤولة عن ارتكابات ومجازر موصوفة بحق السوريين، أو كمحمد حمشو الذي كان يدير أموال ماهر الأسد ويقوم بتمويل مجموعات الشبيحة، وغيرهما. فقد برر الرجل ذلك بالقول إنهم قاموا بأدوار مهمة في تفكك قوات النظام. لو أنه قال هذا الكلام دفاعاً عنهم في قاعة محكمة مكلفة بمحاكمتهم على جرائمهم، ليأخذ القاضي علماً بالأمر وربما يعتبر ذلك سبباً لتخفيف العقوبة التي سينطق بها، ربما كان لهذا أن يكون مقبولاً من غير أن تشكل شهادته العامل الحاسم في قرار المحكمة. أما أن تجري الأمور من وراء ظهر الرأي العام وتمنح اللجنة نفسها الحق في تبرئة مجرمين أو تجريم أبرياء فهذا ليس مما يساهم في إقامة سلم أهلي أو استقرار، بل من شأنه أن يؤجج مشاعر الثأر الشخصي من جهة، وتعزيز عدم الثقة بالسلطة القائمة من جهة أخرى.
ليس هذا هو الموضوع الوحيد الذي يثير الغضب أو التحفظات الجدية على ما تفعله سلطة دمشق التي تبدو وكأنها غير معنية برأي أحد في إجراءاتها ومسالكها، مقابل اهتمامها الحصري برأي الدول القوية التي قامت باحتضانها، الولايات المتحدة والسعودية وتركيا والإمارات وغيرها. في حين أنها ماضية في نهج التفرد بالسلطة والقرار وكأن تعزيز تفردها بالسلطة سيمر بلا أي عقبات. وعلى سبيل المثال ثار جدل صاخب حول قرار وزارة السياحة الذي وضع “مدونة مظهر” لمن يريدون الاصطياف على الشواطئ أو في المسابح الخاصة، يميز بين الأجانب والسكان المحليين في درجة “الاحتشام” المطلوبة من كل من الفئتين! وتظهر رغبة السلطة في هندسة المجتمع بما يتفق مع المنظور الإيديولوجي للمجموعة الحاكمة في تدخلها في كل صغيرة وكبيرة من شؤون المجتمع ومؤسسات الدولة، كإخضاع المنتسبين للجيش والأمن العام لدورات شرعية والتدخل في شؤون التربية والقضاء بالمنهجية نفسها. أما هيئة الشؤون السياسية التي تم تأسيسها في بنية وزارة الخارجية (!) فهي أكثر ما ذكّرت السوريين بالحزب القائد للدولة والمجتمع. أي الحزب الشمولي الذي يهيمن على جميع مؤسسات الدولة ويتدخل في كل شؤون المجتمع.
أثارت تصريحات أدلى بها رئيس “لجنة السلم الأهلي” حسن صوفان ردود فعل غاضبة أعادت إلى الواجهة موضوع العدالة الانتقالية
من المحتمل أن السلطة تراهن على ضعف المقاومات الاجتماعية لإجراءاتها، وهي كذلك فعلاً إلى الآن بسبب حالة التعب العامة بعد 14 عاماً من الحرب والوضع الاقتصادي المخيف وفشل الأطر السياسية المعارضة وميلها إلى التحلل من غير أن نذكر بقرار السلطة “الانتقالية” حظر نشاطها ومنع تأسيس أطر جديدة في الوقت الحالي. ولكن ماذا عن الجماعات الأهلية التي باتت اليوم هي القوى السياسية الوحيدة التي تعجز سلطة دمشق عن إخضاعها أو احتوائها؟ فمن الواضح أن الأمور لا تمشي بالاتجاه الذي تريده السلطة مع كل من مناطق شرق الفرات الخاضعة لقسد وفصائل السويداء المسلحة والزعامة الروحية للدروز في الجنوب، وذلك لأن السلطة تطالب كلاً منهما بالخضوع لها بدعوى أنها الدولة، في حين يريانها طرفاً وحسب لا يمثلهما بسبب رفضه للشراكة الوطنية في الدولة المأمولة.
صحيح أن الدول الداعمة القوية المشار إليها أعلاه غير مهتمة بالكيفية التي تصوغ بها السلطة علاقتها بالسكان، ولا بالنظام السياسي الذي ستتشكل الدولة وفقاً له (ديمقراطي، دكتاتوري، رئاسي، برلماني، مركزي، لا مركزي، بحزب قائد، أو بتعددية حزبية، بفصل بين السلطات أو بهيمنة السلطة التنفيذية… إلخ) وقد منحتها الاعتراف والمظلة الحامية، ولكن بشرط أساسي هو تأمين الاستقرار الذي لا بد من توفره لتدفق الاستثمارات. ولا يمكن تحقيق الاستقرار إلا حين يشعر جميع السوريين بأن الدولة هي دولتهم حتى لو كانت لديهم تحفظات على هذه الجزئية أو تلك، وحتى لو كانوا يعارضون السلطة القائمة. فكيف يمكن الحديث عن استقرار في الوقت الذي لا تسيطر فيه السلطة على مناطق واسعة، وترفض في الوقت نفسه تقديم تنازلات للقوى المسيطرة فيها تجعلها جزءا من الدولة وليس عقبة في طريق الوحدة والاستقرار طويل المدى؟ مع العلم أن أي تفكير بإخضاع تلك المناطق بالقوة مرفوض من قبل الدول الراعية للسلطة التي لا تريد سنوات إضافية من الصراعات الدموية.
من المؤسف أن هذه العقبة المتمثلة في المناطق خارج سيطرة السلطة هي الضمانة الوحيدة لعدم تفرد الجماعة الحاكمة بإنشاء سلطة شمولية تسعى لهندسة المجتمع وفق منظورها الإيديولوجي، أي هي تعويض واقعي عن غياب معارضة سياسية ديمقراطية وضمور المقاومة الاجتماعية، يشكل نوعاً من توازن القوى مع سلطة دمشق لتكون سلطة انتقالية حقاً بصرف النظر عن المظلة الخارجية القوية التي يبدو أنها تتمتع بها.
فهذه المظلة ليست مطلقة، بل هي مشروطة ومؤقتة، ولدى السلطة فترة محدودة لتفادي أخطائها في الأشهر الستة التي مضت من عمرها، والاعتراف لنفسها بوجوب خضوعها لتسويات وحلول وسط ترضي الداخل وإن بدرجات متفاوتة إذا أرادت الاستمرار في السلطة. أي أنها ملزمة بالتخفيف من متطلباتها الإيديولوجية وتفردها مقابل تقوية النزوع إلى دولة تمثل كل التنوع الاجتماعي والسياسي في سوريا.