الرئيسة \  تقارير  \  فرص ما بعد الأزمات.. لبنان وسوريا وقواعد جديدة للسياسة

فرص ما بعد الأزمات.. لبنان وسوريا وقواعد جديدة للسياسة

07.09.2025
صهيب جوهر



فرص ما بعد الأزمات.. لبنان وسوريا وقواعد جديدة للسياسة
صهيب جوهر
سوريا تي في 6/9/2025
لا يبدو طرحُ السؤال عن مصلحة إسرائيل في بقاء سلاح حزب الله ضرباً من المفارقة بقدر ما هو محاولة لفهم منطق إدارة الخصوم لصراعاتٍ طويلةٍ ومركّبة. فالدولة العبرية، وهي تمارس تفوّقها الجوي والاستخباري وتستند إلى غطاءٍ أميركي وشرعيةٍ سياسية تمتّ صياغتها بعناية، لا تنزعج كثيراً من سجالات لبنانية لا تنتهي حول السلاح؛ بل تحوّلها مادةً تواصل عبرها هندسة الرواية وتثبيت الوقائع. يصبح العنوان نفسه—نزع السلاح—جزءاً من المعركة: استنزاف داخلي في لبنان، وذريعة جاهزة لإسرائيل كلما أرادت توسيع بنك أهدافها أو اختبار قواعد اشتباك جديدة.
في تاريخ النزاعات أمثلة وفيرة على أن اندفاع طرفٍ ما إلى خطوةٍ غير محسوبة يتيح لخصمه تجاوز قيوده السابقة. الخصم يترصّد لحظةَ الانفعال ليحوّلها إلى تفويضٍ أوسع: أخلاقياً أمام جمهوره، وسياسياً أمام حلفائه، وعسكرياً على مسرح العمليات.
تعيش إيران بدورها لحظة مفصلية: عودةٌ مشروطة إلى مسار تفاوضي مع واشنطن، وضغطٌ أوروبي متجدّد، واقتصادٌ يتلقى ارتداداتٍ قاسية.
ليست هذه دعوةً إلى السكون، بل إلى عقلانيةٍ هجوميةٍ محسوبة تمنع تقديم المبرّر المجاني الذي ينتظره العدو. والنتيجة أن النقاش اللبناني حول السلاح، حين يُدار بانفعالات متبادلة ومزايدات لفظية، قد يتحوّل من ملف سياديّ داخلي إلى رافعةٍ ترويجية لخطاب الدفاع الوقائي الإسرائيلي.
في الحالة اللبنانية، تُظهر الوقائع أن إسرائيل تحسن استخدام ملف سلاح حزب الله كمدخلٍ مزدوج: تُشيطن قدراته الصاروخية وتصفها بالدقيقة القادرة على تهديد أمنها، وفي الوقت نفسه تُصوِّر ضرباتها على أنها عملٌ دفاعي يندرج ضمن منع الخطر قبل وقوعه. وبين هذا وذاك يتّسع الداخل اللبناني لسجالٍ يستنزف الأعصاب والموارد معاً، في حين تتقدم إسرائيل خطوةً وراء خطوة في إعادة رسم الوعي العام حول حربٍ ضرورية تتوسّع
ببطء. المطلوب هنا ليس إسقاط وظيفة الردع ولا التهوين من تهديدات العدو، بل تفادي تحويل الردع نفسه إلى ذريعةٍ دائمة لنسق استنزاف لا ينتهي.
بعيداً عن لغة الاتّهام، تكشف تجربة غزة درساً مُرّاً في عواقب غير مقصودة. ما حصل في 7 تشرين الأول/أكتوبر قدّم لإسرائيل سياقاً مواتياً لتوسيع هامش عملها العسكري والسياسي على نحوٍ غير مسبوق، تحت مظلّة تعاطفٍ غربيٍّ كثيف ودعوات مكافحة الإرهاب. لم تكن حماس تسعى إلى تقديم هدية لخصمها؛ لكن المفارقة القاسية أنّ الفعل الذي أرادت منه فرض حضورٍ فلسطينيٍّ أعلى على الطاولة انتهى إلى منح إسرائيل غطاءً أخلاقيّاً وسياسياً لتغيير قواعد اللعبة في القطاع ومحيطه. قراءة هذا الدرس ليست تجريماً للحركة بقدر ما هي دعوة إلى إدارةٍ أدقّ للمخاطر في الإقليم كله، ولبنان جزءٌ منه بطبيعة الحال.
تتزامن هذه الدينامية مع واقعٍ إسرائيلي داخلي مضطرب. نتنياهو محكوم بحسابات بقاءٍ سياسي وهاجس إرثٍ تاريخي، وتحالفاتُه تتشكّل وتتفكك على وقع تناقضات اليمين واليمين الديني والقومي. في لحظات الهشاشة الداخلية تميل الحكومات إلى تصدير الأزمة أو تجميدها عبر حالة اشتباك دائمة. ليست التصريحات عن سلوك هجومي على أكثر من جبهة تفصيلاً لغوياً؛ بل مؤشّراً على استراتيجية ضغطٍ إقليمي تتّسع من غزة ولبنان إلى سوريا واليمن، مع عملياتٍ نوعيةٍ تحمل رسائل مركّبة. لهذا يصبح ضبط الإيقاع على الحدود الجنوبية ضرورة سيادية، لا مجرّد خيارٍ تكتيكي يتركه كل طرف لتقدير اللحظة.
