الرئيسة \
تقارير \ تحديات العدالة الانتقالية : الموازنة الصعبة بين العدالة والأمن في سوريا
تحديات العدالة الانتقالية : الموازنة الصعبة بين العدالة والأمن في سوريا
16.07.2025
فراس فحام
تحديات العدالة الانتقالية : الموازنة الصعبة بين العدالة والأمن في سوريا
فراس فحام
مركز الجزيرة للدراسات
الثلاثاء 15/7/2025
أطلقت السلطات السورية، في الثلث الأول من يونيو/حزيران 2025، سراح العشرات من الضباط والعناصر الذين عملوا سابقًا في صفوف "جيش بشار الأسد" وتم توقيفهم بعد سقوطه، ثم الإفراج عنهم دون محاكمات؛ مما أثار المزيد من الجدل حول مدى قدرة أو رغبة السلطات السورية بتطبيق العدالة الانتقالية، خاصة أن السلطة الحالية بادرت عندما كانت تعمل تحت اسم" إدارة العمليات العسكرية" إلى إجراء تسويات واسعة لعناصر وضباط سابقين ضمن جيش بشار الأسد بعيد فرار الأخير خارج البلد؛ حيث شملت هذه التسويات قيادات كبيرة منها قائد فرقة الحرس الجمهوري، اللواء طلال مخلوف، المتهم بارتكاب انتهاكات وفقًا لتقارير حقوقية.
وقد أثار هذا الإجراء جدلًا كبيرًا في الأوساط السورية حول مدى التزام السلطات بالعدالة الانتقالية، مع مطالبات بالإسراع في تطبيقها، لاسيما أن حوادث أخرى سابقة أكدت ضرورة الشروع في هذا الملف جديًّا ومنها الأحداث التي وقعت في الساحل السوري، شهر فبراير/شباط 2025، وتمثلت بهجوم لعناصر وضباط سابقين في نظام الأسد ضد قوات حكومية.
والجدير بالذكر أن مخرجات الحوار الوطني، في شهر فبراير/شباط 2025، تضمنت توصية واضحة للسلطة الانتقالية السورية بإطلاق مسار العدالة الانتقالية بناء على مطالب الشعب، وبناء على هذه التوصية تم تضمين الإعلان الدستوري، الصادر في مارس/آذار من العام ذاته، بندًا ينص على تشكيل الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية لتكون ركيزة أساسية في بناء الدولة، وبالفعل أعلنت الرئاسة السورية بعد قرابة شهرين عن تشكيل الهيئة برئاسة عبد الباسط عبد اللطيف، على أن يقوم بتشكيل الفريق ويشرف على صياغة النظام الداخلي للهيئة في فترة لا تتجاوز 30 يومًا، كما تم تأسيس هيئة خاصة بالمفقودين.
إلى وقت قريب، لم تظهر أي مؤشرات على إقلاع عمل هيئة العدالة الانتقالية؛ مما زاد في حالة القلق الشعبية حول إمكانية الإفلات من العقاب.
تبحث هذه الورقة في مسار العدالة الانتقالية والتصورات المطروحة حولها في الحالة السورية، وماذا حققت السلطات السورية من خطوات في هذا المسار، والتحديات التي تواجهه، بالإضافة إلى المآل المتوقع له.
أولًا: تصورات حول العدالة الانتقالية
يتسم مصطلح "العدالة الانتقالية"، الذي تبرز أهميته في الدول التي تشهد صراعات وحروب، بالمرونة الكبيرة كونه لا يستند إلى قواعد قانونية واضحة، ويختلف تطبيقه من بلد لآخر تبعًا للظروف. طرحت المنظمات الحقوقية والمراكز البحثية السورية تصورات عديدة حول الكيفية التي سيتم من خلالها تطبيق العدالة الانتقالية في سوريا، بعضها أعطى الأولوية لقبول الدعاوى الفردية، وبعضها الآخر زاوج بين العدالة والمصالحة، مع مطالبات بسنِّ قوانين عزل سياسي لأنصار "نظام بشار الأسد".
تبنَّت بعض الأطروحات الحقوقية النهج الشامل لآلية تطبيق العدالة الانتقالية، والتي تتضمن المساءلة الجنائية، وكشف الحقيقة وتقصي الحقائق، وجبر الضرر والتعويض، والإصلاحات المؤسسية، بحيث تتولى إدارة موحدة تتبع لهيئة العدالة الانتقالية الإشراف على التنفيذ بما يضمن تطبيق البنود المذكورة أعلاه بشكل متوازٍ(1).
