الرئيسة \
تقارير \ ذاكرة سيئة .. طريقة ألمانيا الغريبة في التطهر من "الهولوكوست" (1 - 2)
ذاكرة سيئة .. طريقة ألمانيا الغريبة في التطهر من "الهولوكوست" (1 - 2)
17.07.2023
مجلة تيارات يهودية
ذاكرة سيئة .. طريقة ألمانيا الغريبة في التطهر من "الهولوكوست" (1 - 2)
أجوبة – (مجلة تيارات يهودية) عدد الربيع، 2023
الغد الاردنية
الاحد 16/7/2023
في وقت ما في بداية الألفية، بدأت مجموعة من النساء التركيات في الغالب من مجموعة مهاجرة تسمى "أمهات الحي" في الاجتماع في منطقة نويكولن في برلين، للمعرفة عن المحرقة اليهودية "الهولوكوست". وكانت دروس التاريخ التي تلقينها جزءا من برنامج يسره أعضاء "خدمة المصالحة من أجل السلام"، وهي منظمة مسيحية مكرسة للتكفير الألماني عن "الشواه"، المحرقة اليهودية، أو "الهولوكوست". وقد أصيبت أمهات الحي بالرعب مما تعلمنه في هذه الجلسات. وتتذكر سيدة من المجموعة، تدعى نظمية، في وقت لاحق كيف فكرت في ذلك الحين: "كيف يمكن لمجتمع أن يتحول إلى هذا الحد من التعصب؟ بدأنا نسأل أنفسنا عما إذا كان يمكن أن يفعلوا مثل هذا الشيء بنا نحن أيضا.. عما إذا كنا سنجد أنفسنا في نفس موقف اليهود". ولكن، عندما أعربت عضوات المجموعة عن هذا الخوف في زيارة الكنيسة التي نظمها البرنامج، أصبح مضيفوهن الألمان مروعين. قالت نظمية: "قالوا لنا أن نعود إلى بلادنا إذا كان هذا هو ما نفكر فيه". وانتهت الجلسة فجأة وطلب من النساء المغادرة.
ثمة عدد من الحكايات من هذا القبيل وردت في دراسة عالمة الأنثروبولوجيا إسراء أوزيوريك Esra Özyürek المعنونة "مقاولو الذنب من الباطن" Subcontractors of Guilt، وهي دراسة نشرت مؤخرا لمجموعة من برامج التعليم الألمانية عن "الهولوكوست"، مخصصة لدمج مجتمعات المهاجرين العرب والمسلمين في روحية المسؤولية والتكفير عن الجرائم النازية في البلاد. وكما توضح أوزيوريك، فإن أولئك الذين يمرون عبر هذه البرامج غالبا ما يقيمون روابط لا يقصدها مرشدوهم -مع العنف القومي في ألمانيا المعاصرة، أو إلى الظروف الدموية التي فروا منها في سورية وتركيا وفلسطين. وهكذا، بالنسبة للعديد من الألمان، فإن المخاوف التي تثيرها هذه اللقاءات التاريخية لدى المهاجرين هي، على حد تعبير أوزيورك، "المشاعر الخاطئة". ويذكر أحد المرشدين الألمان الذين يقودون الجولات الخاصة بمعسكرات الاعتقال أنه "غاضب" من أعضاء المجموعات السياحية من المهاجرين الذين أعربوا عن خوفهم من "إرسالهم إلى هناك تاليا". وقال الدليل: "كان هناك شعور بأنهم لا ينتمون إلى هنا، ولأنهم لا يجب أن ينخرطوا في الماضي الألماني". لكي يكونوا ألمانا حقًا، كان من المفترض أن يتقمصوا دور الجناة التائبين، وليس موقف الضحايا المحتملين.
