الرئيسة \  تقارير  \  توم براك "بولدوزر" الشرق الأوسط الجديد

توم براك "بولدوزر" الشرق الأوسط الجديد

30.09.2025
حسين عبدالغني



توم براك "بولدوزر" الشرق الأوسط الجديد
حسين عبدالغني
جريدة عُمان
الاثنين 29/9/2025
في أقل من خمسة أشهر على تعيينه سفيرا للولايات المتحدة في تركيا ومبعوثا خاصا إلى سوريا ولبنان بات توم براك نجما سياسيا وإعلاميا مخيفا. كان هذا دليلا على خطورة الدور الذي أسند إليه في شق الطريق للشرق الأوسط الجديد الذي تسعى واشنطن لفرضه على العرب. تلقى نفر من المعلقين العرب بقصد أو عن غير قصد تصريحات باراك الاستفزازية بالطريقة نفسها التي تقوم على “شخصنة” السياسة واعتبروها دليلا على عنصرية الرجل وتنكره لأصوله العربية اللبنانية واستعلائه وجهله بالسياسة وشؤون المنطقة ومجيئه من عالم العقارات والتجارة وليس من عالم السياسة والدبلوماسية. وكل ذلك ليس فقط غير صحيح، ولكن مضلل إذ يبعد صانع القرار العربي والرأي العام العربي عن حقيقة أن اتهامه لصحفيين عرب في بيروت بالحيوانية وادعائه أنه لا يوجد عالم عربي بروابط مشتركة ولا توجد دولة عربية واحدة ينطبق عليها صفة الدولة الحقيقية بل هي مجموعة قبائل وقرى.. ليست شتائم مقصود بها إهانة العرب - رغم أنها مهينة وكاذبة ـ ولكن هي قصف نيراني نفسي كثيف تستخدم فيه السياسة الأمريكية أحد رجالها “كبولدوزر” لإزالة العوائق من الطريق. كاسح ألغام لا يأبه بأحد وهو يزيح الأنقاض على الجانبين. في تاريخ هيمنة الغرب على المنطقة كان هناك ألف براك جاؤوا وأدوا أدوارهم كاستعمار قديم أو جديد بعضهم في صيغة الرجل الطيب والبعض في صيغة الرجل الشرير، ولكن الدور واحد. توم براك هو لورانس العرب وكرومر واللنبي وكوكس وبريمر.. إلخ.. استعماريون يؤدون مهامهم ثم يذهبون لتقاعد مريح ويلعبون الجولف ويأتي غيرهم. المسألة ليست شخصية وبراك - ابن زحلة اللبنانية الذي يجيد العربية بطلاقة ليس جاهلا بشؤون المنطقة بل يكاد يكون خبيرا فيها وله حضور شخصي في العالم العربي منذ نحو٤٥ سنة وبنى علاقات تجارية وشخصية وسياسية وثيقة في الخليج خصوصا في السعودية وقطر والإمارات.
السمة الأولى لتصريحات توم براك أنها متتابعة ومتعمدة وتسير كلها في نسق أيديولوجي واحد وتستهدف إحداث تأثير نفسي واحد على المتلقين العرب. أي أنها أبعد ما تكون عن زلة لسان أو آراء شخصية. السمة الثانية هي أنها تصريحات صادمة مقصود منها إحداث الصدمة وإلقاء الرعب وتمهيد العرب للتغيرات الجيوسياسية القاسية التي ستحدثها أمريكا وحليفتها إسرائيل في الحدود والخرائط والنظم العربية في الشهور والسنوات القليلة القادمة في الشرق الأوسط الجديد.
يعرف براك قبل غيره أن ما قاله عن أن العرب عشائر وقبائل وقرى وليسوا دولا كاذبا من أساسه مثل كذبة يرددها وغيره ليل نهار من أن الصراع العربي الإسرائيلي بدأ بعد ٧ أكتوبر وطوفان الأقصى. يعبر براك هنا عن سياسة تهدر ما يزيد عن قرنين من النهضة العربية الحديثة في مصر والمشرق ونحو ٧ عقود من التحديث في الخليج وكأن العرب هم عشائر بدو هائمة في الصحراء.. لكن الغرض مرض وهو يريد بنفيه وجود دولة وطنية عربية، وبنفيه وجود رابطة القومية العربية التي تربط بين العرب من الخليج إلي المحيط أن يحول العرب من شعوب وأمة إلى خريطة مفتوحة لا أهل لها. خريطة ساكنة بلا حراك تستطيع أمريكا إعادة رسمها من جديد. وإذا كانت حدود الدول العربية عبر اتفاقية “سايكس - بيكو” كانت نتاج تقسيم النفوذ بين الإمبراطوريتين اللتين كانتا تحكمان العالم في العقود الأولى للقرن العشرين وهي بريطانيا وفرنسا فلما لا تقوم الإمبراطورية الأمريكية بالاستمتاع بقوتها وتستعرض عضلاتها وخضوع النظام العربي الرسمي لها فتقوم هي الأخرى برسم المنطقة من جديد وبناء خريطة جديدة على مقاس مصالحها.
