الرئيسة \  تقارير  \  رهانات الانفصال في سوريا: أوهام تعمّق الانقسام

رهانات الانفصال في سوريا: أوهام تعمّق الانقسام

09.09.2025
الدكتور حسام حاج عمر



رهانات الانفصال في سوريا: أوهام تعمّق الانقسام
الدكتور حسام حاج عمر
الجزيرة
الاثنين 8/9/2025
منذ سقوط نظام الأسد وتأسيس الدولة السورية الجديدة في دمشق، لم تتوقف بعض التيارات ذات الطابع الأقلوي عن طرح مشاريع ذات طابع انفصالي تسعى إلى إخراج مناطق انتشارها من الجغرافيا السورية.
غير أن خطورة هذه المشاريع لا تكمن فقط في فكرة الانفصال بحد ذاتها، بل أيضا في سعيها لفرض السيطرة على مساحات أوسع من البلاد، حتى وإن كانت مأهولة بمكونات أخرى ترفض سلطتها ولا تمت إليها بصلة ديمغرافية.
وهذا يعكس طبيعة الفكر الإقصائي والتوسعي الذي يحكم هذه الرؤى حتى قبل أن ترى أية فرصة حقيقية للتنفيذ.
لم يعد تيار الهجري في محافظة السويداء يطالب بمجرد استقلالها، وهو أمر يفتقر في أساسه للواقعية السياسية والجغرافية والتاريخية، بل بات يتحدث عن استقلال "الجنوب"
لا تكتفي قوات سوريا الديمقراطية (قسَد)، على سبيل المثال، بالسيطرة على مناطق ذات وجود كردي مهم في شمال الحسكة أو عين العرب (كوباني)، بل تفرض سيطرتها بالحديد والنار على مناطق عربية صرفة، مثل دير الزور والرقة والطبقة والشدادي والهول، وغيرها وسط رفض عربي واسع ضمن هذه المناطق لسلطة قسد، ومطالبات متكررة للعودة إلى كنف دمشق.
وكثيرا ما يصادف مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي خرائط لما يسمى بـ "روجآفا" (وهي التسمية التي تعتمدها الإدارة الذاتية التابعة لقسد لمناطق سيطرتها).
ومن المثير للاستغراب أن تضم هذه الخرائط مناطق إضافية شاسعة من شمال سوريا، قد تصل إلى حلب وإدلب واللاذقية شمالا وغربا، وهذا ما يعكس الطموح عالي السقف للقوى الكردية، ومساحة المنطقة التي تطمح للسيطرة عليها لو أتيحت لها الفرصة.
وبالمثل، لم يعد تيار الهجري في محافظة السويداء يطالب بمجرد استقلالها، وهو أمر يفتقر في أساسه للواقعية السياسية والجغرافية والتاريخية، بل بات يتحدث عن استقلال "الجنوب" شاملا محافظتي درعا والقنيطرة، التي يقطنهما نحو مليون ونصف مليون سوري، غالبيتهم الساحقة من العرب السنة، في محاولة لمد جغرافيا مشروعه حتى الحدود مع إسرائيل.
رغم كثرة هذه الدعوات، يبقى الواقع السياسي والديمغرافي في سوريا والإقليم كابحا أساسيا أمامها. فتنفيذ مثل هذه المشاريع يواجه عقبات هائلة، وغالبا ما سينتهي إلى الفشل
أما ما يسمى بـ"المجلس السياسي لوسط وغرب سوريا"، الذي تأسس مؤخرا في المهجر من قبل شخصيات تنتمي للطائفة العلوية، فيطرح مشروع إقليم منفصل يشمل الساحل السوري ومدينتي حمص وحماة وأريافهما.
ويصطدم هذا الطرح بالواقع الديمغرافي المتنوع لتلك المنطقة، حيث تتداخل مكونات سكانية متعددة من العلويين والسنة والمسيحيين والإسماعيليين والمرشديين.
فكيف لمجلس يتكون من لون طائفي واحد أن يدعي تمثيل هذا التنوع؟ بل كيف يمكن إقحام مدن كبيرة مثل حمص وحماة واللاذقية، ذات الأغلبية السنية الواسعة، ضمن مشروع يقوم على أساس فئوي ضيق؟
كل ذلك يوضح أن المسألة ليست تعبيرا عن مظلومية سياسية أو رد فعل على إقصاء من نوع ما من قبل السلطة، بل هي بالأحرى تعبير عن أزمة تعيشها بعض النخب الأقلوية ملخصها البحث عن المجد الضائع وطموح العودة إلى مفاصل السلطة والتحكم برقاب السوريين، ولو كان الثمن تمزيق النسيج السوري وزيادة الانقسامات.
ورغم كثرة هذه الدعوات، يبقى الواقع السياسي والديمغرافي في سوريا والإقليم كابحا أساسيا أمامها. فتنفيذ مثل هذه المشاريع يواجه عقبات هائلة، وغالبا ما سينتهي إلى الفشل.
بيد أن الخطورة الحقيقية تكمن في الاستثمار في مشاعر الخوف من المستقبل والأحقاد القومية والطائفية، ما يدفع المكونات المنخرطة في هذه المشاريع نحو صراع مع محيطها الطبيعي، ويجعل إعادة اندماجها لاحقا بعد فشل هذه المشاريع أمرا بالغ الصعوبة، فالسقف عالي الأطروحات والاستثمار في دماء الأبرياء يجعل النزول من أعلى الشجرة شاقا وعسيرا.
إن خطورة هذه المشاريع لا تتوقف عند حدود وحدة سوريا واستقرارها، بل تمتد لتطول مستقبل المكونات التي تزعم هذه التيارات تمثيلها
وعند هذه النقطة، يجد المجتمع المحلي الذي انخرط في وهم الانفصال نفسه أمام خيارين أحلاهما مر:
الانفصال عن سوريا: وهو احتمال شديد الصعوبة لأسباب جيوسياسية وديمغرافية واقتصادية. وحتى في حال تحققه، فلن تكون النتيجة كيانا مستقرا، بل جغرافيا مشحونة بكل عوامل الانفجار الطائفي والاجتماعي، ومعزولة عن محيطها العربي والإسلامي، إن لم تكن معادية له.
فشل المشروع الانفصالي: وهو الاحتمال الأرجح، وسينتج عنه شعور مر بالهزيمة داخل هذه المجتمعات، وما يترتب عليه من عزلة ورفض سياسي واجتماعي من المكونات الأخرى، مما يهدد بترسيخ الشروخ المجتمعية.
إن خطورة هذه المشاريع لا تتوقف عند حدود وحدة سوريا واستقرارها، بل تمتد لتطول مستقبل المكونات التي تزعم هذه التيارات تمثيلها.
فبدلا من أن تشكل هذه النخب جسورا للتعايش بين مجتمعاتها وبقية السوريين، ستجد هذه المكونات نفسها في عزلة خانقة إذا ما استمرت بالانقياد خلف هذه القيادات التي تسوق لها أوهام الانفصال على أنها مشاريع سياسية حقيقية قابلة للتحقيق.