الرئيسة \
تقارير \ حل الإخوان في سوريا.. خطوة للاستقرار أم تهديد للديمقراطية؟
حل الإخوان في سوريا.. خطوة للاستقرار أم تهديد للديمقراطية؟
03.09.2025
رانية نصر
حل الإخوان في سوريا.. خطوة للاستقرار أم تهديد للديمقراطية؟
رانية نصر
الجزيرة
الثلاثاء 2/9/2025
قراءة سياسية فقهية
في خضم التحولات السياسية الكبرى التي تشهدها المنطقة، برزت مؤخرا أصوات سياسية وازنة تُلوح بخيار حل جماعة الإخوان المسلمين كحزب سياسي في سوريا. وهذا الطرح، الذي لم يأتِ من فراغ، يُولد بطبيعته سلسلة من التساؤلات الفكرية والفقهية والسياسية:
لماذا يُطرح موضوع الحل تحديدا في هذه اللحظة؟
هل للمسألة ارتباط بما تشهده الساحة من تقارب سوري- خليجي قد تكون له انعكاساته على مستقبل سوريا؟
هل يمكن أن يُقرأ المطلب كخطوة استباقية لتأمين استقرار الدولة وتحصينها من قوى خارجية تناصب الإخوان العداء وتلاحقهم بالحديد والنار، فيفرض هذا الخيار نفسه "كصكوك تأمينية" لحماية سوريا وتعزيز مسار نهضتها بعد تاريخ طويل من الاستبداد والتعب والإرهاق السياسي والاقتصادي والاجتماعي، أم أنه قد يُقرأ كحلقة جديدة في مسار الإقصاء السياسي الذي يناقض مبدأ التعددية التي تقوم عليه الدولة الحديثة؟
ومن منظور السياسة الشرعية، يبرز سؤال أكثر إلحاحا: أيُ المصلحتين تُقدَم عند التعارض؛ مصلحة استقرار الدولة بوصفها ضرورة كبرى لحفظ الكيان، أم مصلحة الحرية السياسية والتعددية بوصفها ضمانة طويلة المدى للعدل والمشاركة ومنع عودة الاستبداد؟
ثم بالنظر في المآلات: هل سيحقق "الحل" مصالح إستراتيجية تدفع بعجلة الوحدة الوطنية إلى الأمام، أم أنه قد يتحول إلى منزلق تاريخي خطير يفتح الباب لتعقيدات جديدة في غنى عنها الدولة الناشئة؟
إنها أسئلة مُلحة تحاول هذه المقالة مقاربتها بموضوعية بعيدا عن الاصطفافات والأحكام المسبقة، عبر الجمع بين التحليل السياسي الواقعي والميزان الفقهي.
يرتبط طرح موضوع "الحل" في هذه اللحظة على الأرجح بالتقارب السوري-الخليجي والانفتاح السوري-الغربي، بما له من انعكاسات مباشرة على مستقبل سوريا
لم يكن حديث بعض القيادات السياسية السورية مؤخرا عن فكرة حل جماعة الإخوان المسلمين كحزب سياسي مجرد تصريح عابر، بل بدا كرسالة سياسية مُبطنة محملة بالدلالات. وحتى نفكك المشهد، لا بد من التنبيه أولا إلى أمرين:
أولا: تجنب التعصب والانفعالات
كثيرا ما تُقابَل الأفكار الجديدة برفض تلقائي، خصوصا إذا خالفت القناعات الموروثة أو هددت المكاسب القائمة، من دون نظر متأن في النتائج والمآلات.
فالنفوس بطبعها تميل إلى ما يُوافق قناعاتها السابقة وتخشى المجهول أو فقدان المكتسبات، فرديا كان الأمر أو جماعيا. غير أن الشأن العام لا يُدار بالعاطفة، بل يحتاج إلى تجرد وميزان دقيق ينظر في المآلات، مع عمق في التفكير وبصيرة بالواقع وأبعاده.
ثانيا: تحديد نطاق النقاش
يقتصر هذا المقال على مناقشة مسألة "الحل" في السياق السوري الراهن، باعتباره خيارا سياسيا يُنظر إليه من زاوية المصلحة الوطنية العليا في ظل مشهد دولي معقد وعلاقات متشابكة مع المحيطين الإقليمي والدولي.
ولا يتناول المقال جماعة الإخوان من حيث هي مدرسة فكرية أو تيار إصلاحي ذو امتداد تاريخي؛ فهذا بحث آخر. إنما السؤال هنا: هل يمكن أن يشكل "الحل" مخرجا سياسيا يفتح باب الاستقرار ويُحصن الداخل من عدو متربص، أم سيكون عثرة إضافية في طريق الديمقراطية وبناء الدولة الحديثة؟
لماذا الآن؟!