لا يمكن فهم الدور المناط بتوم براك ضمن آخرين في تغيير الشرق الأوسط جيوسياسيا إلا بمراقبة تموضعه بين تركيا والمشرق العربي. فهو سفير واشنطن في تركيا ومبعوثها الخاص لسوريا ولبنان هذا الاستحواذ على ٣ مناصب ورغم المنافسة الحادة من مساعدته ماريان أورتاجوس للحصول على واحدة منها ليس صدفة ولا مهارة شخصية.
في نموذج مبالغة ترامب في الاحتفاء بالرئيس التركي أردوغان وتقديمه على نظرائه العرب حتى في اجتماع مخصص لقضية عربية “حرب غزة” إشارة سياسية، وفي نموذج منح سفيره في تركيا هذه الصلاحيات الواسعة لإعادة تشكيل المشهد الجيو سياسي في المشرق العربي خاصة في سوريا ولبنان والعراق إشارة أخرى.
التخطيط الأساسي مبني هنا على قناعة استراتيجية أمريكية إسرائيلية عن العدو والحليف. العدو بتعبيرات براك هو إيران وحزب الله وتعبيرات روبيو هو حماس وأنصار الله في اليمن والفصائل المقاومة المسلحة الشيعية في العراق القريبة من طهران والذين وصفهم براك بأفاعي ينبغي قطع رؤوسهم. والحليف هو إسرائيل وتركيا البلد الإسلامي السني الكبير عضو حلف الناتو المشرف على المشرق العربي والذي كان يحكمها عندما كانت هناك الخلافة أو السلطنة العثمانية. الهدف الرئيس هنا هو تحويل ما يرون أنه إنجاز عسكري على محور المقاومة إلى واقع استراتيجي مستقر لصالح الهيمنة المطلقة لواشنطن وإبعاد أي فرصة للصين وروسيا لكسب مناطق نفوذ فيها. وبالتالي لابد من الحيلولة دون تحول الخلافات في المصالح بين إسرائيل وتركيا إلى صراع ولا يتم ذلك إلا عبر عملية تقسيم الأدوار والمصالح وعملية توزيع المنافع والمكاسب عليهما. يتحرك الأمريكيون على أساس تبديد لحظة التنوير العربي بعد ضرب الدوحة من أن العدو هو إسرائيل وليس إيران وإعادة المنطقة مرة أخرى لمربع التحالف السني. الإسرائيلي ضد إيران الفارسية الذي عملت عليه في العقود الثلاثة الماضية ونجحت في بناء تحالف النقب العسكري الذي ساعد إسرائيل جزئيا في صد الصواريخ الإيرانية. تعتبر سوريا خصوصا هي معمل التجارب والنموذج الذي إذا نجح فيه براك من خلق صيغة توفق بين مصالح تركيا وإسرائيل في هذا البلد وعقد اتفاقيات أمنية بين دمشق وتل أبيب هو النموذج الذي سيتم تعميمه في المنطقة، هنا في المفهوم الأمريكي العرب لا قيادة لهم وتركيا ستقوم بدور القيادة سواء في تحويل الدول المحيطة بحدود مع إسرائيل مثل سوريا ولبنان إلى مناطق منزوعة السلاح بلا جيوش حقيقية تهدد أمنها وتكون جاهزة في مرحلة لاحقة لتوسيع الاتفاقات الإبراهيمية. تحدث ترامب مع أردوغان علنا على أنه الحاكم الفعلي لسوريا وأن الموجودين هناك مجرد وكلاء له. قام براك بحل الهاجس الزمني الأكبر لتركيا وهم الأكراد السوريون لصالح تركيا عندما أعلن أن واشنطن لا تريد دولة مستقلة للأكراد بل وهناك مؤشرات على أن الغرب ساعد في حل مشكلة حزب العمال التركي الذي أعلن نزع سلاحه والانخراط في العملية السياسية في تركيا كحزب مدني.
يبدي الأمريكيون مرونة الآن في منح الجيش التركي ما منعه عنه كثيرا من أسلحة متقدمة مثل الطائرات إف ٣٥ وتجاوز أزمة شراء تركيا لشبكة الدفاع الجوي الروسي إس ٤٠٠. تم تضييق الخناق علي إيران وتمت إعادة العقوبات الغربية وتتم محاصرة شراء النفط الإيراني وفي الوقت نفسه يتم الضغط على لبنان لنزع سلاح حزب الله حتى لو دخل في حرب أهلية جديدة. أنصار الله يوضعون الآن تحت ثلاثة ضغوط متشابكة في التخطيط الأمريكي والإقليمي الذي تشارك فيه بعض الدول العربية: غارات إسرائيلية مدمرة، والقوة العسكرية الممولة من الغرب والتي تحمل الولاء لعبد الله صالح أو إخوان اليمن تعهدت قبل أيام بشن هجوم شامل على أنصار الله وإسقاط نظامهم، ومجلس انتقالي في جنوب اليمن يطلب الاستقلال عن اليمن ومستعد لدفع الثمن السياسي المطلوب وهو الاعتراف بإسرائيل والانضمام الفوري للاتفاقيات الإبراهيمية. أما حماس والمقاومة فهناك نفوذ تركيا والوسطاء العرب الذي يؤمل أن يتكفل بفرض صيغة الاستسلام المذل المطروحة عليهم في خطة ترامب.