أصبح هذا التوقع أساسا لما أطلق عليه الباحثان مايكل روثبرغ Michael Rothberg وياسمين يلدز Yasemin Yildiz وصف "المأزق المزدوج للمهاجرين". في هذا النموذج، يوجد جوهر "الألمانية" المعاصرة في حساسية معينة لمعاداة السامية، تعطى من خلال علاقة عائلية مباشرة محتملة مع "الرايخ الثالث". وهكذا، يكون من المتوقع أن يتبنى المهاجرون والأقليات المصنفة عرقيا إرث الجناة؛ وعندما يفشلون، يؤخذ هذا الفشل كعلامة على أنهم لا ينتمون حقا إلى ألمانيا. وبعبارة أخرى، في مفارقة نموذجية للديناميات المقلوبة رأسًا على عقب المحيطة باليهود والعرب والألمان في ألمانيا المعاصرة، أصبحت معاداة السامية المتصوَّرة آلية للحفاظ على آرية (الهوية) الألمانية.(1)
هذه الديناميات غائبة إلى حد كبير عن القصة السائدة عن ثقافة الذاكرة في ألمانيا، التي عززت في العقود الأخيرة سمعة البلد كنموذج لمحاسبة الذات الوطنية. وبالنسبة لقصة غلاف مجلة "ذي أتلانتيك" في كانون الأول (ديسمبر) 2022، سافر الشاعر والباحث كلينت سميث Clint Smith إلى ألمانيا ليرى بنفسه ما قد تعلِّمه عملية التكفير عن الذنب في البلد للولايات المتحدة حول مواجهة تاريخها الخاص من الفظائع العنصرية.
وفي السطر الأخير من المقال، يبدو أنه يمنح الألمان علامة "أ" على هذا الجهد، ويكتب: "إنه نفس فعل محاولة التذكر هو الذي يصبح أقوى نصب تذكاري على الإطلاق". وليس سميث هو الوحيد الذي خرج معجبًا بمثال ألمانيا. من كندا إلى بريطانيا إلى اليابان، نظر المراقبون إلى ألمانيا كنموذج لكيفية التعامل مع جرائم دولهم. وكما كتب أندرو سيلفرشتاين Andrew Silverstein في هذا العدد (من "تيارات يهودية")، فإن نشطاء الذاكرة الأسبان الذين يسعون إلى تحريك المحاسبة الداخلية لبلدهم بشأن عنف دكتاتورية فرانسيسكو فرانكو الفاشية تبنوا الممارسة الألمانية المتمثلة في تثبيت "ستولبرشتاين"، أو "أحجار الذكرى"، في الشارع.
مما لا شك فيه أن التزام ألمانيا بالذكرى مثير للإعجاب. لم تعمل أي قوة عالمية أخرى بقدر مماثل من الجهد لفهم ماضيها. ومع ذلك، بينما يشيد العالم بثقافة الندم، فإن بعض الألمان -وخاصة اليهود والعرب والأقليات الأخرى- كانوا يدقون ناقوس الخطر من أن هذا النهج في مقاربة الذاكرة كان إلى حد كبير مشروعا نرجسيا، بعواقب غريبة ومقلقة.
جادل الكاتب اليهودي الألماني اليساري فابيان وولف Fabian Wolff في مقال له نُشر في العام 2021 بأن ارتباط ألمانيا بالماضي قلل من مساحة الحياة اليهودية في الوقت الحاضر: ليس لدى الألمان مكان "للحياة اليهودية [التي] توجد خارج مجال رؤيتهم وطريقتهم في المعرفة"، كما كتب، أو "للمحادثات اليهودية حول القضايا اليهودية [التي] لها معنى يتجاوز، وينفصل عن، ما يفكر به هؤلاء الألمان أنفسهم أو يرغبون في سماعه". وصدرت أطروحة الشاعر اليهودي الألماني والمفكر العام ماكس زوليك Max Czollek ضد ثقافة الذاكرة الألمانية، بعنوان "فك التكامل" De-Integrate! باللغة الإنجليزية هذا العام.. ويبني هذا الكتاب على مفهوم عالم الاجتماع اليهودي الألماني، ي. ميشال بودمان Y. Michal Bodemann، عن "مسرح الذاكرة"، وهو مصطلح يقصد إلى وصف دور اليهود الألمان في سرد لا يتعلق بتعويض ضحايا الإبادة الجماعية، بقدر ما يتعلق بتخليص الجناة وأحفادهم والتكفير عن ذنبهم. وكما كتب بودمان في العام 1991 عن التوقعات الموضوعة على اليهود في الدولة الألمانية الموحدة مؤخرا: "بغض النظر عن توجهاتهم الشخصية، أو معتقداتهم أو تاريخهم، كان على اليهود، في حضورهم الجسدي، أن يمثلوا الديمقراطية الألمانية الجديدة، وبذلك ينفذون عملا أيديولوجيا". ويجادل زوليك بأن اليهود لعبوا هذا الدور بشكل جيد للغاية، مما سمح للألمان الذين حاولوا ذات مرة تجنب التعبيرات القومية، خوفًا مما قد يفعلونه بها، بأن يشعروا بأنهم أصبحوا يستحقون جني عائدها. والنتيجة هي انفجار المشاعر القومية، وهو ما يراه زوليك في أحداث تتراوح من النجاح المقلِق للحزب الشعبوي اليميني "البديل من أجل ألمانيا" في البرلمان في العام 2017، إلى الحماسة القومية، الحميدة بالمقارنة، بشأن استضافة ألمانيا لكأس العالم لكرة القدم في العام 2006.
