الرئيسة \  تقارير  \  دولة المؤسّسات تستوجب ذهنيّة مؤسّساتية

دولة المؤسّسات تستوجب ذهنيّة مؤسّساتية

20.08.2025
عبد الباسط سيدا



دولة المؤسّسات تستوجب ذهنيّة مؤسّساتية
عبد الباسط سيدا
العربي الجديد
الثلاثاء 19/8/2025
لم تتمكّن مشاريع الدول التي أُعلنت في كلّ من العراق وسورية ولبنان، بعد الحرب العالمية الثانية، من التحوّل دولاً حقيقيةً لها مؤسّساتها المستقرّة ذات الصلاحيات المحدّدة بناءً على دستور متوازن مطمئن للجميع. كما أخفقت السلطات التي حكمتْ هذه الدول في بناء دول وطنية فعلية قادرة على تمتين الأواصر بين مكوّناتها المجتمعية على مختلف المستويات، وذلك بهدف دمجها ضمن إطار شعب موحّد يستوعب التنوع ويحافظ عليه، ويستلهم ثقافة احترام الآخر المختلف، بغضّ النظر عن طبيعة هذا الاختلاف (ديني، مذهبي، قومي، فكري، وحتى مناطقي). ظلّت مشاريع الدول هذه أشباه دول كسيحة هجينة، أنهكت مواطنيها، وتخلّفت عن عصرها رغم إمكاناتها المادّية والإبداعية، ولم تتمكّن من إنجاز أيّ شيء على المستوى القومي رغم هيمنة الأيديولوجيا القوموية التجييشيّة (في العراق وسورية تحديداً)، التي استخدمها المتصارعون على السلطة من أجل الهيمنة والسيطرة، عبر تصفية المنافسين والخصوم الواقعيين والمحتملين. ولعلّ من المناسب أن يُشار في هذا السياق إلى الشعارات القوموية الكبرى التي كانت ترفعها سلطات الدول المعنية، ومنها أن هذه الدول قُطرية، وأنها مجرّد أقطار ستتوحّد مستقبلاً ضمن إطار الدولة العربية الواحدة من المحيط إلى الخليج.
وفي مواجهة التيارات القوموية، كانت التيارات الإسلاموية (من مختلف التوجّهات) تحنُّ إلى دولة الخلافة الإسلامية، وتتّخذها مادّةً لدغدغة المشاعر، وتعبئة الناس لصالحها في إطار خلافاتها، بل وصراعاتها، مع السلطات في الجمهوريات العسكرية، التي عانت (وما زالت) نتيجة غياب السياسة الوطنية الجامعة من الاضطرابات والتصفيات والانقلابات.
"ظلّت مشاريع الدول في العراق وسورية ولبنان أشباه دول كسيحة هجينة، أنهكت مواطنيها وتخلّفت عن عصرها
في حين أن الوضع في منطقة الخليج أخذ منحىً آخرَ بفضل توافقات المجتمعات الأهلية على مشروع الدولة الوطنية، رغم تجانسها من جهة الانتماء الديني والقومي. وبفضل هذا التوجّه، تمكّنت هذه المجتمعات من تجاوز أخطار التباينات المذهبية، وهي التباينات التي استثمر فيها النظام الإيراني بعد سقوط الشاه عام 1979. إلا أن تبنّي مشروع الدولة الوطنية خليجياً لم يكن على حساب المحيط الخليجي أو العمق العربي في أيّ يوم. فعلى المستوى الخليجي شُكِّل تكتّل إقليمي وازن مستقرّ (مجلس التعاون لدول الخليج العربية في 1981)، أسهم في تعزيز إمكانات دول الخليج الاقتصادية وبروز دورها السياسي المؤثّر على المستويين الإقليمي والدولي. كما حقّق المجلس استقراراً على المستوى المجتمعي داخل كلّ دولة، وفتح الآفاق أمام الهيئات والمؤسّسات والمواطنين في جميع دول المجلس لتبادل الخبرات، والتشارك والتعاون في مشاريع اقتصادية، أو بحثية علمية وصحّية وإبداعية، وفي مختلف المجالات.
