جولة بَحثيّة في سوريا الجديدة
05.06.2025
مصعب الحمادي
جولة بَحثيّة في سوريا الجديدة
مصعب الحمادي
سوريا تي في
الاربعاء 4/6/2025
لا شك أن الملايين من السوريين الذين ما زالوا يعيشون خارج البلاد يتطلعون للعودة إلى الوطن وإن من باب الزيارة فقط في هذه المرحلة. ولا شك أن لدى الغالبية منهم مخاوف وتساؤلات بخصوص الأوضاع هنا مع كثرة الأحاديث - سواء الصادقة منها أم المزيّفة - عن ترهّل الدولة الجديدة وكثرة الحوادث الأمنية على امتداد البلاد.
في هذا المقال أريد أن أشارك مع السوريين في الخارج تجربتي في جولتي الثانية في ربوع بلدنا بعد عودتي من فرنسا قبل شهرين من الآن.
في جولتي الأولى التي قمت بها فور وصولي للبلاد زرت درعا والسويداء وحماه وإدلب وحلب. كنت وحدي وكان الهدف هو السياحة ليس إلا. ومع أني كنت مصدوماً وقتها بكثرة الحواجز واختلاف بذلات وهيئات المقاتلين الموجودين عليها حسب كل منطقة إلا أني لم أتعرض لأي حادث أو موقف وكانت الرحلة مبعثاً للسعادة والرضا الكامل لديّ.
سوريا عادت ولم يبق إلا أن يعود باقي أبناءها إليها كي ينضمّوا إلى مهرجانٍ كبير عنوانه الحرية والكرامة والإعمار والتطور.
أما رحلتي الثانية التي أنا بصدد الحديث عنها فقد تمّت لغايةٍ عمليّة وبهدف "الشغل." فقد اصطحبتُ السيد روي غتمان، وهو الصديق والأستاذ الذي شجعني في بداياتي في الصحافة الأميركية، في جولةٍ بحثيّة في ربوع سوريا الجديدة شملت دمشق وإدلب وحلب وتضمنت لقاء مسؤولين حكوميين وفاعلين اجتماعيين وأناساً عاديين من مختلف المشارب.
السيد غتمان يعمل حالياً رئيساً لمجلس بالتيمور للشؤون الخارجية وهو كاتب وصحفي مخضرم دخل في العقد الثامن من عمره لكنه يمتلك همةً عالية جعلتني أشعر بالإرهاق أحياناً وأنا أحاول مجاراة نشاطه من مكانٍ إلى آخر ومن لقاءٍ إلى لقاء.
كان الهدف الأساسي من الجولة الإجابة على مجموعةٍ من الأسئلة العريضة بخصوص الثورة السورية وتجربة السوريين الناجحة في إدلب وكيف لهذه الروح الجديدة التي تتدفق في البلاد اليوم أن تصنع فرقاً وتضع سوريا في مصاف الدول المزدهرة في المنطقة.
قبل أن يبدأ صديقي روي زيارته حاول موظفوه في مجلس بالتيمور ثنيه عن القيام بالزيارة حرصاً على سلامته، فسوريا في نظرهم بلدٌ خطِر. وعندما كنا نركب في باص شركة الأمراء من حلب متوجهين إلى دمشق وصلته رسالة من أحد أصدقائه الأميركيّين تقول، "هل أنت مجنون؟ تسافر داخل سوريا بالباص؟"
تلقى روي رسالة الباص ضاحكاً بل هازئاً أيضاً. فالرحلة السورية برمّتها لم تكن آمنة فحسب بل رائعة ومثيرة أيضاً.
بدأت الجولة من دمشق وكانت الوجهة التالية إدلب. سافرنا عبر كراج البولمان في حرستا. ركبنا باص شركة الأهلية ووصلنا مدينة إدلب نحو الثامنة مساءً. بعد تناول شعيبيات إدلب في محل حلويات قرب برج الساعة عدنا للمبيت في الفندق الوحيد في المدينة. في اليوم التالي استقلّينا سيارة أجرة وسافرنا للشمال أكثر حتى الحدود التركية حيث أمضينا ليلتين في قرية "سرجبلة" الجبلية الرائعة قرب معبر باب الهوى مع تركيا. كانت الإقامة في منزل خاص يعود لأحد أقربائي. أمضينا يومين بين المهجّرين قسريّاً. طفنا على الآثار البيزنطية الساحرة في القرية مشياً على الأقدام وتعرفنا على مخيمين للنازحين هناك: المخيم الكويتي والمخيم القطري. وفي أثناء وجودنا في المنطقة زرنا قيادة المنطقة الشمالية في قوات الشرطة وتفاجأنا أن الشرطة هناك ليس لديهم عمل تقريباً. فالجرائم نادرة وإن حصل وأن وقعت عملية سرقة مثلاً يتم إلقاء القبض على الجاني في أقل من أربعٍ وعشرين ساعة. في مدينة سرمدا زرنا اثنين من المولات الخمسة الضخمة التي تم إنشاؤها في السنين الثلاث الماضية، ثم مضينا لتناول الغداء في مطعمٍ فاخر في قرية حزّانو أكلنا فيه ألذّ وجبة طعام في سوريا لم نجد لها مثيلاً أبداً لا سيّما في حلب التي بدت مطاعمها مُتعبة وبعيدة عن الإتقان رغم شهرة المدينة بمطبخها العريق وأكلاتها التاريخية.