أيضًا، أشارت بعض التصورات إلى إيجاد مقاربات خاصة بالحالة السورية نظرًا لخصوصيتها، سواء فيما يتعلق بطول فترة الصراع وما تخللها من جرائم وانتهاكات، أو نظرًا لتفكك شبه كامل لمؤسسات الدولة مع سقوط نظام الأسد وما يفرضه هذا الواقع من العمل على إعادة بناء المؤسسات بما فيها القضاء، مع اقتراح تشكيل لجان وهيئات حقوقية مساندة(2).
بالمقابل، صدرت دعوات حقوقية دولية للسلطات السورية بالاستفادة من التجارب الناجحة لآليات الأمم المتحدة ومنظمات الضحايا مثل المؤسسة المستقلة المعنية بالمفقودين في الجمهورية العربية السورية التابعة للأمم المتحدة، بما يكفل للضحايا والناجين في المجتمع السوري المشاركة الفاعلة في تصميم عملية العدالة الانتقالية وتحديد أهدافها، والمساهمة في تنفيذها(3).
عمومًا، تشهد الأوساط السورية نقاشات حول الآلية الأنفع لتطبيق العدالة الانتقالية، مع استحضار نماذج تاريخية مثل حالة الأرجنتين وتشيلي التي امتازت بتغليب جانب العفو على الاستقرار، أو حالة جنوب إفريقيا التي اتصفت بمنح العفو مقابل الاعترافات وتبيين الحقائق، أو ألمانيا الشرقية ورواندا اللتين غلَّبتا مفهوم المساءلة على العفو. مقابل هذا الجدل الحقوقي والشعبي، تبدو الإدارة السورية الجديدة متحفظة على الاستغراق في الحديث عن العدالة الانتقالية، فبعد مرور أكثر من شهر على تشكيل الهيئة الخاصة بهذا الشأن لم يتم الإفصاح عن النهج الذي ستتبعه، واكتفت فقط بنشر توعية بخصوص العدالة الانتقالية، وإطلاق موقع لتلقي الشكاوي(4).
لا يظهر حتى اللحظة أي أدلة على أن السلطات السورية اعتمدت أيًّا من التصورات السابقة، والواضح أن مراعاة الحساسية السياسية والمواقف الخارجية تؤثر لحدٍّ كبير في سلوك الحكومة المتعلقة بالعدالة الانتقالية، إضافة إلى اعتبارات ضبط الأمن. فعلى سبيل المثال، اعتقلت رموزًا "دينية سُنية" ساندت نظام الرئيس الأسد على غرار مفتي سوريا السابق، أحمد حسون، في حين جنَّبت تطبيق العدالة على رجال دين مسيحيين ودروز ومنهم من أظهر دعمه لنظام الأسد، وظهر في أكثر من مناسبة إلى جانب قادة ميليشيات مساندين للأسد، ومنهم من بارك التدخل العسكري الروسي لصالح نظام الأسد، أو أيَّد ميليشيات للنظام السابق مرتبطة بقاعدة حميميم الروسية.
على الرغم من أهمية هذه التصورات، لكن تبقى أقرب إلى النظريات المبدئية والتجارب التاريخية، نظرًا لعدم ربطها بشكل ما بالحالة السورية، وتحويلها إلى خطوات عملية تنطلق من معطيات الواقع السوري.
ثانيًا: خطوات الإدارة السورية في سياق العدالة الانتقالية
ركزت السلطة السورية الجديدة على إعطاء الأولوية للسلم الأهلي والاستقرار وإصلاح بعض المؤسسات؛ حيث أسست لجنة السلم الأهلي، شهر مارس/آذار 2025، بعد مدة قصيرة من الأحداث الأمنية التي اندلعت في الساحل السوري جرَّاء هجوم فلول نظام الأسد على مواقع للأمن والجيش السوريين، وما تخللها من سقوط قتلى مدنيين جرَّاء الاشتباكات بين الأطراف؛ حيث ضمَّت اللجنة مستشارًا سابقًا لبشار الأسد من "الطائفة العلوية"، في إشارة إلى الرغبة باحتواء التوتر المتصاعد في منطقة الساحل السوري ونزع فتيل أبعاده الطائفية(5).
