الرئيسة \  تقارير  \  حل "الإخوان" السوريين واحتكار التمثيل السنّي

حل "الإخوان" السوريين واحتكار التمثيل السنّي

06.09.2025
ياسين الحاج صالح



حل "الإخوان" السوريين واحتكار التمثيل السنّي
ياسين الحاج صالح
القدس العربي
الخميس 4/9/2025
ليس واضحاً لماذا يحتاج “تثبيت حكم” الرئيس الانتقالي السوري أحمد الشرع إلى أن تحل جماعة الإخوان المسلمين السوريين نفسها، ولا لماذا من شأن حل التنظيم أن “يخدم البلد”، مثلما يعتقد مستشار الشرع للشؤون الإعلامية أحمد موفق زيدان (مقالته في موقع قناة الجزيرة، 22/8/2025). الرجل لا يوضح السبب، وما يسوقه من عبارات لتسويغ دعوته من نوع أن مسارعة “الائتلاف الوطني السوري لقوى المعارضة، والمجلس الإسلامي السوري، إلى الفصائل العسكرية والسياسية والمجالس المحلية، وغيرها إلى حل أنفسها، ووضع مقدراتها، تحت تصرف القيادة السورية الجديدة” لا يقول لماذا هذا جيد ومرغوب. هذا عدا عن أن في الكلام على “مسارعة” هذه المجموعات إلى حل نفسها غير قليل من مجاملة الذات، كما من مخادعة الغير. فالحقيقة ليست كذلك كما يعرف جيداً المستشار الذي يخلط بين الحل الواجب للفصائل العسكرية (وهو حل ناقص، كما يثبت تقرير اللجنة الدولية المستقلة في الانتهاكات ضد المدنيين في الساحل وشمال غرب سوريا، وقد تسبب نقصه في جعل الدولة فصائلية وفي كارثتين وطنيتين خلال سبعة أشهر) وبين حل أجسام سياسية واجتماعية ومدنية لا يمكن نسبة أي انتهاك أو جريمة إليها. أما تبرير دعوة حل الإخوان بأن “يهتف الكل لحناً واحداً ونغماً موحداً” فهو أصلح لتبرير عدم الحل، لأن اللحن الواحد والنغم الموحد يمكن أن يكون تعريفاً جيداً للطغيان، لا لأي شيء طيب. ومثل ذلك ينطبق على الكلام على التغريد خارج السرب وقد كرره المستشار مرتين، فالمجتمع ليس سرباً من الطيور المغردة، بل كوكبات لا تحصى من أفراد أحرار ومجموعات مستقلة تتكلم أو يفترض بها أن تتكلم ما تؤمن هي به، لا ما يطلب منها من تغريد يطرب الطالبين. وأقرب ما يمكن أن يكون مبرراً سيئاً لدعوة الحل هو إشارة زيدان المقتضبة إلى أن الإخوان ألمحوا إلى “عدم رضاهم عما يجري”. لكن أليس هذا واجب من يغارون على بلدهم ويتمنون له الخير، والقوم لم يتجاوزوا التلميح حسب المستشار نفسه. ثم ألا يكفي الإخوان عقاباً أن تلميحهم إلى عدم الرضا “يزيد الشقة والفجوة مع الشارع الداعم للحكومة”؟ ثم إذا كان حل النفس مصير من يلمح إلى عدم الرضا، فماذا يحتمل يا ترى أن يكون مصير من يجهر بعدم الرضا؟ ومن يدعو إلى وجوب تغيير الحكم الحالي؟ ولا ينصر زيدان قضيته بالقول إن الإخوان شيوخ مسنون في العمر، باستثناء أولادهم ربما. فإذا كان الأمر كذلك فلم لا يُترك للمقادير التكفل بحل هذه الجماعة الشائخة؟
ليس هناك مبرر قانوني أو معقول لطلب السلطة أن يحل الإخوان أنفسهم، ولا يحتاج المرء إلى أن يكون على تعاطف خاص مع الإخوان حتى يتحفظ على هذا الطلب. كل تقييد للتعدد الاجتماعي والسياسي في سوريا هو تضييق للهوامش الحرة لحركة السوريين ومبادراتهم وإضعاف للمجتمع أمام السلطة. الدفاع عن حق الإخوان في النشاط العام والعلني هو ما يتوافق مع الدفاع عن التعددية وهوامش الحرية في سوريا، وهو لا يعني بحال الدفاع عن مضمون فكر الإخوان أو عن سياستهم. هذا شيء وذاك شيء. التعدد هو تعدد المختلفين، أما المتماثلون فلا يشكلون تعدداً ولو كانوا بالملايين. والخشية هي أن يكون الابتهاج بأن يؤكل ثور الإخوان الأبيض غفلة لا يعقبها غير أن تؤكل بقية الثيران المبتهجة.
المجتمع ليس سرباً من الطيور المغردة، بل كوكبات لا تحصى من أفراد أحرار ومجموعات مستقلة تتكلم أو يفترض بها أن تتكلم ما تؤمن هي به