يرتبط طرح موضوع "الحل" في هذه اللحظة على الأرجح بالتقارب السوري-الخليجي والانفتاح السوري-الغربي، بما له من انعكاسات مباشرة على مستقبل سوريا.
فهذه الدولة، التي كادت أن تكون الوحيدة في المنطقة التي نالت حريتها من سطوة الاستبداد السياسي بعد مخاض طويل، تجد نفسها اليوم أمام مخاوف من تكرار السيناريو العربي في الالتفاف على الثورة وسط تعقيدات سياسية دولية واختلال موازين القوى والتحالفات.
التحدي الذي تواجهه الدولة الحديثة هائل وخطير، وربما يدفعها ذلك للتعامل بحذر شديد مع الملفات الخارجية، مبتعدة عن المواجهة المباشرة وردود الأفعال غير المحسوبة، على الأقل حتى ترسيخ أركانها واستقرار أمرها.
وهذا يقتضي قدرا كبيرا من المرونة والبراغماتية السياسية تجنبا للمزالق التي قد تهدد وجودها، حتى ولو كان على حساب الديمقراطية السياسية. لكن هل لهذا "الحل" -إن افترضنا وقوعه رغبة أو رهبة- وجه شرعي؟
قد يصبح "حل" بعض الأحزاب -ولو مرحليا- خطوة تؤدي إلى مصلحة راجحة في ظل انفتاح سوريا على العالم وتقارباتها الإقليمية، خاصة أن هذه التقاربات يُتوقع أن تكون مشروطة بمصالح متبادلة أو بكف الأذى
ارتكاب أخف الضررين
يقرر أهل العلم قاعدة أصولية في باب التزاحم بين المفاسد، مؤداها: "إذا تعارض ضرران رُوعي أعظمهما ضررا بارتكاب أخفهما"، أو كما يُقال "يُرتكب أخف الضررين لدفع أعظمهما". وقد قرر الإمام العز بن عبدالسلام-رحمه الله- أن "الشريعة كلها مصالح؛ إما بجلب المنافع، أو بدرء المفاسد".
وعليه، فقد يُبرر أحيانا التنازل عن بعض ما يُعد من الثوابت أو من الأمور المعتبرة، لا من باب الإلغاء أو التعطيل، وإنما لتحقيق مصلحة راجحة أو دفع مفسدة أعظم، خاصة إذا تعلق الأمر بشؤون الدولة وإدارة المجتمع. فالدولة في التصور الإسلامي إنما وُجدت لتحقيق مصالح العباد ورعاية شؤونهم، وتأمين مقاصد الشريعة، وفي مقدمتها حفظ الكليات الضرورية الخمس: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال.
والشواهد في التاريخ الإسلامي تدل على هذا النمط من الموازنات؛ فقد صالح النبي- صلى الله عليه وسلم- قريشا في الحديبية مع ما فيه من شروط ظاهرها الإجحاف بالمسلمين، لكنه كان ينظر إلى المآلات لا إلى الجزئيات، فكانت النتيجة فتحا مبينا.
وكذلك فعل صلاح الدين الأيوبي حين عقد هدنة مع بعض ملوك الصليبيين ليصفي جبهات أخرى، إذ الحكمة تقتضي تسكين الجبهات لا إثارتها، وجمع أكبر قدر من المصالح وتقديم الأهم فالأهم.
وفي ظل التحولات السياسية الكبرى اليوم وتعقيداتها الكثيرة، فإن إعمال هذه القاعدة يكون من باب أولى. وقد يصبح "حل" بعض الأحزاب -ولو مرحليا- خطوة تؤدي إلى مصلحة راجحة في ظل انفتاح سوريا على العالم وتقارباتها الإقليمية، خاصة أن هذه التقاربات يُتوقع أن تكون مشروطة بمصالح متبادلة أو بكف الأذى.
غير أن الوجه الآخر للمسألة هو الخطر من أن يتحول "الحل" إلى إقصاء سياسي يهدد الديمقراطية تحت مسميات جديدة، وهو ما يخالف قاعدة "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب"، إذ إن واجب ترسيخ الدولة الحديثة العادلة لا يتم إلا بصيانة التعددية السياسية وضمان حق جميع القوى في التعبير والمشاركة.
وفي الحالة السورية تحديدا، فإن التحديات الأمنية والضغوط الدولية تضع صناع القرار أمام هذا النوع من المفاضلات الحرجة.
