الرئيسة \
تقارير \ تركيا واليونان : التبادل السكاني والبناء القسري للهوية الوطنية
تركيا واليونان : التبادل السكاني والبناء القسري للهوية الوطنية
05.07.2023
لارا بيالون
تركيا واليونان : التبادل السكاني والبناء القسري للهوية الوطنية
لارا بيالون* - (أوريان 21) 29 حزيران (يونيو) 2023
الغد الاردنية
الثلاثاء 4/7/2023
قبل قرن من الآن، وبموجب أحكام معاهدة لوزان، أُجبر المسيحيون الأتراك على الرحيل إلى اليونان، بينما نزل المسلمون اليونانيون بالطريقة القسرية نفسها على الشواطئ التركية. وتحاول جمعيات في تركيا الحفاظ على ذكرى هذه الأقلية التي أسهم تهجيرها في بناء الهوية الوطنية.
* * *
قطعَت دونما، جدة غامزي سلفي، مرتين ساحل باليكسير، الذي يتجاوز طوله 100 كيلومتر على السواحل التركية، بحثًا عن مكان لتوطين عائلتها. حدث ذلك في العام 1923. وصلت دونما -المتوفاة الآن- إلى تركيا على متن قارب من جزيرة كريت في إطار عملية التبادل السكاني المتفق عليها بين أثينا وأنقرة. وتشرح غامزي: "كانت في الخامسة عندما وصلَت، وظلت تتذكر رحلة القارب، كانت مع والديها وشقيقها. وتتذكر خوف الناس والصراخ والدوس على بعضهم بعضا حين ظنوا أن الأتراك سيقتلونهم.. ماتت فتاة من البرد على متن القارب فألقوها في البحر.. وتتذكر جدتي أنهم أرادوا إعطاءها لعبة المتوفاة لكنها رفضت. ومنذ ذلك الحين، لم تحبّ اللعب بالدمى".
كان تبادل الأقليات الدينية، المعروف بالتركية بـ"المبادلة" (Mübadele)، جزءًا من معاهدة لوزان التي أنهت الحرب اليونانية التركية (1919-1922)، ورسمت حدود تركيا الحديثة. وشكل هذا الاتفاق أحد أكبر التبادلات السكانية في التاريخ. وتم بموجبه اقتلاع أكثر من مليون مسيحي أرثوذكسي من مواليد تركيا ونصف مليون مسلم من مواليد اليونان من أراضيهم التي عاشوا فيها على مدى أجيال، وأُعيد توطينهم وراء الحدود. لم يستشرهم أحد، وفقدوا جنسياتهم بين عشية وضحاها ليتم استيعابهم في البلد المجاور بعد أن أصبح الدين هو المعيار لتحديد من هو "يوناني" ومن هو "تركي". وهكذا، استقر المسيحيون الناطقون بالتركية والمسلمون الناطقون باليونانية في بلد جديد حيث كانوا في كثير من الأحيان غير قادرين على التواصل مع بقية السكان. وتم إفراغ مدن يونانية مثل ثيسالونيكي، وكريت، وكوس، وكافالا ودراما، حيث عاش المسيحيون والمسلمون معا لقرون، من الأخيرين. وعلى سواحل بحر إيجة ومرمرة، لم يعد هناك أي أثر لآلاف المسيحيين الأرثوذكس الذين سكنوا هذه الأراضي. وقد اعتمد هذا التصنيف على فكرة أن المسيحيين والمسلمين لم يعد بإمكانهم العيش معا.
"لماذا أتيتم إلى هنا"؟
في تلك الفترة، قدمت الصحافة هذا الإجراء على أنه محاولة لمنع حدوث مجازر ضد الأقليات بعد الحرب. ولكن كانت الغاية أيضا خلق تجانس سكاني في البلدين كان له تأثير على تشكيل الهوية والثقافة الوطنيتين. وتشرح إلينا ثيا، التي وُلد أجدادها في مدينة كيركلاريلي التركية، في شمال غرب البلاد: "كان اليونانيون يقولون لأجدادي: ’لماذا أتيتم إلى هنا إذا كنتم أتراكا‘؟ وقد أحبوا أثينا على الفور، على الرغم من أنها كانت مدينة معادية للغاية". وتضيف: "تطلب منهم الأمر أكثر من خمسة عشر عاما قبل أن يتمكنوا من عيش حياة كريمة من الناحية الاقتصادية. كانوا يعيشون في حي في ضواحي أثينا، ويتواصلون مع المهاجرين فقط".
يرأس عدنان كافور جمعية الكريتيين في إزمير، التي تبحث في تاريخ وثقافة هذه الأقلية: "لم يكن أحد يرغب في الزواج من نساء مسلمات أتين من اليونان. في البداية، نجحت المجموعة في مواصلة العيش من خلال التعاون. كان أفراد المجموعة يتزوجون من بعضهم بعضا ويربون أطفال بعضهم بعضا.. وبمجرد أن استطاعوا ذلك، تعلموا اللغة التركية ولم يعودوا إلى التحدث باليونانية. كانوا يخشون أن تستوقفهم الشرطة في الشارع وتسألهم عن هويتهم، على الرغم من أنهم كانوا رسميا مواطنين أتراكا"، لأنهم لا يتحدثون التركية.