أما أن هذه الرغبات في ما بعد الوحدة للهوية الوطنية تتجلى ضد السكان المهاجرين في ألمانيا -خاصة العرب والمسلمين- فليس تطورا مفاجئا. مع ارتفاع عدد طالبي اللجوء من الشرق الأوسط في العام 2010، ارتفع عنف اليمين المتطرف ضدهم. ووقع الهجوم الأكثر دموية حتى الآن في العام 2020، عندما أقدم مسلح على قتل تسعة أشخاص من خلفيات مهاجرة في مدينة هاناو، مستهدفا صراحة مواقع افترض أنها يرتادها غير الألمان. ودعا في بيان إلى "الإبادة الكاملة" للعديد من "الأعراق أو الثقافات في وسطنا". وعلى الرغم من أن الدولة الألمانية شجبت مثل هذا التطرف، إلا أنها تسمح لـ"الآخرين" من غير البيض بالدخول في كيانها بشروط المحدودية والخضوع إلى حد كبير. وبينما نكتب هذا المقال، استشهدت شرطة برلين مرة أخرى بمخاوف تتعلق بمعاداة السامية لإصدار حظر وقائي على الاحتجاجات دعما للأسرى الفلسطينيين وإحياء لذكرى النكبة، عندما يحيي الفلسطينيون ذكرى طردهم من وطنهم على يد القوات الصهيونية أثناء تأسيس دولة إسرائيل. (في الآونة الأخيرة، اعترفت الشرطة بأن أولئك الذين اعتقلوا في الاحتجاجات المحظورة في العام الماضي كانوا قد استهدفوا بسبب ارتدائهم الكوفية الفلسطينية أو عرض ألوان العلم الفلسطيني، مما يذكرنا بحملات قمع مماثلة ضد العلم الفلسطيني داخل إسرائيل). وما هو واضح هو أن الألمان يسيطرون بإحكام على شكل كل من اليهودية والفلسطينية داخل حدودهم -وهي حالة للأمور تتناقض مع الآثار الإنسانية المفترضة لذكرى الهولوكوست.
لسنا أول من ناقش هذه الديناميات ولا نقف مباشرة في منتصف دائرة انفجارها. لكننا نكتب تضامنا مع اليساريين اليهود الألمان الذين تم تهميشهم وإعاقة محاولاتهم للتنظيم -لأن ألمان الأمس ذبحوهم وألمان اليوم يقومون بمحوهم- وكذلك مع السكان المصنفين كأقليات الذين يواجهون القمع الذي تقره الدولة تحت ستار الوكالة التاريخية المسؤولة. نكتب لتنبيه قرائنا الأميركيين إلى الطرق التي أصبحت بها ألمانيا ساحة معركة سياسية أساسية في الصراع حول ما تعنيه اليهودية الآن -وكيف يؤثر ذلك على الفلسطينيين في جميع أنحاء العالم. ونكتب في محاولة للتحدث مباشرة إلى الألمان، لمشاركة الكيفية التي صدمت بها هذه الشؤون محرري مجلة يهودية واحدة مكرسة في وقت واحد للحياة اليهودية، والحرية الفلسطينية، وذكرى المحرقة -مجلة نشر فيها دبليو إي بي دو بوا W.E.B. Du Bois رسالته في العام 1952 من غيتو وارسو، وحيث كتب الصياد النازي، تشارلز آر ألين جونيور Charles R. Allen Jr، فضائحه عن أعضاء الرايخ الذين تؤويهم حكومة الولايات المتحدة. باختصار، يبدو لنا الوضع الحالي لثقافة الذاكرة الألمانية عملة ذات وجهين من الملهاة والمأساة.
