الرئيسة \
تقارير \ خطاب الكراهية في سوريا.. بين الواقع والتضخيم الخوارزمي
خطاب الكراهية في سوريا.. بين الواقع والتضخيم الخوارزمي
14.08.2025
حمدان العكله
خطاب الكراهية في سوريا.. بين الواقع والتضخيم الخوارزمي
حمدان العكله
سوريا تي في
الاربعاء 13/8/2025
في العقد الأخير، تحوَّلت وسائل التواصل الاجتماعي في سوريا إلى فضاءات متوتِّرة تفيض بالانفعالات، وتتكثَّف فيها لغة الإقصاء والاستبعاد، وذلك من خلال إعادة إنتاج سرديات الانقسام الاجتماعي والسياسي في قوالب رقمية حادَّة، تُسهم في إعادة تشكيل وعي الأفراد ومصائر الجماعات.
وهنا يتبدَّى سؤالٌ جوهري، مفاده: هل يعدُّ خطاب الكراهية الذي يزدهر على المنصات الرقمية امتدادًا طبيعيًا للانقسامات العميقة في المجتمع السوري، أم أنه نتاج تضخيم خوارزمي يصنع واقعًا افتراضيًا موازيًا قد يبتلع الواقع نفسه مع مرور الوقت؟
أولًا: بنية خطاب الكراهية ومقوماته في السياق السوري
إن خطاب الكراهية في السياق السوري هو بناء فكري ولغوي شديد التعقيد، يقوم على شبكة من الرموز والدلالات والممارسات الخطابية التي تتسلَّل إلى الوعي الجمعي وتعيد تشكيله بطريقة تجعل من "الآخر" ـ الحقيقي أو المتخيَّل ـ هدفًا مشروعًا للتجريح أو الإقصاء. في هذا البناء، تتحوَّل الكلمة إلى أداة تعيد إنتاج الواقع على نحو أكثر حدَّة واستقطابًا، عبر آليات يمكن رصدها بوضوح في الحالة السورية.
أولى هذه الآليات هي التجريد من الإنسانية، حيث يُختزل الآخر في هوية صلبة جامدة؛ كالطائفة أو المنطقة أو الانتماء السياسي. فتُسلب منه فردانيته، وتتحوَّل شخصيته إلى مجرَّد تجسيد لصورة نمطية مسبقة الصنع. أمَّا الآلية الثانية فهي التعميم الممنهج، إذ يتحوَّل ما يقوم به شخص أو مجموعة صغيرة إلى وصمة أخلاقية أو سياسية تُحمَّل تبعات أفعالها لجماعة كاملة قد لا تكون متواطئة مع مضمون هذا الفعل، ما يرسِّخ منطق العقاب الجمعي ويقوِّض إمكانيات الفهم المتبادل. ثم تأتي الآلية الثالثة، وهي التأطير الأخلاقي المعكوس، حيث يُعاد تقديم الآخر بوصفه تهديدًا وجوديًا أو خطرًا أخلاقيًا يبرِّر في المخيال الجمعي الإقصاء، حتى يغدو هذا الإقصاء في ذاته فعلًا مشروعًا أو ضروريًا لحماية الذات والجماعة.
هذه البنية المعقَّدة لخطاب الكراهية في سوريا ليست وليدة اللحظة، فهي تضرب جذورها عميقًا في تاريخ الصراع السوري المعاصر، حيث أدَّى تراكم التوترات الطائفية والإثنية والمناطقية، بما يحتويه من الصور النمطية والاتهامات المتبادلة، إلى تشكيل مادة غنية تمَّت إعادة تدويرها في الفضاء الرقمي، حتى تضخَّمت بفعل الخوارزميات، متجاوزة في كثير من الأحيان الواقع الذي خرجت منه.
يصبح خطاب الكراهية عاملًا فاعلًا في إعادة رسم الخريطة الاجتماعية على نحو أكثر قسوة واستعصاء على الالتئام.
ثانيًا: آثار خطاب الكراهية على النسيج السوري
إن الخطر الجوهري لخطاب الكراهية يكمن في ما يبنيه من حواجز صلبة بين البشر، هذه الحواجز تتجاوز الشكل المادي الذي أُنتجت فيه لتستقر في البنية العاطفية والرمزية للعلاقات الإنسانية. ففي سوريا، حيث النسيج الاجتماعي مثقل أصلًا بتهشيم الحرب وتبعثر النزوح وتصدعات الانقسامات السياسية، يصبح خطاب الكراهية عاملًا فاعلًا في إعادة رسم الخريطة الاجتماعية على نحو أكثر قسوة واستعصاء على الالتئام. فهو لا يكتفي بإحياء الانقسامات التاريخية، بل يعيد صوغها من خلافات سياسية أو ثقافية قابلة للنقاش إلى قطيعة وجودية تنفي إمكانية العيش المشترك، وذلك حين يفقد النقاش المدني مرتكزاته العقلانية، ويغدو فضاء الرأي مشبعًا بالتخوين وتراشق التهم، حتى تتبخر فرص الحوار القائم على الحجة والمنطق.