أيضًا، عملت الإدارة السورية على استيعاب الفصائل المسلحة عمومًا ضمن مؤسستي الجيش والأمن، سواء كانت محسوبة في السابق على المعارضة، أو محلية محايدة كما هو في حالة السويداء. والأمر ذاته ينطبق على قسد التي تتفاوض معها الإدارة السورية على آلية اندماجها ضمن مؤسسات الدولة وخاصة الجيش، دون الحديث عن الحقبة الماضية، أو إشارة إلى دور العدالة الانتقالية في هذا المسار. وهذا مرده إلى إعطاء أولوية للاستقرار وقطع الطريق على تجدد النزاع المسلح فيما يبدو، وتغليب المصالحة السياسية والوطنية على الحقوق الفردية وجبر الضرر ومحاسبة مرتكبي الانتهاكات(6).
الملاحظ أن الحكومة السورية لم تتردد في التفاوض مع شخصيات لديها تحالف مع قيادات سابقة في نظام الأسد كما حصل مع الشيخ حكمت الهجري، أحد مشايخ عقل الدروز، الذي يدين له "مجلس السويداء العسكري" بالولاء، وهذا المجلس يضم في صفوفه ضباطًا سابقين في نظام الأسد. كما لجأت الحكومة أيضًا إلى قيادات سابقة في النظام بهدف إخماد حالات تمرد مثل التعاون مع فادي صقر، أحد قيادات الدفاع الوطني الذين ساندوا جيش بشار الأسد، على الرغم مما أحدثه هذا النهج من ردود أفعال شعبية وحقوقية، واتهامات للحكومة بأنها تتجاهل مسار العدالة الانتقالية(7).
إصرارًا على نهج الاحتواء وتعزيز المصالحة، فتحت وزارة الداخلية السورية الباب أمام عودة ضباط سابقين في حقبة الأسد إلى الوزارة، بمن فيهم الضباط العلويون، وجاء هذا التدبير بعد أكثر من شهرين على الهجمات التي نفذتها "فلول الأسد" التي تضم ضباطًا وعناصر من الساحل السوري ضد الأجهزة الأمنية الجديدة، في خطوة تعكس الرغبة بالحفاظ على الاستقرار خاصة في منطقة الساحل السوري عبر إشراك عناصر محلية في أجهزة الأمن. خاصة وأن الخطوة تمت بالتوازي مع إطلاق سراح العشرات من العناصر والضباط ومن "الطائفة العلوية" الذين عملوا سابقًا في جيش الأسد ودون محاكمات(8).
اتخذت الحكومة السورية الجديدة عدة خطوات لإصلاح جهاز القضاء، منها إلغاء "محكمة الإرهاب"، وإحالة العشرات من القضاة إلى التحقيق، وعزل العشرات من القضاة الذين عملوا سابقًا ضمن "محكمة الإرهاب" التي استخدمها نظام الأسد في تجريم عشرات الآلاف من السوريين، بالإضافة إلى القيام بتحقيقات مسلكية وإدارية بحق قضاة ضمن وزارة العدل. كما دعت الوزارة المتضررين من ممارسات أو انتهاكات القضاة المعزولين للتقدم بشكاوى ضدهم، وأكدت الوزارة التزامها باستكمال الإصلاح القضائي لتعزيز ثقة المواطنين بالمؤسسة(9).
تحرص الحكومة السورية على تحقيق نوع من التوازن بين المحافظة على الاستقرار، ومنع حصول توتر مع مكونات المجتمع السوري، وبين إبراز جهودها في ملاحقة مرتبكي الانتهاكات. لذا تقوم من حين لآخر بالكشف عن اعتقالها قيادات سابقة في نظام الأسد متورطة بالانتهاكات، بالتوازي مع عقد المصالحات والتفاهمات والعفو عن موقوفين، وكان آخر هذه القيادات التي تم اعتقالها وسيم الأسد الذي كان يشرف على ميليشيات متورطة بانتهاكات وتهريب للمخدرات. واللافت أن إعلان القبض عليه أتى بعد أسابيع من تأكيد الحكومة تعاونها مع قيادات سابقة في نظام الأسد مما أتاح لها إسقاط الأخير، في سياق تبرير ظهور "فادي صقر" إلى جانب مسؤولين حكوميين في العاصمة، دمشق(10).