أمرٌ آخر يستوجب اهتمام الدولة الجديدة هو بقايا من فساد النظام السابق يلمسُها المرءُ بين الفلول من الموظفين في الدوائر الحكومية والفنادق والمطاعم والمنشآت السياحية الخاصة ممن ما يزالون يحملون في تصرفاتهم جراثيم الرشوة والاحتيال وسوء الأدب أحياناً.
باختصار كانت إدلب في حالةٍ سليمة أمنياً وخدمياً أكثر من أي مدينةٍ أخرى في سوريا، بما في ذلك دمشق. كما أن الروح المعنوية ومستوى التفاؤل والثقة بالنفس أعلى بكثير في إدلب مما هي عليه في باقي أنحاء سوريا. وعندما زرنا مبنى المحافظة في دمشق والتقينا الموظفين الجدد هناك وجدنا دماءً جديدة تجري فيها تسوقها مسرعةً إلى التطور والحداثة أساسها الكفاءات العلمية العالية التي أتت من إدلب سواء كان أصحاب الكفاءات من قرى إدلب أم من المهجّرين الدمشقيين الذين عاشوا بحرّيةٍ وكرامة في إدلب لسنين عديدة ثم عادوا إلى دمشق بخبراتهم الجديدة وطموحاتهم العالية لأجل إلحاق دمشق بالتقدم الحاصل بالشمال في أسرع وقتٍ ممكن.
أخبرَنا أحد المسؤولين القادمين من إدلب للعمل في المحافظة أنه صُدم ببطء شبكة الإنترنت في دمشق ورثاثة أجهزة الكمبيوتر وباقي التجهيزات التي اعتمد عليها موظفو المحافظة في عهد النظام البائد وشرح لنا خطط الحكومة الجديدة للنهوض بالوضع وتطوير التجهيزات والمعدات في أسرع وقتٍ ممكن.
إذا كانت هناك من ملاحظةٍ سلبية يمكن تسجيلها فهي انطواء الفئة الحاكمة على نفسها قليلاً وعدم انفتاحها بشكلٍ كافٍ بعد على باقي مكونات الشعب السوري. فهيئة تحرير الشام التي قادت معركة التحرير تفضّل الثقة على الكفاءة، والانسجام على المشاركة، وهو ما لا أرى فيه أي مبرّرٍ واقعي فحُكّام دمشق اليوم انبثقوا عن ثورةٍ شعبية قدمت مئات آلاف الشهداء واستمرّت أربع عشرة سنة.
أمرٌ آخر يستوجب اهتمام الدولة الجديدة هو بقايا من فساد النظام السابق يلمسُها المرءُ بين الفلول من الموظفين في الدوائر الحكومية والفنادق والمطاعم والمنشآت السياحية الخاصة ممن ما يزالون يحملون في تصرفاتهم جراثيم الرشوة والاحتيال وسوء الأدب أحياناً.
وفي المُجمل فإن ما أريد إخباره للسوريين في الخارج بعد هذه الجولة الجديدة هو أن الأوضاع في سوريا مستقرة، درجة الأمان عالية، والبلد بصدد تحقيق طفرة في النمو والتطور. وفي مقابل بضعة حوادث هنا وهناك تتناقلها وسائل التواصل الاجتماعي بشيءٍ من المبالغة، فإن هناك ملايين السوريين يمارسون حياتهم اليومية بأمنٍ وثقة وعزيمةٍ وتفاؤل. سوريا عادت ولم يبق إلا أن يعود باقي أبنائها إليها كي ينضمّوا إلى مهرجانٍ كبير عنوانه الحرية والكرامة والإعمار والتطور.