الرئيسة \
تقارير \ جذور العقاب : التاريخ المنسي للعقوبات على سوريا
جذور العقاب : التاريخ المنسي للعقوبات على سوريا
28.05.2025
خليل البطران
جذور العقاب : التاريخ المنسي للعقوبات على سوريا
خليل البطران
الجزيرة
الثلاثاء 27/5/2025
يظن كثير من السوريين أن العقوبات الأميركية المفروضة على بلادهم بدأت مع اندلاع الثورة السورية في عام 2011، إلا أن الحقيقة أن جذور هذه العقوبات تعود إلى عام 1979، حين أدرجت الولايات المتحدة سوريا ضمن "قائمة الدول الراعية للإرهاب"، ما مهد لبداية مسار طويل من العقوبات السياسية والاقتصادية التي تعاقبت مع تعقّد العلاقات السورية الغربية.
لم تكن العقوبات تشمل الجهات والدول التي تتعامل مع النظام السوري، ما أتاح له الحفاظ على شراكات تجارية واقتصادية تساعده على الالتفاف على القيود المفروضة
ما قبل الثورة: عقوبات محدودة الأثر
في عام 2003، ومع الاجتياح الأميركي للعراق، تصاعد التوتر بين واشنطن ودمشق بشكل غير مسبوق؛ إذ فرضت إدارة الرئيس جورج بوش الابن قانون "محاسبة سوريا واستعادة سيادة لبنان"، الذي جاء كرد على اتهام النظام السوري بالتورط في دعم جماعات مناهضة للوجود الأميركي في العراق، والسماح بمرور المقاتلين الأجانب عبر أراضيه، إضافة إلى اتهامه بإيواء عناصر من نظام صدام حسين بعد سقوطه. كما ربطت واشنطن بين العقوبات واستمرار الهيمنة السورية على لبنان، والدعم المتواصل لحزب الله.
ومع أن هذه العقوبات حملت أبعادًا سياسية وأمنية، فإن أثرها الاقتصادي بقي محدودًا نسبيًّا، نظرًا لاعتماد الاقتصاد السوري آنذاك على الاكتفاء الذاتي في الزراعة والصناعة، إلى جانب شبكة علاقاته مع المعسكر الشرقي، وعلى رأسه الاتحاد السوفيتي، وبعض الدول المجاورة كتركيا.
ولم تكن تلك العقوبات تشمل الجهات والدول التي تتعامل مع النظام السوري، ما أتاح له الحفاظ على شراكات تجارية واقتصادية تساعده على الالتفاف على القيود المفروضة.
إن المشهد لا يكتمل دون الإشارة إلى سوء الإدارة والفساد الممنهج الذي مارسه النظام لعقود؛ فقد بدّد ثروات البلاد، واحتكر مقدراتها، وأجهض أي محاولات للتنمية الحقيقية التي كان من الممكن أن تحصّن سوريا في وجه الأزمات
من الثورة إلى العقوبات الشاملة
لكن المنعطف الأخطر جاء في عام 2011، مع انطلاق الحراك الشعبي في سوريا، الذي طالب بالإصلاح والعدالة والحرية فقابله النظام بقمع دموي مفرط، وسرعان ما حوّل أدوات الدولة إلى آلة لقمع السوريين، مستخدمًا كل أشكال البطش، من الاعتقال والتعذيب إلى القصف والتجويع.
نتيجة لذلك، بدأت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بفرض سلسلة جديدة من العقوبات الصارمة، استهدفت أركان النظام السوري ومصادر تمويله، وامتدت لتطول حتى الدول والكيانات المتعاملة معه. وبلغت هذه العقوبات ذروتها مع "قانون قيصر"، الذي استند إلى تسريبات ضابط صف سابق في الشرطة العسكرية السورية، تمكّن من تهريب آلاف الصور لضحايا التعذيب داخل معتقلات النظام، ما شكّل صدمة عالمية، ووفّر غطاءً قانونيًّا لتوسيع العقوبات بشكل غير مسبوق.
العقوبات والانعكاسات المجتمعية ما ميّز هذه العقوبات الجديدة أنها لم تعد موجهة فقط ضد النظام، بل شملت كل من يقدّم له أي نوع من الدعم الاقتصادي أو اللوجستي، ما زاد من عزلة سوريا، وعمّق المأساة الإنسانية والاقتصادية التي أصابت المدنيين بالدرجة الأولى، وليس الطبقة الحاكمة.
ما بين العقوبات وسوء الإدارة ورغم فظاعة أثر هذه العقوبات، فإن المشهد لا يكتمل دون الإشارة إلى سوء الإدارة والفساد الممنهج الذي مارسه النظام لعقود؛ فقد بدّد ثروات البلاد، واحتكر مقدراتها، وأجهض أي محاولات للتنمية الحقيقية التي كان من الممكن أن تحصّن سوريا في وجه الأزمات. لقد كانت سوريا تأكل مما تزرع وتلبس مما تصنع، لكنها تحوّلت إلى دولة منهكة، لا بسبب العقوبات وحدها، بل بسبب الاستبداد والنهج الأمني الذي طغى على كل مقومات الحكم الرشيد.
الواقع أن إزالة العقوبات، على أهميتها، لا يمكن أن تثمر إلا إذا اقترنت بإصلاحات داخلية حقيقية، تفتح الباب أمام بناء مؤسسات دولة حقيقية، وتعيد ثقة السوريين بوطنهم ومستقبلهم
بعد سقوط النظام: هل بدأت مرحلة جديدة؟
في ديسمبر/ كانون الأول 2024، وبعد مرور أكثر من 13 عامًا على انطلاق الثورة، شهدت سوريا حدثًا مفصليًّا تمثل في سقوط نظام بشار الأسد. وبعد نحو خمسة أشهر، أعلنت الولايات المتحدة في مايو/ أيار 2025 عن رفع العقوبات المفروضة على سوريا، وذلك بعد جهود دبلوماسية إقليمية ودولية، كان أبرزها تحركات المملكة العربية السعودية وبعض العواصم الأوروبية.
لكن يبقى السؤال الأهم: هل يكفي رفع العقوبات لبدء مرحلة جديدة؟
الواقع أن إزالة هذه العقوبات، على أهميتها، لا يمكن أن تثمر إلا إذا اقترنت بإصلاحات داخلية حقيقية، تفتح الباب أمام بناء مؤسسات دولة حقيقية، وتعيد ثقة السوريين بوطنهم ومستقبلهم.