إلى جانب ذلك، يسهم هذا الخطاب في ترسيخ الصراع داخل وعي الأجيال الناشئة، إذ يتشرَّبون ـ عبر منصات الإنترنت ـ ومن دون وعي تام منهم، صورًا نمطية ومفردات عدائية قبل أن يختبروا الواقع الملموس، فتتشكل تصوُّراتهم عن الآخر على أرضية مشحونة بالتوتر والرفض. والأخطر من ذلك هو أن هذا النمط من الخطاب يحوِّل الخلافات العابرة إلى مكوِّنات صلبة للهوية، فتصبح الهوية نفسها حصنًا مغلقًا يمنع أي عبور نحو المصالحة، الأمر الذي يجعل من تجاوز الانقسام مهمة أشبه بمحاولة اقتلاع الجذور من قلب صخرة صماء.
إن تفكيك خطاب الكراهية في سوريا يتجاوز كونه إجراءً تقنيًا يقتصر على حذف محتوى أو إغلاق حسابات، فهو مسألة بنيوية تمس العاطفة والفكر معًا، وتستلزم معالجة جذرية.
ثالثًا: البنية الفلسفية لخطاب الكراهية
من منظور فلسفي عميق، لا يمكن النظر إلى خطاب الكراهية بوصفه أداة لإقصاء الآخر أو إلغائه من الحيز الاجتماعي فحسب، إذ ينبغي فهمه على اعتباره آلية تأسيس للذات عبر نفي الآخر، حيث لا يتشكل الوعي بالـ"أنا" إلا من خلال صورة "الآخر" التي يجري تثبيتها على أنها ضدٌّ وجودي أو خطرٌ يتعين استبعاده. وقد أشار كارل شميت إلى أن تعريف "العدو" هو فعل سياسي جوهري، وبدونه يتعذَّر تكوين مفهوم جماعي لـ"نحن". فالذات الجمعية لا تكتمل إلا عبر رسم حدود فاصلة تحدد من هو الداخل ومن هو الخارج.
وفي السياق الرقمي المعاصر، تتسارع هذه العملية على نحو مفرط بفضل البنية الخوارزمية لمنصات التواصل، حيث تتحوَّل الهوية إلى منتَج استهلاكي سريع التشكيل والتوزيع، يتمُّ تصنيعه في هيئة منشورات وصور ساخرة ووسوم رائجة، ويتقلَّص التعقيد الإنساني الهائل إلى ثنائيات اختزالية حادة: خير/شر، وطني/خائن، ضحية/جلاد.. ومع تصاعد هذا النمط، تتحوَّل الكراهية ذاتها إلى سلعة متداولة، تتكاثر ذاتيًا مع انتشار المحتوى، فتتشكل دائرة مغلقة من التغذية الذاتية، يتضاعف فيها الخطاب العدائي بفعل تفاعلاته، ويعيد إنتاج نفسه باستمرار.
ختامًا، إن تفكيك خطاب الكراهية في سوريا يتجاوز كونه إجراءً تقنيًا يقتصر على حذف محتوى أو إغلاق حسابات، فهو مسألة بنيوية تمس العاطفة والفكر معًا، وتستلزم معالجة جذرية تعيد بناء الفضاء العام على أسس حوارية مفتوحة، وتغرس في البنية التعليمية والتربوية أدوات التفكير النقدي القادرة على تمييز الرأي من التحريض وفهم آليات التضليل الخوارزمي، كما تتطلَّب صياغة سردية وطنية جامعة تحيِّد المنصات الرقمية عن لعب دور مباشر في تأجيج الصراع. فخطاب الكراهية يمتلك قوة قادرة على إعادة تشكيل الواقع وفق صورته المشوهة، وإذا لم يُواجَه كظاهرة فكرية وأخلاقية قبل أن يُعالَج كتقنية، فسنظل أسرى مرآة رقمية تعكس أقسى وجوهنا وتوهمنا بأنها الحقيقة الكاملة لذواتنا.