الرئيسة \  تقارير  \  حين كسرت خنادق إدلب أوهام النخبة السورية القديمة!

حين كسرت خنادق إدلب أوهام النخبة السورية القديمة!

13.09.2025
وائل مرزا



حين كسرت خنادق إدلب أوهام النخبة السورية القديمة!
 وائل مرزا
القدس العربي
الخميس 11/9/2025
لَطالما افترَضت النظريات الكلاسيكية في السياسة والمعرفة أن القُربَ من الجامعات الكبرى ومراكز البحث والأرشيفات يمنح أصحابه قدرةً أوسع على قراءة العالم واستباق تحوّلاته. غير أن التجربة السورية الأخيرة قَلَبت هذه الفرضية رأساً على عقب.
فما لم يتشكل، على مدى سنوات الثورة السورية، في قاعات باريس وندوات برلين، ومؤتمرات لندن وروما، وُلِدَ في خنادق إدلب الملطخة بالغبار والرصاص، حيث تبلورت مقاربةٌ سياسية واقعية أعادت تعريف علاقة سوريا بذاتها وبالعالم.
لم تنشغل هذه المقاربة بالشعارات النظرية ولا بمفردات “ما بعد الحداثة” و”تفكيك الدولة الوطنية” وإنما تأسست على العمل المباشر على أرض الواقع، وفي مختلف الاتجاهات والمحاور. من الاجتماعات الميدانية مع الناس، مروراً بالمفاوضات مع العشائر، وصولاً إلى اللقاءات مع السفراء والإعلام العالمي، فيما بدا اشتباكاً واقعياً، واقتحامياً، مع كل التعقيدات الجيوسياسية المحيطة. هنا تجسّدت الفكرة التي رسّختها المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية، والتي تؤكد أن السياسة ليست شعارات ولا نوايا، بقدر كونها إدارةً للمصالح وتقديراً لموازين القوى. وبهذا المنطق تحديداً، تحوّل الهامش الجغرافي الملعون، في الشمال السوري، إلى منصةٍ شرعية أعادت إدخال سوريا في معادلات الإقليم والعالم.
والأرجح أن تلك التجربة ذاتها ستعودُ لتُصبح، في التراكم المعرفي العالمي، نموذجاً مثالياً على التطبيق الحيّ لما يُعرف بالبراغماتية الاستراتيجية، حيث لا تُستمدُّ الشرعية من الرغبة في اعترافٍ، مُستعجَل، من الخارج على أساس أخلاقيٍ فقط، وإنما من القدرة أيضاً، على تقديم الذات بوصفها شريكاً وظيفياً في صياغة الاستقرار والأمن. نحن هنا بإزاء شرعيةٍ تُبنى بالأداء والقدرة على اقتراح حلول قابلة للتنفيذ، لا عبر الاكتفاء بالجدل النظري. وهذا هو منطق تحويل الممكن، مهما كان محدوداً، إلى مكسبٍ استراتيجي يُغيّر كلياً، موقع اللاعبين في الخريطة المحلية والإقليمية والدولية.
والذي يبدو أن هذا الواقع نفسه شكّل صدمةً قاسية لغالبية النخب السورية. فقد وجدَ كثيرون منهم، ممن اعتادوا النظر إلى السياسة من أبراج فكرية أو منابر إعلامية، أن الأرض تنطق بلغة مختلفة تماماً عن تلك التي كرّسوا أبجديتها في كتاباتهم. لكن الأثر الأعمق كان على النخب الحداثية والعلمانية تحديداً، والتي كانت ترى نفسها الوريث الطبيعي لأي تحول سياسي، فإذا بها تُدرك أن مسار الفعل لم يمرّ عبر مقولاتها ولا عبر أدبياتها، وإنما عبر مقاربات واقعية صنعتها ميادين الصراع. هكذا انكشف الشرخ بين التنظير والواقع، وتجلّى عجز الكثير من هذه النخب عن التكيّف مع لحظةٍ سياسية لا تقيس شرعيتها بالخطاب، بل بالقدرة على إدارة التعقيد وصناعة الممكن.