القاعدة الفقهية تقرر أن "الضرورات تُبيح المحظورات"، لكن المقيِد لها أن "الضرورات تُقدر بقدرها"؛ بمعنى أن أي إجراء استثنائي إذا تجاوز حد الضرورة انقلب إلى ظلم
"الحل" بين إلحاح الاستقرار وتهديد الديمقراطية
عانت سوريا لسنوات طويلة من سطوة استبدادية إقصائية تنكرت لمبدأ التعددية، ودُفعت أثمان جسيمة في سبيل الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية. فهل يعد حل الأحزاب السياسية اليوم قبل ترسيخ قواعد الدستور إقصاء أم دعوة للانضواء تحت مظلة الوحدة الوطنية؟
قد يُفهم حل حزب الإخوان في السياق السوري على أنه استجابة لضغوط خارجية، خاصة من دول عربية وغربية تسعى لتأمين حدود العدو الصهيوني، وهو ما يجعل القرار يبدو وكأنه خطوة استباقية لحماية الدولة من مخاطر محتملة. ومن منظور الدولة، قد يوفر هذا الحل استقرارا نسبيا من خلال تسكين هذه الجبهة "لحاجة في نفس يعقوب".
لكن يظل الأمر محفوفا بالمخاطر؛ إذ قد يتحول إلى تهميش سياسي يضعف استقلالية قرار الدولة، ويؤثر على مهابتها أمام مواطنيها، ويُقوض التعددية التي نشأت بعد صراع طويل ضد الاستبداد.
فالنجاح طويل المدى لأي تجربة انتقالية يعتمد على توازن دقيق بين حماية الدولة من التهديدات الخارجية، وبين ترسيخ قواعد الديمقراطية داخليا. وأي حل سياسي يجب أن يُصاغ في إطار دستوري وقانوني واضح، يضمن حقوق جميع الأطراف، ويتيح آليات عادلة للاندماج السياسي، حتى لا يتحول الاستقرار قصير المدى إلى مأزق طويل الأمد يهدد مستقبل الدولة الحديثة.
ومن جهة التأصيل، فإن القاعدة الفقهية تقرر أن "الضرورات تُبيح المحظورات"، لكن المقيِد لها أن "الضرورات تُقدر بقدرها"؛ بمعنى أن أي إجراء استثنائي إذا تجاوز حد الضرورة انقلب إلى ظلم، والظلم -كما يقرر ابن تيمية- "لا تقوم به دولة ولو كانت مؤمنة"، بينما العدل هو أساس الملك وشرط البقاء.
الاستقرار أَولى مبدئيا لضمان المصالح الضرورية الكبرى، ولكن لا يجوز أن يتحول إلى ذريعة لإلغاء الديمقراطية أو التعددية بشكل دائم، ولا لإلغاء الرقابة العامة على الدولة من قبل الأحزاب والقوى السياسية المؤثرة
الترجيح بين استقرار الدولة وحماية الديمقراطية
قرر العلماء أنه إذا تزاحمت المصالح ولم يمكن جلبها كلها، فالمطلوب هو تحقيق أعلاها. وإن تزاحمت المفاسد وتعين ارتكاب بعضها، فإنه يُرتكب الأدنى لدفع الأعلى. وإن تساوت، فدفع المفسدة أولى من جلب المصلحة.
وعليه، فإن مسألة ترجيح استقرار الدولة أو حماية الديمقراطية عند التعارض تُنظر ضمن قاعدة فقهية عامة: ترجيح الضرر الأعظم أو المفسدة الكبرى.
من زاوية استقرار الدولة: الأَولوية لتأمين الاستقرار، لأنه ضرورة كبرى، وانعدامه يؤدي إلى فوضى سياسية وتدهور اقتصادي وتهديد النفوس والمصلحة العامة. وفي السياسة الشرعية، حماية الدولة من الانهيار أو الانقسام مصلحة عامة قصوى تُقدم على مصالح جزئية مؤقتة، لكن على ألا يكون ذلك مطلقا أو تعسفيا.
من زاوية الديمقراطية والتعددية: هي مصلحة شرعية معتبرة، لأنها تضمن مشاركة الناس في الحكم، وتحمي الحقوق، وتحقق العدالة الاجتماعية. لكنها مصلحة تابعة لاستقرار الدولة، إذ لا يمكن ضمانها إذا انهارت الدولة.