بالمحصلة، هناك مطالبات حقوقية مستمرة للحكومة السورية بالعمل على سن قوانين للعدالة الانتقالية بعد تأسيس مجلس تشريعي، وعدم الاكتفاء بمعالجة هذا الملف عبر مراسيم تنفيذية، لأن التشريعات تضمن زيادة فاعلية هيئة العدالة الانتقالية، بالإضافة إلى المطالبة بتوفير الاستقلالية للهيئة عن طريق تشريعات خاصة تمنع وتحول دون التدخل في عملها، مع الالتزام بالشفافية في هذا المسار.
ثالثًا: التحديات والمستقبل
من الواضح أن مسار تطبيق العدالة الانتقالية في سوريا يعترضه العديد من التحديات، منها ما هو مرتبط بطبيعة العدالة الانتقالية ذاتها، ومنها ما هو متعلق بحساسية الوضع السوري لجهة طول أمد الصراع وتعدد الجهات المتدخلة فيه، إلى جانب خصوصية المجتمع السوري متعدد الأديان والطوائف. من أهم هذه التحديات:
انهيار المؤسسة الأمنية وصعوبات حفظ الأدلة: تواجه عملية العدالة الانتقالية إشكالية متعلقة بغياب الحقائق وطمس الكثير من الأدلة بعد هروب الكثير من القيادات الأمنية في النظام السابق خارج سوريا، مع حرق وثائق في بعض الأفرع الأمنية والسجون، كما أن بعض الوثائق تعرضت للعبث بها من قبل الجمهور الذي اندفع للدخول في بعض السجون بحثًا عن ذويهم المفقودين. لا يعني ما سبق أن جميع الوثائق والشهادات التي تثبت التورط بالانتهاكات أو تُبيِّن مصير المفقودين قد أُتلفت، لكن جمع ما تبقى منها واستخراج المعلومات منه لن يكون عملية سهلة(11).
عدم إصلاح المؤسسات: تطبيق العدالة الانتقالية يتطلب وجود مؤسسات لديها الحد الأدنى من الاستقرار، خاصة القضائية، وهذا يعترضه عوائق عديدة، أهمها: أن هناك مؤسسات انهارت بالكامل بحكم ارتباطها بالنظام السابق وليس بالدولة، ويتم بناؤها من نقطة الصفر مثل الجيش والأمن. كما أن إصلاح القضاء يتطلب وجود كوادر لم تكن متورطة بالانتهاكات لصالح النظام السابق، وهذا يحتاج فترات من الزمن؛ مما يعني طول المدة الزمنية الفاصلة قبل الشروع في تطبيق العدالة الانتقالية. وهنا الإشارة إلى أن إصلاح المؤسسات مرتبط باستكمال رفع العقوبات، وقد قطعت شوطًا جيدًا هذه العملية، وتوفير التمويل اللازم بعد إطلاق مشاريع استثمارية واستكمال بناء المؤسسات، خاصة في حالة سوريا التي انهار فيها الجيش والأمن وكان القضاء حينها أداة بيد النظام السابق لا يتمتع بأي استقلالية.
الاعتبارات العرقية والطائفية: يمتاز المجتمع السوري بتنوع طائفي وعرقي وعشائري. ونظرًا للحرب التي عصفت بالبلاد على مدار 14 عامًا ارتفعت الحساسية بين المكونات الشعبية المختلفة، ومن الواضح أن الإدارة السورية تراعي هذه الحساسية ويظهر هذا من خلال محاولة إشراك شخصيات في مسار السلم الأهلي والعدالة الانتقالية، وإن كانت تتبع للنظام السابق أو لديها علاقات مع رموزه، على غرار خالد الأحمد أو فادي صقر. أو من خلال تجنُّب الاعتقالات لقيادات في النظام السابق معروف عنها تورطها في الانتهاكات، مثل "يعرب زهر الدين"، وهو نجل "عصام زهر الدين"، الضابط السابق في الحرس الجمهوري للنظام السابق، وكان مرتبطًا أيضًا بالمكتب الأمني التابع للفرقة الرابعة التي كان يديرها شقيق بشار الأسد. وقد امتنعت الحكومة الجديدة عن اتخاذ إجراءات بحقه، على ما يبدو لتسهيل إنجاز تفاهمات مع الطائفة الدرزية في الجنوب، ويمكن القول: إن الأمر ذاته ينطبق على ضباط سابقين آخرين من محافظة السويداء.