* * *
أخذت ألمانيا وقتها لكي تصبح رمزا للندم والمصالحة. في البداية، مع اندفاع الأمة إلى إعادة البناء بعد الحرب، كانت روح العصر، خاصة في ألمانيا الغربية، تميل نحو الإنكار: أرجع الروائي دبليو جي سيبالد W.G. Sebald الفضل في التجديد الرائع للبلاد إلى "السر المحفوظ جيدا للجثث المندمجة في أسس بناء دولتنا، وهو سر ربط جميع الألمان معا في سنوات ما بعد الحرب". وفي هذه الفترة، كان على كل من ألمانيا الشرقية والغربية أن تتعاملا مع الحقيقة المحرجة والمروعة المتمثلة في أن دعم الحزب النازي ظل مرتفعا بين عامة السكان -إلى أن جعلته هزيمة هتلر غير قابل للجهر به. وردت ألمانيا الغربية إلى حد كبير من خلال كنس هذه العاطفة تحت البساط، و"إعادة تأهيل" معظم النازيين وإعادة دمجهم في المجتمع. وفي المقابل، لم تهرب ألمانيا الشرقية من إرث النازيين، والتزمت بإحياء ذكرى علنية متكررة لجرائمهم، لكنها اتبعت إلى حد كبير ممارسات الاتحاد السوفياتي -الراعي السياسي والاقتصادي الرئيسي للدولة الفتية- من خلال إحياء ذكرى ضحايا الفاشية بشكل عام أكثر من الاعتراف بإبادة جماعية لليهود على وجه التحديد. كما رحبت هي أيضا بالنازيين السابقين من ذوي الرتب الدنيا في حظيرة الهوية الجديدة المناهضة للفاشية للجمهورية. في حين أن الأجيال اللاحقة من الألمان، بمن فيهم بعض الراديكاليين في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، غسلت أيديها من المشكلة بطريقة مختلفة، حيث قام أفرادها بصياغة هوية سياسية خالية من الشعور بالذنب، مستمدّة من حقيقة أنهم ولدوا بعد صعود النازية.
مع ذلك، بدءًا من ثمانينيات القرن العشرين، وسط اهتمام عالمي متزايد بالذكريات وصعود حقل "دراسات الذاكرة"، بدأ النشطاء الألمان في الضغط من أجل المزيد من الاعتراف بالهولوكوست. وفي مواجهة حكومة محافظة ومتحفظة، قام المنظمون اليساريون بأعمال دراماتيكية، مثل احتلال مواقع معسكرات الاعتقال واستضافة عملية "حفر" أثري رمزية على الأرض التي كان يقف عليها مقر الـ"جستابو" ذات يوم، من أجل دفع ألمانيا لتوفير التعليم العام في مثل هذه الأماكن. وخلال عملية إعادة توحيد شطري ألمانيا في نهاية العقد، أصبح ما بدأ كجهد شعبي سياسة رسمية للدولة.
ولم يكن هذا الاحتضان الوطني للذكرى من دون مصلحة ذاتية: من أجل إظهار نفسها كدولة لائقة لدخول مجتمع دول أوروبا الغربية، شرعت ألمانيا الجديدة الموحدة، على مدى العقدين التاليين، في إثبات أنها تابت بما فيه الكفاية. حتى أن الألمان صاغوا كلمة جديدة -Vergangenheitsbewältigung- لتعني عملية "التصالح مع الماضي" التي أصبحت محورًا للهوية الوطنية الألمانية. وفي محاولة لتعزيز ادعائها التوبة، أعلنت الدولة الموحدة حديثا عن "نهضة يهودية" مدفوعة إلى حد كبير بالهجرة من الاتحاد السوفياتي السابق -تدفق اليهود الذي أصبح، بكلمات الباحثة هانا تزوبيري Hannah Tzuberi، "الضامن الأكثر قيمة لشخصية [ألمانيا] الديمقراطية، الليبرالية، والمتسامحة".