الترجيح الفقهي: عند التعارض الحاد بين استقرار الدولة وحماية الديمقراطية، تُقدم مصلحة الاستقرار، بشرط أن يكون الهدف تمهيد الطريق لإعادة التعددية وحقوق المشاركة لاحقا. ويجب أن يكون التقييد مؤقتا ومحدودا، لا ذريعة لإلغاء الحقوق بشكل دائم. يقول ابن قدامة: إن سلامة الدولة ومصالح الأمة الكبرى قد تُقدم على مصالح جزئية مؤقتة، بشرط ألا يكون ذلك جزافا أو مطلقا.
إذن؛ فالاستقرار أَولى مبدئيا لضمان المصالح الضرورية الكبرى، ولكن لا يجوز أن يتحول إلى ذريعة لإلغاء الديمقراطية أو التعددية بشكل دائم، ولا لإلغاء الرقابة العامة على الدولة من قبل الأحزاب والقوى السياسية المؤثرة.
من الحكمة السياسية -إن كانت هناك نية للسير في خيار "الحل"- أن يتم ذلك ضمن مشروع وطني توافقي، يراعي خصوصية المرحلة، ويشمل مشاركة واسعة من القوى السياسية والاجتماعية، مع ضمانات دستورية تحمي التعددية وتصون حرية العمل السياسي والفكري
التعليق على مقال مستشار الرئاسة أحمد زيدان
نظر الأستاذ أحمد موفق زيدان إلى مسألة "الحل" من زاوية تنظيمية بالدرجة الأولى؛ إذ اعتبر أن الجماعة استنزفت ذاتها شيخوخة وجمودا، وباتت عبئا على المشهدين السوري والإقليمي.
وتبقى هذه القراءة محصورة في نقد التجربة الحركية للإخوان. ومع أن المقال عبر عن رأي شخصي، فإن توقيعه بصفته الاعتبارية يمنحه وزنا سياسيا إضافيا، وقد يُشير إلى مزاج عام آخذ في التشكل داخل البيئة السياسية الحاكمة.
ومع ذلك، فإن المقال تجاوز تاريخا طويلا من التضحيات التي قدمتها الجماعة في مواجهة الاستبداد، لكن الأهم في السياق الراهن أن السؤال لم يعد يقتصر على مصير الجماعة، بل بات يمس الدولة الناشئة ذاتها، في صورة معالجة داخلية لأزمة تنظيمية تحت ذريعة أن استمرار التنظيم لا يخدم المصلحة الوطنية.
عند هذا المفترق، يصبح ميزان السياسة الشرعية هو المرجع، بترجيح المصلحة العليا، والنظر في المآلات، والاستناد إلى القواعد: "دفع أعظم المفسدتين"، و"الضرورات تُقدر بقدرها".
ومن الحكمة السياسية -إن كانت هناك نية للسير في خيار "الحل"- أن يتم ذلك ضمن مشروع وطني توافقي، يراعي خصوصية المرحلة، ويشمل مشاركة واسعة من القوى السياسية والاجتماعية، مع ضمانات دستورية تحمي التعددية وتصون حرية العمل السياسي والفكري، حفاظا على استقرار الدولة من التهديدات الداخلية والخارجية.
بهذه الكيفية يمكن أن يتحول "الحل" إلى خطوة عقلانية مسؤولة تسهم في إعادة ترتيب البيت الداخلي وتثبيت المكتسبات، بدلا من أن يكون مدخلا جديدا للتفكك أو الإقصاء.
السياسة الرشيدة تُحسن إدارة الاختلاف كما تحسن دفع الضرر عن استقرار الدولة، وتستطيع تحويل أي تهديد إلى فرصة للبناء
في ضوء ما سبق من معطيات سياسية وشرعية، يمكن القول إن خيار "الحل" في السياق السوري الراهن ليس مجرد إجراء تنظيمي أو قرار سيادي، بل هو مفصل حاسم في رسم ملامح الدولة الناشئة، واختبار حقيقي لمدى التزامها بقيم التعددية والعدالة والتشاركية السياسية.
وإن كان الاستقرار مقصدا مشروعا وضروريا، فإن الطريق الأفضل لبلوغه هو التوافق، عبر إيجاد عقد وطني جامع يتوافق عليه الجميع.
فالسياسة الرشيدة تُحسن إدارة الاختلاف كما تحسن دفع الضرر عن استقرار الدولة، وتستطيع تحويل أي تهديد إلى فرصة للبناء. ومن ثم، فإن أي معالجة للملفات الداخلية يُفضَل أن تكون ضمن إطار مشروع وطني شامل يضمن الحقوق، ويكرس الشراكة، ويوازن بين المصالح الداخلية والخارجية على حد سواء.