الرئيسة \  تقارير  \  "خفض التصعيد".. لماذا يثير هذا المصطلح قلق السوريين؟

"خفض التصعيد".. لماذا يثير هذا المصطلح قلق السوريين؟

28.09.2025
باسل المحمد



"خفض التصعيد".. لماذا يثير هذا المصطلح قلق السوريين؟
باسل المحمد
سوريا تي في
السبت 27/9/2025
على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، كشف المبعوث الأميريكي الخاص إلى سوريا توم باراك أن دمشق وتل أبيب تقتربان من إبرام اتفاق "خفض التصعيد" في الجنوب السوري. يقضي المقترح بأن توقف إسرائيل غاراتها الجوية على الأراضي السورية، وفي المقابل تمتنع سوريا عن تحريك الآليات والمعدات العسكرية الثقيلة قرب الحدود مع الجولان المحتل.
ووصف باراك هذا التفاهم المؤقت بأنه سيكون "الخطوة الأولى" نحو اتفاق أمني أشمل بين الجانبين يتم التفاوض عليه لاحقًا، وقد أكد الرئيس أحمد الشرع خلال لقاءاته في نيويورك أن سوريا "قريبة جدًا" من التوصل إلى اتفاق بوساطة أميركية، مشابه لاتفاقية فصل القوات المبرمة عام 1974 والتي انهارت فعليًا بعد سقوط الأسد.
 لكن مجرد إعادة طرح مصطلح "خفض التصعيد" أثار فورًا قلقًا في الأوساط السورية، نظرًا لما يحمله هذا التعبير من ذكريات وتجارب مريرة في سياق الحرب السورية. في هذا المقال التحليلي نستعرض أسباب تخوّف السوريين من هذا المصطلح، ونحلل دلالاته السياسية في هذه المرحلة الحرجة.
من أستانا إلى إدلب: تجارب مريرة مع خفض التصعيد
ظهرت فكرة مناطق خفض التصعيد لأول مرة عام 2017 ضمن مسار محادثات أستانا برعاية روسيا وتركيا وإيران، وبحضور وفد من المعارضة السورية. حينها تم الاتفاق على تجميد القتال في أربع مناطق رئيسية منها بعض مناطق (درعا، والغوطة الشرقية) وتخفيف معاناة المدنيين فيها.
لكن الواقع على الأرض جاء معاكسًا للتطلعات، فخلال أقل من عامين استغلّت قوات النظام السوري وحليفها الروسي تلك الهدن المؤقتة لإعادة تنظيم صفوفها والتوسع تدريجيًا على حساب فصائل المعارضة، إذ أتاح الاتفاق للنظام التقاط الأنفاس وتجميع قواه ثم الانقضاض على مناطق خفض التصعيد واحدة تلو الأخرى بمجرد انتهاء فترة الهدوء.
كانت منطقة إدلب في شمال غربي سوريا آخر وأكبر مناطق خفض التصعيد التي تم إقرارها، بعد أن تحولت إلى ملاذ لمئات الآلاف من المدنيين ومقاتلي المعارضة الذين أُجلوا من مناطق أخرى بموجب تسويات سابقة.
ولكن اتفاق آستانا ومن ثم سوتشي 2018 بين روسيا وتركيا، الذي ثبت الوضع الخاص لإدلب، لم يصمد طويلًا، فخلال عام 2019 ومطلع 2020، صعّد النظام السوري بدعم روسي عملياته العسكرية في إدلب وما حولها بذريعة محاربة الإرهاب، متجاوزًا حدود المنطقة العازلة المتفق عليها.
ومع تقدّم قوات النظام على الأرض، انهار اتفاق التهدئة في إدلب بشكل كامل وتحولت المنطقة إلى بؤرة صراع مفتوح، ورغم وجود نقاط مراقبة للجيش التركي لضمان وقف النار، تمكنت قوات النظام من قضم أكثر من نصف مساحة منطقة إدلب خلال تلك الحملة. وتزامن ذلك مع قصف روسي عنيف استهدف مناطق مدنية، ما أوقع خسائر بشرية جسيمة وأدى إلى نزوح جماعي هائل، بلغ 830 ألف خلال 45 يوم وذلك بحسب تقديرات الأمم المتحدة.