أمّا في الجمهوريات العسكرية، فقد أسفرت العقلية الانقلابية، وهرطقات "الشرعية الثورية"، عن كوارث كبرى، كان من نتائجها تقزيم دور مؤسّسات الدولة لصالح سلطات أمنية عسكرية، ترفع شعارات ديماغوجية لا تطعم جائعاً ولا تكسو عرياناً، وإنما اُستخدِمت أدواتٍ تضليليةً، كان الهدف منها التعتيم على عمليات الانقضاض على الداخل الوطني. ومن الوسائل التي اعتمدتها السلطات العسكرية المعنية استغلال الحساسيات المجتمعية، وخلق الفتن بين المكوّنات المجتمعية، ومحاولات دفعها نحو مواجهات بينية عوضاً عن بذل الجهود من أجل جمع شملها، والتركيز في القواسم المشتركة في ما بينها، وتشجيعها للاعتزاز بالولاء الوطني العام الجامع الذي لا يتعارض مع الخصوصيات الفرعية، وذلك كلّه لن يكون من دون وجود إدارة رشيدة بعيدة النظر، في استطاعتها إدارة التنوّع بعقلية الدولة المنفتحة على داخلها وإقليمها والمجتمع الدولي، لا عقلية السلطة المنغلقة على ذاتها، إدارة تحترم الخصوصيات، وتقرّ بالحقوق المترتّبة منها، وتطمئن الكلّ بنصوص مكتوبة، وخطوات تنفيذية عملية. إدارة تحقّق الوحدة الوطنية عبر الخطاب الجامع، واحترام الآخر المختلف، والمرونة الإدارية، ومراعاة الهواجس، والاستعداد الأكيد لحلّ المشكلات التي أوجدتها سلطات الاستبداد والفساد على مدى عقود، وهي المشكلات التي تمثّلت في الاضطهاد والإقصاء والتهميش ونهب الموارد والثروات الوطنية وتبديدهما وتعطيلهما وإفقار الناس.
"الاستقرار الذي تباهت به سلطة الأسد لم يكن إلا استقراراً قمعياً زائفاً
وإذا انتقلنا إلى الوضع السوري الراهن، الذي يعاني توتّرات شديدة تنذر بصدامات جديدة بعد الأحداث الأليمة المؤسفة التي كانت في المنطقة الساحلية والسويداء، وفي مناطق أخرى، بالإضافة إلى الهجوم الإرهابي المُدان على كنيسة مار إلياس بدمشق، نلاحظ أن الإدارة الجديدة لم تتمكّن بعد مرور أكثر من ثمانية أشهر على تسلّمها مقاليد الحكم في دمشق من التعامل مع الوضع بعقلية الدولة، رغم كلّ الأحاديث والشعارات الخاصّة بالدولة ومؤسّساتها، وضرورة خضوع الجميع لها. فأيّ حديث عن دولة المؤسّسات أو مؤسّسات الدولة، وما زال كثير ممّن هم في السلطة راهناً، ومن المؤيّدين لهم، يشيدون بأساليب "الهبّات العفوية" و"الفزعات العشائرية" لمواجهة المختلفين بصرف النظر عن دوافعهم، ومدى شرعية ما يدعون إليه أو يطالبون به أو عدم شرعيته؟
لا يبشّر الوضع السوري الحالي بقرب الفرج إذا ما ظلّت أساليب مقاربة القضايا الداخلية السورية على حالها، بل ينذر بمزيد من الاستعصاءات، خصوصاً بعد أن تفاعلت تراكمات أخطاء مرحلة ما بعد سقوط سلطة آل الأسد مع الإرث الثقيل الذي تركته تلك السلطة خلال أكثر من نصف قرن من تحكّمها بإرادة السوريين وأرزاقهم، وحتى برقابهم. الانكماش على الذات، والتقوقع ضمن سرديات المظلومية الفئوية ونزعات الهيمنة والاستعلاء، والتوظيف الانتقائي للتاريخ، وليّ عنق الوقائع الملموسة القائمة بهدف شرعنة تخريجات رغبوية تتناغم مع نزعات طائفية بمعناها الأوسع... ذلك كلّه أدّى إلى كوارث، وسيؤدّي إلى مزيد منها. وإذا ما ظلّت الأمور على حالها، ربّما نحتاج إلى مراحل انتقالية، وليس إلى المرحلة الانتقالية الحالية (الطويلة جدّاً) وحدها. التحدّيات التي تواجهها الإدارة الجديدة، على الصعيد الداخلي وعلى المستويين الإقليمي والدولي، جسيمة، وكانت ستواجهها أيّ سلطة أخرى بعد سقوط سلطة آل الأسد. فعلى الصعيد الداخلي، كان المجتمع السوري محنّطاً مجمّداً بفعل الأساليب القمعية التي اعتمدتها السلطة المعنية في عهدَي الأسدَين (الأب والابن)، وهي السلطة التي طالما تفاخرت بأنها تمكّنتْ من تحقيق الاستقرار في البلاد بعد مرحلة الانقلابات شبه اليوميه التي شهدتها سورية في خمسينيّات القرن المنصرم. ولكن ما تبيّن لاحقاً (ويتبيّن حالياً) أن ذاك الاستقرار لم يكن سوى استقرار قمعي زائف، فرضته الأجهزة الأمنية بالقوة على السوريين بكلّ انتماءاتهم وتوجّهاتهم. ولم يعد سرّاً أن السلطة المذكورة كانت تستثمر في الخلافات وإثارتها، وتهدّد كلّ مكوّن بالمكوّن الآخر، لتقدّم نفسها حاميةً للجميع، وصانعةً للسلم الأهلي. وهذا ما يمارسه (ويروّجه) قسم كبير من أوساط المستفيدين من السلطة الحالية، والمؤيّدين لها بكلّ أسف!