سياقات التغيير في سوريا: حصل التغيير في سوريا بعد صراع مسلح طويل، ولم تكتمل فصوله بعد؛ حيث لا تزال مناطق تحت سيطرة فعلية من قسد، وأخرى لم تفرض السلطة الجديدة فيها سيادتها بالكامل كما في حالة السويداء، وهذا بطبيعة الحال يحول دون استكمال إجراءات العدالة الانتقالية خاصة إذا ما أضفنا له الخلفية "الإسلامية" التي تنتمي لها الإدارة السورية الحالية، والحساسية الدولية تجاهها، ورغبتها بعدم زيادة هذه الحساسية من خلال الإصرار على فرض سيطرتها بالقوة على بعض المناطق، خشية أن يتم تفسير الأمر على أنه عنف طائفي.
الموازنة بين الأمن والعدالة: شهدت الأشهر الستة الأولى من عمر الحكم الجديد تباينًا في الأولويات، بين المتضررين الذين يتوقعون من السلطة الجديدة إنصافهم والاقتصاص لمرتكبي الانتهاكات، وبين السلطة التي تسعى للموازنة بين الاعتبارات الأمنية والسياسية وتحقيق العدالة. إن تقديم الحكومة السورية اعتبارات السلم الأهلي والاستقرار على باقي عناصر العدالة الانتقالية، يؤكد أنها ستمضي في العمليات الأمنية ضد خلايا تتبع للنظام السابق، لكن ليس لدوافع الاقتصاص منها وإنما لاعتبارات تتعلق ببسط الأمن والاستقرار وضمان عدم تنفيذها هجمات جديدة، وهذا لا يمنع أنها ستتيح المجال أمام هيئة العدالة الانتقالية التي تم تشكيلها لتتقصَّى الحقائق وتجمع أدلة لمحاكمة بعض المتورطين بانتهاكات، لكن دون أن تؤدي هذه الجهود إلى نسف الخطوات التي حققتها الحكومة في سياق استقطاب باقي المكونات السورية لصالح وحدة البلاد، خاصة في ظل وجود مكونات تلوِّح بمطلب الفيدرالية أو الحماية الدولية مع كل ضغط تتعرض له. وعلى الأرجح ستعمل الحكومة على إتاحة المجال أمام محاكمة قيادات أمنية وزعماء ميليشيات محسوبين على النظام السابق، لأن محاكمة مثل هذه الشخصيات لن تكون محل جدل كبير، كما ستسهم في تهدئة المزاج الشعبي الذي عبَّر في أكثر من موضع عن استيائه من المسار الحالي للعدالة الانتقالية. ومن المتوقع أن تقتصر هذه الإجراءات على بعض المرتبطين بالنظام السابق دون أن تشمل أطرافًا أخرى تسعى الحكومة لاحتوائها، سواء كانت تشكيلات عملت سابقًا مع المعارضة السورية، أو مكونات عرقية وطائفية.
ومن التحديات التي ستظل تواجه الإدارة الجديدة وقد تتطلب منها تغيير النهج المتبع حاليًّا في مسألة العدالة الانتقالية، الخشية من تآكل شعبيتها تدريجيًّا، وهي التي حازت ما يشبه الشرعية الشعبية الثورية كونها قادت عملية إسقاط نظام بشار الأسد، وكذلك الخشية من ازدياد منسوب الاضطراب المجتمعي، نظرًا لوجود توجه لدى بعض ذوي الضحايا والمفقودين للقيام بأعمال انتقام يعتقدونها مبررة بسبب ما يرونه "تقصيرًا" من السلطة في تطبيق العدالة ومحاكمة المسؤولين عن جرائم النظام السابق.