اللافت، هنا، أن هذا الموقف/الصدمة، الذي جعل بعض النخب أسيرةً لقراءة الحاضر بعين الماضي، لا يزال حتى الآن، بعد مرور تسعة شهور على تحرير سوريا، يحمل قوةً تفسيريةً أكبر لمواقفها المستمرة والراهنة، المعارضة بحدة، للدولة السورية الجديدة، ولو من وراء حجاب، لأنه أعمق من كل التفسيرات المعلَنة التي يسوقونها بأنفسهم. فهؤلاء يبرّرون رفضهم العلني والمطلق، للدولة السورية، بأسباب سياسية وإعلامية ونظرية شتى.
وجدَ كثيرون منهم، ممن اعتادوا النظر إلى السياسة من أبراج فكرية، أن الأرض تنطق بلغة مختلفة تماماً عن تلك التي كرّسوا أبجديتها في كتاباتهم
لكن جوهر المسألة يبدو أعمق من ذلك بكثير، ويتمثل في وجود عجزٍ نفسي وفكري مستدام عن إدراك معنى التحوّل، وخوفٍ دفين من الاعتراف بأن الواقع قد سبقهم، وأن أدواتهم الفكرية صارت عاجزة. فهؤلاء لا يرفضون النظام الجديد فقط، بل يرفضون الاعتراف بأن التاريخ تجاوزهم، وأن الطفرة السياسية كسرت المساطر القديمة التي ظلوا يقيسون بها العالم.
هنا تفسّر أدبيات علم النفس السياسي الظاهرة بما يُسمى الإنكار السياسي الذي يُفرزُ إصراراً على التمسك بسردية قديمة رغم تراكم الأدلة على بطلانها، ذلك أن الاعتراف بالواقع الجديد يهدد البنية النفسية والرمزية لهويتهم ذاتها. وهذا بالضبط ما يلتقي مع ما تشير إليه دراسات التحول السياسي لجهة الفشل في التعلم من المنعطفات الحرجة، حيث يعجز بعض الفاعلين عن إدراك أن لحظة الانعطاف ليست مجرد حدث عابر، وإنما هي نقطةٌ فاصلة تحدد مسارات المستقبل لعقود. ولهذا، فإنهم يبقون على مواقفهم، ليس فقط لعدم امتلاك البدائل الواقعية، بل لأنهم لا يعرفون، أصلاً، كيف يقرأون الواقع إلا بتلك العدسات التي تهشّمت بمطارق الواقع نفسه.
وإذا ما بقينا في سياق أدبيات التحول السياسي، فإن ما حدث في سوريا يشبه ما يُعرف بالطفرات السياسية والمنعطفات الحرجة. فالأنظمة نادراً ما تتغيّر بخطوط مستقيمة، وإنما يحصل التغيير عبر لحظات فارقة تُعيد ترتيب القواعد والولاءات. وفي مثل هذه المنعطفات، تصبح القرارات القصيرة الأمد محدِّدةً لمسارات طويلة الأمد. وبالتالي، فإن ما جرى في إدلب لم يكن انتصاراً شخصياً لمجموعة من الفاعلين، وإنما طفرةً سياسية أعادت تعريف الشرعية، ونقلت مركز سوريا السياسي من الهامش إلى قلب الطاولة.
وهذا ليس ظاهرةً فريدة، فالتاريخ السياسي الحديث مليء بأمثلة مماثلة. ففي فيتنام على سبيل المثال، تحولت إصلاحات “دوي موي” من اقتصادٍ ريفي هامشي إلى محرّك شرعية جديدة. وفي جنوب إفريقيا، لم يسقط الأبارتهايد بالشعار الأخلاقي وحده، وإنما بتسوياتٍ واقعية دقيقة حافظت على استمرارية مؤسساتية تسمح بالانتقال. وفي إيرلندا الشمالية، تحولت عقود العنف إلى اتفاق “الجمعة العظيمة” عبر هندسةٍ مؤسسية مدعومة بإقليم دولي منخرط. وفي كولومبيا، أعيد إدماج “الفارك” في الحياة السياسية من خلال تنازلات عملية قابلة للقياس. والقاسم المشترك في هذه النماذج هو أن الطفرة لا تقوم على السحر ولا على المثاليات، وإنما على استيعاب المصالح، وشجاعة القرار، وقدرة النخب على تحويل اللحظة الحرجة إلى مسار مستدام.