هكذا بات السوريون ينظرون بحسرة وغضب إلى تجربة خفض التصعيد في تلك المرحلة، فعوضًا عن جلب السلام، أصبحت هذه الاتفاقيات حصان طروادة مكّن النظام وحلفاءه من تحقيق انتصارات سهلة على مراحل، فكل منطقة وُعدت بالتهدئة كان مصيرها في النهاية اقتحامًا عسكريًا شاملًا وكارثة إنسانية جديدة. وترسّخ في الوعي الشعبي أن أي اتفاق لوقف إطلاق النار أو خفض التصعيد لم يكن بالنسبة للنظام وحلفائه سوى فرصة لشراء الوقت، يعقبها خرق للاتفاق وتصعيد أشد ضراوة، لذلك فقد هذا المصطلح مصداقيته تمامًا لدى السوريين، وبات مرادفًا لخديعة مؤقتة تُمهد لجولة دامية جديدة.
قلق من تكرار السيناريو مع إسرائيل
اليوم يعود مصطلح خفض التصعيد إلى الواجهة في سياق مختلف ظاهريًا هذه المرة بين سوريا الجديدة وإسرائيل. فرغم اختلاف الأطراف الفاعلة والضامنة يتملك السوريين شعورٌ بالتوجس نتيجة لفقدان الثقة المتجذّر من التجارب السابقة.
خلال مباحثات نيويورك الأخيرة، تبيّن أن دمشق وتل أبيب تقتربان من اتفاق تهدئة يوقف الغارات الإسرائيلية مقابل ضبط التحركات العسكرية السورية قرب الحدود. وتأمل دمشق أن يؤدي هذا التفاهم إلى وقف الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة وانسحاب القوات الإسرائيلية من توغلت داخل الأراضي السورية خلال الفوضى التي تلت سقوط النظام السابق.
غير أن كثيرًا من السوريين وبناء على تجربة مريرة مع مصطلح "حفض التصعيد" باتوا يخشون أن يكون الاتفاق المزمع مجرد تثبيت مؤقت للوضع الميداني تستغله إسرائيل لتعزيز مكاسبها، ثم لا تلبث أن تنقلب عليه متى تغيّرت حساباتها.
هذه المخاوف عززتها أيضًا تصريحات صادرة عن القيادة السورية، فرغم اللغة الإيجابية الحذرة التي تبنّاها المبعوث الأميركي في إعلانه عن التقدم المحرز، برزت نبرة حذر في كلام المسؤولين السوريين. فقد حذّر الرئيس أحمد الشرع من احتمال أن تكون إسرائيل تناور وتماطل لكسب الوقت لا أكثر.
 وقال الشرع صراحةً على هامش قمة نيويورك مؤخرًا: "ليست إسرائيل التي ينبغي أن تتخوف من سوريا، بل على سوريا أن تتخوف من إسرائيل في هذا الوقت" هذا التصريح يلخّص إلى حد كبير شعور السوريين بأن ميزان القوة الحالي يجعلهم الطرف الأضعف، وأن عليهم التعامل بحذر شديد مع أي وعود تصدر عن الجانب الإسرائيلي.
 فإسرائيل التي شنّت منذ سقوط النظام السابق أكثر من ألف غارة جوية ونفّذت مئات التوغلات البرية في العمق السوري لا تبدو شريكًا موثوقًا للسلام من المنظور السوري الشعبي. بناءً على ذلك يسود اعتقاد بأن أي تهدئة مع إسرائيل ستكون مؤقتة وهشة، وربما مشروطة برغبة تل أبيب في تحقيق أهدافها الأمنية ثم التنصل من التزاماتها متى شاءت.
