جنوب سورية و"باشان" التوراتية
07.09.2025
توفيق شومان
جنوب سورية و"باشان" التوراتية
توفيق شومان
العربي الجديد 6/9/2025
غالباً ما تستحضر الحكومات الإسرائيلية في حروبها مصطلحاتٍ ومفاهيم توراتية تغذّي الذاكرة الجمعية، وتلهبها بمزيد من عناصر الاشتعال والتحريض "المقدّس" التي تحاكي وقائع الحال القتالية. ... في حرب حزيران (1967) استوحى القادة الإسرائيليون، وفي مقدمتهم رئيس الحكومة في وقتها ليفي أشكول، قصة الخلق التوراتية فسمّوها "حرب الأيام الستة"، مُحاكين بذلك ما ورد في سفر التكوين "ونظر الله إلى كل ما صنعه فرأى أنه حسن جدا، وكان مساء وكان صباح يوم سادس، فتم خلق السماوات والأرض وجميع ما فيها، وفرغ الله في اليوم السابع من عمله واستراح في اليوم السابع". وعلى السبيل نفسه، سارت غولدا مائير وأصحابها فأطلقوا على حرب 1973 "يوم الغفران"، وهو أعظم الأعياد اليهودية، وفيه نزلت "الوصايا التي أمر الربُ بها موسى لبني إسرائيل في جبل سيناء"، كما جاء في سفر اللاويين.
وفي حرب الإبادة التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزّة، استدعى بنيامين نتنياهو، قبل حين، النصوص الأسطورية، فأطلق على فصول الحرب مرّة "عربات جدعون" ومرّة "عربات جدعون 2". وتظهر سيرة جدعون التوراتية، كما يرويها سفر القضاة، بعدما "عمل بنو إسرائيل الشر في عيني الرب، فسلّمهم إلى قبيلة مديان سبع سنوات، فلجأوا إلى المغاور في الجبال والكهوف والحصون هرباً منهم، وكانوا إذا زرعوا يصعد إليهم المديانيون والعماليق وأهل الصحراء، ويهاجمونهم ويتلفون غلة الأرض إلى مدخل غزّة. وجاء ملاك الرب وكان جدعون يدوس سنابل الحنطة خوفاً من المديانيين، وقال له: الرب معك، أيها الجبار، اذهب بقوتك وخلّص بني إسرائيل من قبضة مديان". وتنتهي الرواية بتقديم صورة انتصارية بطلها جدعون، فقد "خضع المديانيون لبني إسرائيل، ولم تقم لهم قائمة من بعد، واستراحت الأرض أربعين سنة من الحروب في أيام جدعون". وينتسب المديانيون الذي يأتي على ذكرهم سفر القضاة إلى مديان، ابن النبي إبراهيم من زوجته قطورة، وفق النص الروائي التوراتي في سفر التكوين، وأرض المديانيين كانت تمتد من خليج العقبة إلى موآب (القسم الشرقي من البحر الميت) وطور سيناء، وفقا لـ"قاموس الكتاب المقدس" الذي أشرفت على إعداده نخبة من اللاهوتيين وذوي الاختصاص اللغوي والقساوسة والمطارنة، مثل جورج خضر وبطرس عبد الملك ومراد كامل وغيرهم.
أما العماليق فقد استحضرهم نتنياهو غير مرة في خطابات الكراهية، منادياً على جنده وعسكره "تذكّروا ما فعله العماليق بكم ... لا ننسى". وهؤلاء كما في شروحات القاموس المذكور آنفا "كانوا يقيمون في جنوبي فلسطين عند مجيء العبرانيين من مصر، وكانوا مصدر إزعاج لبني إسرائيل، لأن العبرانيين اعتدوا على ممتلكاتهم، وكانت المعركة الأولى بين الطرفين في غرب سيناء وغلبهم العبرانيون وتشتتوا، وضايقهم شاوول وذبح ملكهم، وطاردهم داود".
قال نتنياهو إنه لن يسمح للقوات السورية بالدخول إلى جنوب سورية، والمطلوب إخراجها من المنطقة كلها، وسيبقى الجيش الإسرائيلي في سورية وجبل الشيخ والمنطقة العازلة
وبحسب وصايا موسى في الإصحاح الخامس والعشرين من سفر التثنية "اذكروا ما فعل بكم بنو عماليق في الطريق عند خروجكم من مصر، فإذا أراحكم الربّ من جميع أعدائكم لا تنسوا أن تمحوا ذكر بني عماليق من تحت السماء". وفي الإصحاح الخامس عشر من سفر صموئيل الأول "قال صموئيل لشاوول أنا الذي أرسلني الربّ لأمسحك ملكاً على شعبه بني إسرائيل، هذا ما يقوله الرب: اذهب واضرب بني عماليق، أهلك جميع ما لهم، لا تعفُ عنهم، بل اقتل الرجال والنساء والأطفال والرضًع والبقر والغنم والجمال والحمير".