يروي كافور كيف وصل أول قارب إلى إزمير من جزيرة كريت في 3 كانون الأول (ديسمبر) 1923: "عندما غادر، كان على متنه 1.027 شخصا، ووصل إلى تركيا وعلى متنه 1.028 شخصا. فقد وُلد كمال كورو على متن القارب، وهو ما تذكره بطاقة هويته". ويضيف: "ذهب والداه أولاً إلى أيفاليك لكنهما لم يجدا عملاً. ومن هناك ذهبا مشيا حتى إزمير، حيث عملا في الحقول مثل معظم المسلمين من أصل يوناني". ويدرس أعضاء هذه الجمعية مساهمة أولئك الذين وفدوا من جزيرة كريت قبل مائة عام في ثقافة سميرنا (الاسم القديم لإزمير). ويشرح كافور: "أسهمت النساء، على وجه الخصوص، في تطور المجتمع. لقد طورن العديد من الوصفات لأكلات نباتية تعتمد على أعشاب وجدنها في الشارع حيث لم يكن لديهن مال. واليوم، أصبحت هذه الوصفات جزءًا من مطبخ منطقة بحر إيجة".
صياغة هوية وطنية
أسهم هذا الترحيل القسري للسكان الذي يعتمد إلى حد كبير على عوامل دينية، في تشكيل فكرة معينة للأمة التركية، مع تهميش الأقليات التي لا تتوافق مع الصورة النمطية للمواطنين الأتراك والمسلمين، مثل الأكراد والأرمن والعلويين. وقد استُبعدت إسطنبول ومنطقة تراقيا اليونانية من الاتفاقية، لكن جزءا كبيرا من السكان اليونانيين للمدينة التركية فرّوا بعد مذابح العام 1955، بينما ما تزال أقلية مسلمة تعيش في تراقيا، وما تزال الحكومة التركية تطالب بحقوق هؤلاء باسم هذا الاتفاق نفسه.
بالنسبة لأسلي إغزيز، الأستاذة في جامعة نيويورك التي تدرس التبادل السكاني بين تركيا واليونان، كانت هذه المحاولة لإنشاء دولة متجانسة وهماً منذ البداية، لأن السكان المنقولين لم يكونوا يمثلون مجموعة متجانسة: "المسلمون الذين وصلوا إلى تركيا كانوا متنوعين جدا. ففي جزيرة كريت على سبيل المثال، اعتنق البندقيون الإسلام لتجنب الضرائب التي فرضتها الإمبراطورية العثمانية على أفراد الأديان الأخرى، وهو بُعد لا يُذكر أبدًا. هل يعود ذلك إلى طريقة تخيل وتفكير وإنشاء الدولة؟ هناك فكرة مفادها بأن هوية الأمة التركية سوف تنصهر تحته جميع الاختلافات".
ويشرح كافور: "أصل عائلتي من مقدونيا وكانت في الأصل مسيحية أرثوذكسية. استقرت في جزيرة كريت عندما أصبحت هذه جزءا من الإمبراطورية العثمانية، فاعتنقت عائلتي الإسلام. وبسبب ذلك، تم نقلنا إلى إزمير. جزء من عائلتي لم يغيروا دينهم وما يزالون يعيشون في جزيرة كريت. قبل بضع سنوات، التقيتُ بهم وتعرفت على أحفاد أحفادهم".
اندماج قسري
تذكّر إغزيز أن هؤلاء السكان وصلوا إلى تركيا في وقت كانت فيه الهوية الوطنية للبلاد قيد التشكل، وأنه خلال العقود الأولى، كان موضوع التبادل يُعد من المحرمات: "لن أعمم طبعًا، لكنني أعتقد أنه كان لديهم نوع من الهوس بإظهار أنه بإمكانهم الاندماج في النسيج القومي التركي". وبالفعل، توجد العشرات من الجمعيات الثقافية الخاصة بالـ"مبادلة" في تركيا، ويدعي العديد من أعضائها اصطفافهم وراء شخصية مصطفى كمال أتاتورك، مؤسس جمهورية تركيا، بل ويعرفون أنفسهم بأنهم "وطنيون"، حتى وإن كانوا على دراية بأصولهم العائلية المنحدرة من اليونان.
من جانبه، يشير المؤرخ أونور يلدريم إلى أن اختيار الدين كمعيار رئيسي للتبادل "لم يكن متوافقا مع الرؤية العلمانية" للدستور التركي، وتم رفضه كأساس "للوحدة الوطنية". ويأسف أنه بدلاً من ذلك، كانت هناك محاولة لخلق "هوية قومية خيالية ومفروضة"، من شأنها أن "توحد السكان خارج انتمائهم العرقي والإقليمي، مع استبعاد الأحداث التاريخية الأخرى من هذه السردية".
نظرًا لخصوصيات هذا التبادل، كان هؤلاء السكان يُعتبرون مواطنين أتراكا أو يونانيين بمجرد أن تطأ أقدامهم أرض الدولة التي تم نقلهم إليها، مما حرمهم من المزايا التي تعد اليوم ضرورية للاجئين. وبالتالي، وعلى مدى عقود، كان يُنظر إلى هؤلاء السكان على أنهم يد عاملة رخيصة تُستغل لإنعاش اقتصادات البلدين.
وتوضح إغزيز: "على الرغم من رفضهم في بادئ الأمر من قبل السكان المحليين، إلا أنهم كانوا في نظر الحكومة مواطنين أتراكا. وهناك جملة منسوبة إلى أتاتورك تقول: ’سوف تتحدثون معهم باللغة التركية. قد يجيبونكم باللغة اليونانية، لكنني أؤكد لكم أن الأجيال المقبلة، حتى لو تحدثتم معها باللغة اليونانية، سيردون عليكم باللغة التركية‘. كان ذلك مشروعا يهدف إلى إيجاد قاعدة لهوية وطنية. كانوا لاجئين، ولكن من دون أن يتم تعريفهم بأنهم كذلك".
*لارا بيالون: صحفية تقيم في إسطنبول. ترجم المقال من الفرنسية حميد العربي.