ضمانات واشنطن في مواجهة ذاكرة مثقلة بالخيبات
على الجانب الآخر يرى متفائلون أن الظروف الدولية هذه المرة تختلف جوهريًا عن تجارب أستانا السابقة، مما قد يمنح الاتفاق المرتقب فرصًا أفضل للنجاح، فالولايات المتحدة تقف الآن في موقع الضامن لأي تفاهم بين دمشق وتل أبيب، مدفوعةً برغبة في تحقيق استقرار إقليمي أشمل.
وقد أكّد مسؤولو الإدارة الأميركية الحالية أكثر من مرة التزامهم بدعم حل يُفضي إلى سوريا مستقرة وموحّدة ضمن ترتيبات إقليمية جديدة، ففي تصريح حديث، شدّد وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو على أن الولايات المتحدة اتخذت خطوات لدعم سوريا دولةً "مستقرة وموحدة، تنعم بالسلام مع ذاتها وجيرانها"، واعتبر روبيو أن استقرار سوريا يمثّل مفتاحًا لاستقرار منطقة الشرق الأوسط بأكملها.
هذه المقاربة الأميركية تختلف جذريًا عن نظرة موسكو عام 2018، حين تعاملت روسيا مع سوريا كساحة نفوذ وصراع صفري مع الغرب، أما اليوم فيبدو أن واشنطن ومعها حلفاء إقليميون معنيّون بإنهاء حالة الحرب والفوضى في سوريا تحقيقًا لمصالحهم الأمنية والاقتصادية على حد سواء.
من هذا المنطلق يأمل السوريون أن تمارس الولايات المتحدة نفوذها للضغط على إسرائيل من أجل الالتزام الحقيقي بأي اتفاق تهدئة يتم التوصل إليه. فالضامن الأميركي – إن صدقت نواياه – يملك أوراق تأثير كبيرة على الجانب الإسرائيلي، بخلاف الضامن الروسي في اتفاقات أستانا الذي غضّ الطرف ـوربما تواطأـ عن خروقات النظام آنذاك. كذلك فإن إسرائيل نفسها قد تجد مصلحة في تخفيف التصعيد مرحليًا إذا ضمن لها الاتفاق معالجة هواجسها الأمنية الأساسية.
وقد لمّح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مؤخرًا إلى تحقيق “تقدم ما” في المباحثات مع الجانب السوري، معتبرًا أن الانتصارات التي حققتها إسرائيل على محاور عدة فتحت نافذة لاحتمال السلام مع سوريا.
نزع السلاح
مع ذلك وبرغم كل التطمينات الأميركية والتلميحات الإيجابية من جانب إسرائيل، يبقى الحذر سيّد الموقف لدى الشارع السوري، فالذاكرة المليئة بنقض العهود لا تزال حيّة في الأذهان، والجراح التي خلفتها تجربة خفض التصعيد الأولى لم تندمل بعد.
يدرك السوريون تمامًا أن الضمانات الخارجية مرهونة بمصالح الدول، وأن تبدّل تلك المصالح قد يقلب الموازين في أي لحظة، فما الذي سيحدث مثلًا إن تغيّرت أولويات واشنطن أو تل أبيب لاحقًا؟ ألن يكون اتفاق اليوم عرضة للمصير ذاته الذي لاقته اتفاقات الأمس عندما انتفت حاجة موسكو إليها؟ هذه التساؤلات المشروعة تجعل الثقة غائبة، وتدفع بالسوريين إلى تبنّي موقف حذر جدًا حيال أي وعود جديدة تحت مسمى خفض التصعيد.
إن أي اتفاق لخفض التصعيد لن يُكتب له النجاح – في نظر السوريين – ما لم يترافق مع آليات صارمة للرقابة والمحاسبة تضمن التزام جميع الأطراف وتعاقب من يخرق تعهداته، مثل هذه الضمانات العملية سيحكم عليها السوريون بالأفعال لا بالأقوال، وعبرها فقط يمكن تبديد المخاوف المتراكمة، وحتى ذلك الحين، يظل ذكر خفض التصعيد بحد ذاته مصدر ترقّب وتحفظ، إذ يخشى السوريون أن يكون السلام المؤقت مجرد تمهيد لجولة جديدة من الصراع، لكن هذه المرة تحت مسمى مختلف.