وعلى الضفة الأخرى من المشهد، تعيش إيران بدورها لحظة مفصلية: عودةٌ مشروطة إلى مسار تفاوضي مع واشنطن، وضغطٌ أوروبي متجدّد، واقتصادٌ يتلقى ارتداداتٍ قاسية. وهذه البيئة لا تُقصي احتمال التهدئة المرحلية، لكنها لا تنفي أيضاً أن يندفع لاعبون إقليميون إلى اختبار الخطوط الحمر أو استثمار الفراغات.
والقراءة الهادئة هنا تفيد لبنان مرتين: مرة بتجنب توظيفه ساحة رسائل، ومرّةً باستباق اهتزازاتٍ قد تنعكس مباشرةً على حدوده واقتصاده وأمنه الاجتماعي.
عملياً، يمكن ترتيب الأولويات على نحوٍ واقعي يتجنّب الفخاخ. يبدأ الأمر بتحويل العنوان الكبير—حصرية السلاح بيد الدولة—من شعارٍ مُعلّق إلى خطةٍ تنفيذيةٍ معقولة، بجداول زمنية وقدرات مؤسسية واضحة، بحيث يتقدّم دعم الجيش وتعزيز سلطة الدولة على أي سجالٍ تعبوي.
في السياق نفسه، ينبغي أن تُدار خطوات متصلة بسلاح الفصائل الفلسطينية باعتبارها حزمةً واحدة: أمنٌ مجتمعي داخل المخيمات، تعاونٌ مهني مع المؤسسات اللبنانية، ومعالجةٌ اقتصاديةٌ واجتماعية تخفّف دوافع التطرّف والتوتّر. فالفراغ الأمني أخطر من السلاح ذاته لأنه يفتح الباب لشبكات عابرة للحدود ويمنح إسرائيل مادّة اتهام جاهزة.
على المسار السوري، تبدو البراغماتية الممكنة أكثر فائدة من شعارات القطيعة أو التذويب. إدارة الرئيس أحمد الشرع، يمكن فتح قنواتٍ مؤسسيةٍ هادئة حول إدارة الحدود ومكافحة التهريب وتنظيم عودة اللاجئين وترتيباتٍ أمنية تراعي السيادة اللبنانية وتخفّف منسوب الاحتكاك. هذا ليس مجاملةً لأحد، بل استثمارٌ في استقرار لبنان أولاً، ويحتاج لغةً عمليةً تُقلّص الحساسيّات وتُعلي منطق المصالح المشتركة.
حماية لبنان ومنع تحويله مسرحاً لخطط الآخرين، من دون عداءٍ مجاني مع أي طرف فلسطيني، ومن دون توتيرٍ إضافي للعلاقة مع دمشق التي يمكن إدارتها—في عهد أحمد الشرع—بعقلٍ بارد ومنطق مصالح مشتركة.
إدارة الاشتباك على الجبهة الجنوبية بدورها تستدعي عقلاً بارداً: تثبيت قواعد اشتباك واضحة، تحييد المدنيين قدر المستطاع، وتوسيع قنوات التهدئة غير المباشرة عبر وساطاتٍ موثوقة عربية وإقليمية. ليست الوساطات ترفاً دبلوماسياً، بل أدواتٌ واقعية لتقليص الذرائع ومنع الانزلاق إلى حربٍ مفتوحة تُغري منطق القوة الإسرائيلي. الردع حين يُصاغ بحسابٍ يمنع الاستنزاف بدل أن يضاعفه، ويُخرج لبنان من منطق الاستدعاء الدائم إلى منطق إدارة المخاطر بوعيٍ وصبر.
أما الإشارات المتعلقة بترتيب وضع السلاح في بعض المخيمات فليست حدثاً تقنياً معزولاً. قيمتها في أن تُستتبع بخطواتٍ متدرّجة تُغلق مسارب الاستقطاب وتؤسّس لأمنٍ مجتمعي من داخل المخيمات، وتربط الأمن بالتنمية والتعليم وفرص العمل، فتنتقل العلاقة من توظيفٍ سياسي وأمني إلى إدارةٍ مدنية مستدامة. عندها فقط يصبح الملف أقل قابليةً للابتزاز وأقل فاعليةً كذريعة في خطاب الآخرين.
خلاصة الأمر أن لبنان أمام اختبار شجاعته الهادئة: ألّا يترك خصمه يختار له توقيت المعركة ولا ميدانها، وألّا يهبه الذريعة التي ينتظرها، وأن يُمسك بخيطٍ واحد يقود كل الخيوط: دولةٌ قادرة وجيشٌ مُعزَّز وسياسةٌ خارجية متوازنة وإدارةٌ داخلية تُقلّص دوافع الاحتراب.
هذا ليس خطاباً إنشائياً؛ بل سياسة نفسٍ طويل تُراكم المكاسب الصغيرة وتمنع الخسائر الكبيرة. بين الردع والذرائع شعرةٌ رفيعة، واجتيازها يتطلب فنّاً في حساب الخطوة التالية بقدر ما يتطلب ثباتاً في الهدف: حماية لبنان ومنع تحويله مسرحاً لخطط الآخرين، من دون عداءٍ مجاني مع أي طرف فلسطيني، ومن دون توتيرٍ إضافي للعلاقة مع دمشق التي يمكن إدارتها—في عهد أحمد الشرع—بعقلٍ بارد ومنطق مصالح مشتركة.
بهذه المقاربة وحدها يمكن للبنان أن يخفّض كلفة اللحظة الإقليمية ويعيد هندسة موقعه في معادلة الردع والشرعية، بعيداً عن الانفعال وقريباً من صرامة الدولة.