لدينا في المنطقة تجارب الجمهوريات العسكرية الفاشلة، وفي مقابلها هناك التجارب الناجحة في دول الخليج، فأيّ النموذجين سينقذنا في سورية؟
لقد ضحّى السوريون بما يتمرّد على أيّ وصف أو توصيف في سبيل الحصول على حرّيتهم وكرامتهم بضمان دولة مؤسّسات عادلة. وهم يستحقّون اليوم أن يتمتّعوا بما ناضلوا من أجله في ظلّ إدارة رشيدة تقود دولةً مستقرّةً تكون على مسافة إيجابية واحدة من جميع مكوّناتها ومواطنيها. وهذا لن يتحقّق من دون لقاءات وحوارات سورية سورية، بينيّة معمّقة، يتوّجها مؤتمر وطني عام، تشرف عليه لجنة تحضيرية وازنة متوازنة، ذات مصداقية تمثّل سائر مكوّنات المجتمع السوري وتوجّهاته السياسية. مؤتمر يناقش بجرأة وحكمة وصبر أسئلةً وجوديةً تمسّ مباشرة مصير السوريين ووطنهم، والشكل المستقبلي لدولتهم، وطبيعة نظامهم، وماهية العلاقة بين السوريين على مستوى الجماعات والأفراد والدولة. والأمر الذي ينبغي أن يؤخذ في الحسبان هنا، أن الأمور لن تستقيم من دون ركون الجميع إلى المشروع الوطني السوري الجامع، الذي يركّز في المشترك السوري ويبني عليه، ولكنّه (المشروع الوطني) في الوقت نفسه لا ينفي الأبعاد المتعدّدة لسورية مجتمعاً وأرضاً، فسورية تمتلك بعداً عربياً لا غبار عليه، ولكنّها في الوقت ذاته تمتلك أبعاداً كردية وسريانية وتركمانية... كما أنها تمتلك بعداً إسلامياً ومسيحياً، إلى جانب بعدها المتوسّطي والدولي. ولكن يظلّ المشروع الوطني الجامع هو الأساس للقيام بواجبات الأبعاد الأخرى في أكمل وجه.
أمّا أن تُحمَّل سورية أعباءً تفوق طاقتها بموجب أيديولوجيات أو أجندات عابرة للحدود الوطنية، فهذا فحواه استمرارية الدوران في الحلقة المفرغة التي أنهكت العباد والبلاد على مدى عقود طويلة. وخلاصة القول: لدينا في المنطقة تجارب الجمهوريات العسكرية الفاشلة، وفي مقابلها هناك التجارب الناجحة في دول الخليج، فأيّ النموذجين سينقذنا في سورية؟ المشروع الوطني الإنمائي الخليجي؟ أم المشروع العسكري الاستبدادي الشعاراتي التدميري الشمشوني؟
جرّبنا المشروع الأخير، ووصلنا إلى ما وصلنا إليه، لذلك سيكون من المفيد (المُنتِج) أن نعتمد النموذج الوطني الذي أثبت نجاعته في منطقة الخليج القريبة منّا على جميع الأصعدة.