في العام 2005، جعلت الأمة هذا الالتزام مرئيا وماديا من خلال إقامة "النصب التذكاري للقتلى اليهود في أوروبا"، وهو حقل واسع من الألواح الخرسانية الصارخة في وسط برلين. (جاء بناء النصب التذكاري إلى حد كبير نتيجة للضغط الذي حشدته ليا روش Lea Rosh، وهي ألمانية استبدلت اسمها الأول، إديث، باسم يهودي، وتعرضت لانتقادات لاحقًا على قيامها بسرقة سِنّ من معسكر اعتقال بلزيك لوضعها في عمود في النصب التذكاري). ونتيجة لهذا الأداء المكثف للندم العام والمعلَن، "أصبحت ألمانيا أخيرا مجهزة لتولي قيادة الاتحاد الأوروبي؛ لأنه حتى بالإضافة إلى هيمنتها الاقتصادية، كانت لديها أوراقها المرتبة أيضًا من منظور حقوق الإنسان"، كما كتب المؤرخ إنزو ترافيرسو Enzo Traverso ساخرا في مجلة "جاكوبين" العام الماضي. وأضاف: "اليوم أصبحت [ذكرى الهولوكوست] العلامة لمعيارية سياسية جديدة: مجتمع السوق، الديمقراطية الليبرالية، والدفاع (الانتقائي) عن حقوق الإنسان".
لكن للعروض الأدائية الألمانية للتوبة حدودها. إنها لا تمتد، على سبيل المثال، إلى الإبادة الجماعية التي ارتكبها الجيش الاستعماري الألماني في ناميبيا ضد شعب هيريرو وناما بين العامين 1904 و1908، والتي أسفرت عن مقتل عشرات الآلاف من الناس. ولم تعتذر ألمانيا رسميًا عن تلك الأعمال الدموية حتى العام 2021 ولم توافق على دفع تعويضات ذات مغزى لأحفاد الضحايا. وهكذا، إذا كانت الهوية الألمانية الجديدة تعتمد على عزل الهولوكوست باعتباره انحرافًا مخزيًا في التاريخ الوطني وإبطاله من خلال إحياء ذكرى رسمية، فلن يكون هناك مجال كبير لذاكرة العنف الاستعماري في الأساطير الذاتية للأمة. وقد أطلق الباحث في الإبادة الجماعية، ديرك موسيس Dirk Moses، على هذا النهج اسم "التعليم المسيحي الألماني" في مقال له نُشر في العام 2021 وأثار جدلاً ساخنا. كتب موسيس: "ينطوي التعليم المسيحي الألماني على قصة خلاصية تكون فيها تضحية النازيين باليهود في "المحرقة" هي المقدمة لشرعية الجمهورية الفيدرالية. وهذا هو السبب في أن الهولوكوست هو أكثر من مجرد حدث تاريخي مهم. إنه صدمة مقدسة لا يمكن تلويثها بصدمات مدنسة -أي الضحايا من غير اليهود والإبادات الجماعية الأخرى- التي يكون من شأنها أن تبطل وظيفتها القربانية".
وبناء على ذلك، ترى ألمانيا الآن أن وكالتها لما بعد المحرقة لا تشمل التزامًا أوسع بالوقوف ضد العنصرية والعنف، وإنما تتطلب ولاءً محددًا لتشكيل سياسي يهودي معين: دولة إسرائيل. وقد اعتمدت ألمانيا على علاقتها الدبلوماسية الوثيقة مع إسرائيل للتأكيد على رفضها للنازية، لكن علاقتها بالدولة اليهودية تذهب أبعد من ذلك. في العام 2008، ألقت المستشارة الألمانية آنذاك، أنجيلا ميركل، خطابا أمام الكنيست الإسرائيلي لتعلن أن ضمان أمن إسرائيل هو جزء من Staatsraison ألمانيا –أي سبب وجود الدولة نفسه. وبذلك، إذا سُئلَت عن جدارة الحفاظ على قومية ألمانية أنتجت "أوشفيتز"، فإن لدى ألمانيا الآن إجابة مُرضية ومتساوقة تاريخيًا –إنها موجودة لدعم الدولة اليهودية.