على أن الاعتراض على حل الإخوان لا يقتصر، في هذا السياق المخصوص، على الدفاع عن مبدأ التعدد العام في الإطار الوطني. فالمراد المرجح من دعوة زيدان المستشار هو احتكار التمثيل السني، أي إلغاء التعدد في الإطار السني، بما يسهل إلغاء التعدد على المستوى الوطني، أو قصره على جماعات أهلية أقل عدداً وأدنى قوة. وهو ما يضمن استئثاراً مديداً بالحكم، ربما أبدياً، من قبل ما يفترض أنها سلطة انتقالية. مؤشرات نحو 9 أشهر تشير إلى إرادة تركيز السطلة وإضعاف الخصوم المحتملين، وليس إلى حكم انتقالي يعمل على معالجة الملفات الشائكة ووضع قطار البلد على سكة السير المتوازن إلى الأمام. الإخوان ليسوا ملفاً شائكاً من وجهة نظر المصلحة الوطنية، وإن أمكن لهم أن يكونوا كذلك من وجهة نظر تركيز السطلة واحتكار التمثيل السني وتسنين الدولة عبر هذا الاحتكار. ولعله من طبائع الاستبداد التي لم يذكرها الكواكبي نزعة المستبد إلى الاستئثار بكامل السلطة وسط جماعته هو، وهذا قبل ومن أجل الاستئثار بها في مواجهة الجماعات الأخرى. لقد فعل حافظ الأسد ذلك بحبس أو اغتيال أبرز خصومه العلويين، صلاح جديد ومحمد عمران، قبل أن يتفرغ لمن يحتمل أن يكونوا تهديداً من غيرهم. حين بدأ بمواجهة الإخوان المسلمين الذي كان زيدان من أوساطهم وقتها، كان على سيطرة تامة على جيشه ومخابراته عبر محاسيبه الأهليين.
لكن ماذا يريد الإخوان؟ لا ينبغي أن يكون الجواب صعباً: ألا ينحلوا، وأن يقدروا على ممارسة العمل العام في البلد. السؤال الذي قد تكون الإجابة عليه صعبة هو: إلى أي مدى يريدون ذلك في مواجهة حكم سني؟ هل إذا زادت الضغوط عليهم يحلون أنفسهم، أم ربما يثابرون على البقاء على قيد الحياة في الشتات؟ هل هناك أي احتمال لأن يتحالفوا مع تعبيرات أهلية أخرى أو منظمات سياسية قديمة أو جديدة ضد الحكم الانتقالي الحالي؟ لا نملك إجابات، ولا حتى تقديرات. الجماعة لم يتركوا لأنفسهم صاحباً، وهم لم يدافعوا يوما عن حق أي كان في الوجود، وليس عن الحق في السياسة فقط. وفي مواجهة قوى إقليمية تريد تجريمهم ووضعهم على قوائم الإرهاب، وكون بعض رعاتهم الإقليميين هم من رعاة الحكم الجديد في سوريا، سيكون مفاجئاً ألا “ينِخّوا” لطلب الحل.
هذا يبقى مؤسفاً إن حصل. ونجد أنفسنا في المحصلة في وضع تعيس بفعل قلة مبدئية وقلة عدالة وقلة جدية أكثر الفاعلين، هذا بينما تواجه سوريا أشد المخاطر، ربما الأشد منذ نشأة الكيان السوري قبل أكثر من 107 سنوات. وهو وضع حزين إن فكر المرء من موقع إخواني. فالجماعة واجهوا النظام الأسدي ودفعوا ثمنا باهظاً من الضحايا والمعاناة والمنفى، وها هم اليوم يستبعدون ويطالبون بحل أنفسهم من قبل حكم سني!
يتساءل زيدان لماذا قبل الإخوان بحل أنفسهم أيام الوحدة مع مصر: “وهل دعوة عبد الناصر هي أولى بالإجابة والسمع والطاعة من حاجة الرئيس السوري أحمد الشرع لتثبيت حكم ثمنه مليون شهيد..”.؟ كانت الوحدة مع مصر انتحاراً لسوريا، دفع إليه عجز النخب المدنية والعسكرية السورية عن حل مشكلاتها، ورمي نفسها بين يدي جمال عبد الناصر تخلصاً من النفس العاجزة، وليس حتماً من المشكلات. ربما كانت هنا نيات حسنة وراء هذا المسعى الذي يجب أن يفهم في زمنه، لكن السياسة ليست بالنيات بل بالعواقب ونتائج الأفعال، والنتائج كانت سيئة. حين سقط حكم الوحدة بعد ثلاث سنوات ونصف، جاء السقوط على أيدي ضباط وثق بهم نظامها وليس من سياسيين أُحبِطوا فانكفأوا على أنفسهم، ولم يدافعوا عن الوحدة التي تحمسوا لها بدئياً. اليوم تبدو سوريا على عتبة انتحار ثان، انتحار تقسيمي وليس توحيديا. وبدلاً من العمل على معالجة المشكلات التي تواجه البلد اليوم والبحث عن حلول سياسية لها، يبدو المستشار ومن يشير عليه وكيلين في عملية الانتحار الجديدة، منشغلين بما هو ثانوي، حل الإخوان ومنظمات سنية أخرى، عما هو أساسي: معالجة المشكلات الكبيرة التي تهدد بانهيار البلاد. الأرجح أن الخطر على نظام الشرع لن يأتي من جهة الإخوان أو أي منظمات سياسية سورية أخرى. واضح في واقع الأمر من أين سيأتي: من تركيبات متينة بين الانقسام الأهلي وحمايات أجنبية معادية، أو من داخل الدولة الفصائلية نفسها، أو من تقاطع محتمل بينهما. واضح إلى درجة أن المرء يتساءل عما إذا لم يكن حكم الأمويين السعداء اليوم راضياً بأن يسيطر على أجزاء أصغر من سوريا، فقط بشرط أن تكون أكبر من “الكيان السني” في إدلب. زيدان الذي نظر لذلك الكيان وقتها لا تعوزه المواهب للتنظير لنسخة مزيدة ومنقحة منه اليوم.