خاتمة
إن طبيعة تكوين المجتمع السوري العرقي والإثني، إضافة إلى الآثار التي نجمت عن سنوات صراع طويلة منذ عام 2011، وما تخللها من تدخلات دولية إلى جانب أطراف الصراع، واستمرار الرغبة الدولية بالتدخل في الشأن السوري لاعتبارات مصلحة وأمنية، كلها عوامل جعلت من الحالة السورية ذات خصوصية لا يمكن معها اعتماد نموذج تاريخي محدد من نماذج تطبيق العدالة الانتقالية دون أخذ الواقع السوري بالاعتبار، وقد تلجأ السلطات لتغليب أولوية جانب السلم الأهلي على بقية الجوانب، رغم أن الضرورة لمحاسبة المتورطين بالانتهاكات، ستبقى دائمًا حاضرة.
على العموم، إن خصوصية الحالة السورية لا تبرر عدم إعلان الدولة خطة واحدة لتطبيق العدالة الانتقالية، وترك المسار لاجتهادات السلطات التنفيذية وفق اعتبارات الواقع، وغالبًا ستجد الإدارة السورية نفسها بعد فترة من الزمن أمام مفترق طرق، فإما أن تستمر بالنهج ذاته وتغامر بحالة الاستقرار والتأييد الشعبي، أو تذهب باتجاه بلورة نموذج واضح لتطبيق العدالة الانتقالية، مع سَنِّ قوانين يتم الاستناد إليها لإضفاء طابع قانوني على هذا النهج.
مراجع
1.رؤية الشبكة السورية لحقوق الإنسان عن العدالة الانتقالية في سوريا، الشبكة السورية لحقوق الإنسان، 17 أبريل/نيسان 2025، (تاريخ الدخول: 18 يونيو/حزيران 2025)، https://short-link.me/11bky
2.العدالة الانتقالية وأهمية إنضاج المقاربة السورية، مركز الحوار السوري، 26 ديسمبر/كانون الأول 2024، (تاريخ الدخول: 18 يونيو/حزيران 2025)، https://short-link.me/10VtA
3.هيئة العدالة الانتقالية السورية: فرصة ضائعة لعدالة تركز على الضحايا، هيومن رايتس ووتش، 19 مايو/أيار 2025، (تاريخ الدخول: 18 يونيو/حزيران 2025)، https://short-link.me/15kPY
4.خطة للتوعية ومنصة لشكاوى العدالة الانتقالية في سوريا، الجزيرة نت، 23 مايو/أيار 2025، (تاريخ الدخول: 19 يونيو/حزيران 2025)، https://short-link.me/11bsS
5.خالد الأحمد.. مستشار الأسد وصديق الشرع ورجل السلم الأهلي، الجزيرة نت، 28 مايو/أيار 2025، (رابط الدخول: 19 يونيو/حزيران 2025)، https://aja.ws/munazu
6.وزير الدفاع السوري: التقينا نحو 130 فصيلًا وحققنا نجاحًا في عملية دمجهم ضمن الوزارة، قناة الجزيرة، 27 مايو/أيار 2025، (تاريخ الدخول: 20 يونيو/حزيران 2025)، https://short-link.me/11bOD
7.فادي صقر متهم بمجزرة التضامن أثار التصالح معه حفيظة السوريين، الجزيرة نت، 11 يونيو/حزيران 2025، (تاريخ الدخول: 20 يونيو/حزيران 2025)، https://aja.ws/6z030q
8.وفقًا لمصادر في وزارة الداخلية السورية، يوجد توجه لدى الدولة السورية لاحتواء أبناء الطائفة العلوية لتقليص حجم الناقمين بسبب الشعور بالتهميش، وبالتالي قطع الطريق على عمليات مسلحة جديدة، مقابلة أجراها الباحث مع المصادر، في 20 يونيو/حزيران 2025.
9.وزارة العدل السورية تعلن مرسومًا رئاسيًّا يعزل قضاة محكمة الإرهاب الملغاة، موقع تليفزيون سوريا، 13 يونيو/حزيران 2025، (تاريخ الدخول: 21 يونيو/حزيران 2025)، https://short-link.me/15lrF
10.جدل غير مسبوق في سوريا بسبب قضية العفو وفادي صقر، عربي 21، 11 يونيو/حزيران 2025، (تاريخ الدخول: 21 يونيو/حزيران 2025)، https://short-link.me/11b-j
11.من المسؤول عن إتلاف المستندات والوثائق في الأفرع الأمنية السورية، العربي الجديد، 12 ديسمبر/كانون الأول 2024، (تاريخ الدخول: 22 يونيو/حزيران 2025)، https://short-link.me/11h-e