تحقيقًا لهذه الغاية، تم في السنوات الأخيرة استخدام المؤسسة الألمانية للتمويل الثقافي العام لتكون أداة لسن قرار البوندستاغ في العام 2019 الذي يعلن أن "حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات" (BDS) التي تستهدف إسرائيل هي حركة معادية للسامية. وعلى الرغم من أن القرار غير ملزم من الناحية الفنية، إلا أن تمريره أدى إلى سيل لا ينتهي من عمليات الطرد والإقالات وإلغاء الفعاليات، وإلى الوضع الفعلي للأكاديميين والعاملين الثقافيين والفنانين والصحفيين البارزين على القائمة السوداء بسبب جرائم مثل دعوة باحث مشهور في نظرية الما بعد كولنيالية للتحدث، أو التغريد بمحتوى ينتقد قرار البوندستاغ، أو حضور مسيرة تضامن مع الشعب الفلسطيني عندما كان المرء شابًا.
وتم تفويض شبكة من مفوضي معاداة السامية لمراقبة مثل هذه المخالفات. وعادة ما يكون هؤلاء المفوضون من البيض، الألمان المسيحيين، الذين يتحدثون باسم اليهود وغالبًا ما يتظاهرون باليهودية على مسرح عام، ويقفون لالتقاط الصور في الكيباه (القبعة اليهودية الصغيرة المستديرة)، ويؤدون الموسيقى اليهودية، ويرتدون زي الشرطة الإسرائيلية، ويصدرون المراسيم بشأن من هو التالي في طابور التشنيع والتشهير. وعندما يشتبكون مع اليهود اليساريين في ألمانيا، ويلغون أحداثهم ويهاجمونهم باعتبارهم معادين للسامية على صفحات الصحف المختلفة، فإنهم يقترحون ما قاله مفوض معاداة السامية الألماني فيليكس كلاين مباشرة: أن اليهود ليسوا حساسين بما فيه الكفاية لما تعنيه معاداة السامية للألمان -أن هؤلاء اليهود في الواقع لا يفهمون ما تعنيه معاداة السامية على الإطلاق.
*"أجوبة" هو عمود افتتاحي كتبه أعضاء من طاقم مجلة "تيارات يهودية" Jewish Currents وعادة ما يعكس نقاشًا جماعيًا للقضية المطروحة. هذه الافتتاحية مدينة لكل من إميلي ديش-بيكر، وبن راتسكوف، ومايكل روثبرغ، ويورغن زمرر. (يُتبع)
*إميلي ديش-بيكر Emily Dische-Becker: كاتبة ألمانية مستقلة وباحثة استقصائية ومخرجة تعيش في برلين وبيروت. ساهمت في وسائل الإعلام الألمانية والأمريكية واللبنانية. شاركت في إنتاج فيلم "شارع الموت" (2017)، الذي حصل على جائزة أودي للأفلام القصيرة في مهرجان برلين السينمائي الدولي. وهي المؤسس المشارك لشركة Friendly Fire Films وتقوم حاليا بإخراج أول فيلم وثائقي روائي طويل لها.
*بن راتسكوف Ben Ratskoff: أستاذ مساعد زائر. كلية لوخهايم للدراسات اليهودية، المدرسة الحاخامية (لوس أنجيلوس، الولايات المتحدة). متخصص في الدراسات اليهودية المعاصرة، التاريخ، اللغة اليهودية وآدابها.
*مايكل روثبرغ Michael Rothberg: باحث أميركي في الأدب ودراسات الذاكرة. وهو أستاذ اللغة الإنجليزية والأدب المقارن وأستاذ كرسي جمعية صموئيل جويتز لعام 1939 في دراسات الهولوكوست في جامعة كاليفورنيا ، لوس أنجلوس.
*يورغن زيمرر Jürgen Zimmerer: أستاذ التاريخ في جامعة هامبورغ. كان الرئيس المؤسس للشبكة الدولية لعلماء الإبادة الجماعية (INOGS).
*نشر هذا المقال تحت عنوان: Bad Memory