بهذا المعنى، لم يكن غريباً أن تتقدم إدلب في إدارة التعقيد بينما ظلت نخبٌ أخرى في الخارج أسيرة مساطر قديمة. فقد انشغلت بعض الأصوات السورية المقيمة في العواصم الغربية بكتابة مقالات عن جمهور الثورة بمعنى “أزمة الوعي الجماهيري في ما بعد الحداثة”.. بينما كان الداخل يحوّل الغبار إلى أوراق ضغط، والتهديدات إلى لغة تفاوضية. وهنا، تحديداً، يظهر بوضوح الفارق بين مَن مارسوا السياسة كفن الممكن، وبين من ظلوا أسرى أوهام المثاليات.
لكن التجربة السورية تحمل أيضاً بعداً فلسفياً عميقاً يتجاوز التكتيك السياسي. فمنذ ماكيافيللي، كان الجدل دائراً حول العلاقة بين الأخلاق والمصالح: هل السياسة مضادةٌ للأخلاق، أم أن الأخلاق نفسها يمكن أن تكون جزءاً من هندسة المصالح؟ ما أثبتته سوريا الجديدة أن الانحياز للقيم لا يكفي، ما لم يُرفق بالقدرة على صياغة سياسات عملية. الأخلاقُ ضرورةٌ لتثبيت البوصلة، مافي هذا شك، لكنها تظل غير كافية من دون مركبٍ واقعيٍ قادرٍ على العبور. هذا ما لم يفهمه بعض المثاليين الذين ظنوا أن الرضا الأخلاقي للنظام الدولي عن انتمائهم لمدارس تُشبههُ، العلمانية والليبرالية والحداثة، هو الطريق الوحيد إلى شرعيةٍ سيعطيهم إياها، في حين أن هذا النظام لا يعترف إلا بمن يستطيع أن يثبت نفسه عبر المصلحة.
من هنا، جاء رفع العقوبات الدولية عن سوريا لحظة مثالٍ كاشفة. إذ لم يكن ذلك انتصاراً لصورة أو لأفراد، وإنما انتصاراً لمنهج براغماتي واقعي استثمر المنعطف الحرج في إعادة تعريف موقع الدولة. وكان دليلاً على أن التعامل مع العالم لا يكون عبر تمنّي الاعتراف، بل عبر صناعته بالقدرة على التكيّف مع مصالح الآخرين دون فقدان حدٍ أدنى من البوصلة الوطنية، بحساباتها الاستراتيجية.
إن ما جرى في التجربة السورية لا يُختزل في حدثٍ سياسي عابر ولا في لحظة انفعالية مؤقتة، بقدر كونه مؤشراً على تحولٍ عميق غيّر قواعد اللعبة ذاتها. إذ أثبتت إدلب أن السياسة ليست خطاباً يزدان بالمفردات، ولا تنظيراً يملأ الصالونات، وإنما هي القدرة على تحويل الفوضى إلى نظام، والهامش إلى مركز، والأزمة إلى فرصة. وهنا يكمن جوهر الدرس: أن سوريا الجديدة تُبنى بالشجاعة على اقتحام المنعطفات الحرجة وتحويلها إلى مسارات قابلة للاستمرار. وهذا يختلفُ جذرياً عن وهم البناء بالانتماء إلى مدارس فكرية متخشبة، أو بالعيش على أوهام الماضي. هذا تجمدٌ في الزمان، وتلك شرعيةٌ وُلدت من الخنادق، وأثبتت أنها أقدر على صناعة المستقبل.