لا تحتاج مشاهد قطاع غزّة لشرح وتفصيل إذا ما جرى إسقاط النصوص التوراتية على يومياتها، فقادة الاحتلال لا ينفكّون عن القول إن صراطهم ما ورد في تلك النصوص، ومنها كمثال آخر ما أوردته وسائل الإعلام العربية والأجنبية، ومنها "العربي الجديد" (11/12/2024)، حيث "أطلق جيش الاحتلال الإسرائيلي اسم سهم باشان المستوحى من التوراة على العملية العسكرية التي يشنّها في سورية". وقاد هذا الاستحضار التوراتي حيال سورية ويقود إلى تحليل ما يجري في الجنوب السوري من توغل اسرائيلي قائم على استراتيجية القضم، انطلاقاً من سياقين: يدرج الأول جنوب سورية في لُجّة "الحق" التاريخي والديني المستقاة من النص التوراتي، والثاني ينبئ عن مصير احتلالي تعمد إليه إسرائيل في هذه المنطقة، وتعبٍر عنه تارّة بتوسيع المنطقة العازلة المتفق عليها عام 1974، وتارّة أخرى بتحويل الجنوب السوري كله إلى منطقة عازلة، وطورا ثالثاً بخروج آراء وتحليلات إسرائيلية تفيد بأن سورية المفيدة هي سورية المفكّكة والمفتّتة، وبحيث تكون المحافظات السورية الثلاث في الجنوب تحت الاحتلال الإسرائيلي المباشر، أو عن طريق الهيمنة والنفوذ، اعتمادا على مفهوم الأذرع المتقدّمة.
وباشان التي تعني الأرض السهلة والمستوية في غالبية اللغات السامية، تربتها خصبة للغاية، وماؤها غزير، "وتشمل حوران والجولان واللجاة، وتحدّها شمالاً أراضي دمشق وشرقا بادية سورية، وغرباً غور الأردن، ويخترق جانبها الشرقي جبل الدروز، وهو جبل باشان القديم "مثلما يشرح "قاموس الكتاب المقدّس". وقد تسيّد على هذه المنطقة الرفائيون (قبائل كنعانية أو أمورية)، ومن ملوكهم عُوج الذي كان فارع القامة وشديد البأس، ودخل عليه بنو إسرائيل وذبحوه واحتلوا مملكته، وقصة عُوج في سفر التثنية جديرة أن تُروى "فسلًم الرب إلى أيدينا عوج ملك باشان وجميع قومه، فضربناه حتى لم يبق له باق، وفتحنا جميع مدنه وعددها ستون مدينة، فحلًلنا في كل مدينة قتل جميع الرجال والنساء والأطفال".
التصور الإسرائيلي لمصير الجنوب السوري موزّع على أربعة احتمالات: مزيد من التوسّع والقضم، منطقة عازلة تحت الهيمنة الأمنية الإسرائيلية، انفصال الجنوب أو بعض منه عن الدولة المركزية، أو خليط بين الاحتلال والعازل الأمني والانفصال
وبالانتقال من نصوص الماضي الأسطوري إلى أفعال الراهن، من المناسب الاستعانة بتصريح نتنياهو في اليوم الذي سقط فيه النظام السوري السابق (8/12/2024)، إذ أعلن أن اتفاقية فصل القوات المبرمة بين دمشق وتل أبيب في 1974 انهارت وسقطت، ثم سيطر جيش الاحتلال على جبل الشيخ كله، وراح يوسّع المنطقة العازلة ويقضم ما بعدها. وفي 24 فبراير/ شباط الماضي، قال نتنياهو إنه لن يسمح للقوات السورية بالدخول إلى جنوب سورية، والمطلوب إخراجها من المنطقة كلها، وسيبقى الجيش الإسرائيلي في سورية وجبل الشيخ والمنطقة العازلة. وما بين 28 يناير/ كانون الثاني و26 أغسطس/ آب يمكن تتبع أربعة تصريحات لوزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس، صبّت في الاتجاه نفسه، وأكدت رفض حكومة الاحتلال الانسحاب من الأراضي السورية المحتلة قديماً وحديثاً.
ومن جديد الآراء والتحليلات الإسرائيلية المرتبطة بمصير الجنوب السوري مقالة ليوني بن مناحيم في معهد القدس، في 25 من الشهر الماضي (أغسطس/ آب)، وفيها تحذّر مصادر أمنية من العودة إلى اتفاقية فصل القوات عام 1974، فتلك تقيد العمليات العسكرية الإسرائيلية، ولا توفر الحماية لمستوطنات الجولان ولمحافظة السويداء، في 26 من الشهر نفسه، كتبت صحيفة هآرتس أن إسرائيل تعمل في سورية وفق مجموعة مبادئ، منها نزع السلاح من جنوب دمشق، وسيطرة إسرائيلية على ما وراء الحدود، وإشراف إسرائيلي على ممر آمن إلى السويداء. وفي 28 أغسطس، كتب عميد يغور في "معاريف" أن اتفاقية 1974 لم تعد تشكل مرجعا لأي اتفاق مستقبلي، ما يعني إغلاق الأبواب على عودة الأراضي السورية المحتلة إلى سيادة دمشق.
وفي كل الأحوال، يبدو التصور الإسرائيلي لمصير الجنوب السوري أنه موزّع على أربعة احتمالات: مزيد من التوسّع والقضم، منطقة عازلة تحت الهيمنة الأمنية الإسرائيلية، انفصال الجنوب أو بعض منه عن الدولة المركزية، أو خليط بين الاحتلال والعازل الأمني والانفصال... والله المستعان على سهم باشان.