الرئيسة \  تقارير  \  بين الحاجة الوطنية والمنطق السياسي.. ضرورة قيام معارضة وطنية سورية

بين الحاجة الوطنية والمنطق السياسي.. ضرورة قيام معارضة وطنية سورية

13.07.2025
بشار الحاج علي



بين الحاجة الوطنية والمنطق السياسي.. ضرورة قيام معارضة وطنية سورية
بشار الحاج علي
سوريا تي في
السبت 12/7/2025
في ظل التحولات المتسارعة التي تشهدها سوريا ما بعد 8 ديسمبر 2024، تبرز الحاجة الملحة لإعادة النظر في شكل وأدوات العمل السياسي المعارض، بعيدًا عن الأطر القديمة والاصطفافات التي استُنفدت أغراضها.
لا يمكن للوضع السوري الراهن، بكل ما يحمله من تحولات داخلية وإقليمية ودولية، أن يُدار بأدوات الماضي، ولا يمكن لمفهوم “المعارضة” أن يظل مجرد ردّ فعل على النظام، أو مجرد منابر احتجاجية موسمية أو انفعالية، بل بات لزامًا التفكير في بناء معارضة وطنية سورية حقيقية، ناضجة، مسؤولة، تُعبّر عن المصلحة العامة العليا وتقدّم مشروعًا وطنيًا بديلاً للدولة، لا بديلاً فقط للسلطة.
يغدو بناء معارضة وطنية قادرة على ترسيخ منطق الدولة، لا مجرد استبدال الوجوه أو تكرار الخنادق، ضرورة تتجاوز الموقف إلى المنهج، وتتطلب إعادة صياغة للخطاب والموقع والوظيفة.
أولًا: مأزق النقد المتشظي وغياب الإطار الجامع
عانى الفضاء السياسي السوري طوال السنوات الماضية من حالة نقد مشتّت، تتوزع بين شخصنة المواقف، أو تكرار الخطابات، أو اللجوء إلى محاكمات أخلاقية لا تصنع مشروعًا ولا تبني ثقة. المشكلة هنا ليست في النقد ذاته، بل في غياب الإطار الذي يُحوّل النقد إلى مراجعة، والمراجعة إلى رؤية، والرؤية إلى فعل منظم. لقد تحوّل النقد، في كثير من الأحيان، إلى صوت بلا جهة، ووجع بلا أفق، يُغذّي القطيعة أكثر مما يخدم القضية.
في هذا السياق، يغدو بناء معارضة وطنية قادرة على ترسيخ منطق الدولة، لا مجرد استبدال الوجوه أو تكرار الخنادق، ضرورة تتجاوز الموقف إلى المنهج، وتتطلب إعادة صياغة للخطاب والموقع والوظيفة.
ثانيًا: ما المقصود بالمعارضة الوطنية؟
المعارضة الوطنية ليست مجرد معارضة “من الداخل” أو “المقبولة دوليًا”، كما يُروّج أحيانًا، بل هي التي تُبنى على أساس المصلحة الوطنية العامة، وتملك القدرة على الدفاع عن مشروع الدولة، لا على تحطيمها أو ابتزازها.
إنها معارضة:
تعترف بوجود سلطة انتقالية أو مؤقتة لكنها تسعى لضمان أن تكون خاضعة للمساءلة والرقابة الشعبية.
تتجاوز الاصطفافات الأيديولوجية والطائفية والمناطقية.
تؤمن أن الطريق إلى سوريا الجديدة لا يمر عبر التبعية للخارج، بل بالشراكة المتوازنة معه، واستعادة زمام المبادرة داخليًا.
هنا نستدعي ما قاله خوان لينز في تحليله للنظم الانتقالية: “المعارضة الحقيقية لا تكتفي بأن ترفض النظام، بل تهيئ لنظام جديد عبر بناء الثقة، والمأسسة، والاستعداد للحكم”. وهو ما لم يتحقق بعد في السياق السوري.
ثالثًا: من نقد النظام إلى حراسة الفكرة الوطنية
كثير من الأصوات المعارضة، حتى اللحظة، ما تزال تمارس نقدًا للنظام السابق، دون أن تقدم تصورات واضحة لما بعده، بينما التحدي الحقيقي في هذه المرحلة الانتقالية لا يكمن فقط في انتقاد ما انتهى، بل في حراسة الفكرة الوطنية من التشظي، ومن مخاطر الفوضى، أو الاستتباع، أو البدائل الهشّة.
وهنا تبرز أهمية وجود كيان معارض وطني قادر على:
تمثيل الكتلة الوطنية السورية التي لا تجد نفسها في مشاريع التجزئة أو الهيمنة.
إنتاج سردية جامعة تتحدث باسم السوريين، لا باسم جهات أو هويات تحت أو فوق وطنية أو أجندات.
الدفاع عن حقوق الأفراد والمجتمع، ضمن رؤية تُعلي من شأن السيادة والمؤسسات.
المجتمعات المنقسمة لا تستقيم إلا بوجود قوى سياسية تتفق على قواعد اللعب الديمقراطي، حتى حين تختلف في السياسات، وهذا ما تفتقر إليه الحالة السورية حتى اللحظة.
رابعًا: نحو بناء مظلة سياسية تمثل السوريين
لبناء مثل هذه المعارضة، لا بد من:
إرادة تأسيسية جديدة، لا تبحث عن اعتراف خارجي أولًا، بل عن شرعية داخلية تقوم على التمثيل الحقيقي للمجتمع.
إطار سياسي جامع، يتجاوز التكتلات، ويفتح الباب أمام إعادة صياغة الحياة السياسية السورية على أسس المشاركة، والمحاسبة، والتنوع.
دعم ثقافي ومجتمعي، يرسّخ فكرة أن العمل السياسي ليس حكرًا على النخب، بل مسؤولية جماعية، وأن الانخراط فيه هو تعبير عن الانتماء لا عن الخصومة.
في هذا الإطار، يُستأنس بما كتبه الفيلسوف السياسي جون رولز عن “المصلحة العامة العليا”، حيث شدد على أن المجتمعات المنقسمة لا تستقيم إلا بوجود قوى سياسية تتفق على قواعد اللعب الديمقراطي، حتى حين تختلف في السياسات، وهذا ما تفتقر إليه الحالة السورية حتى اللحظة.
خامسًا: من مشروع إسقاط النظام إلى مشروع بناء الدولة
لقد آن الأوان للانتقال من مشروع “إسقاط النظام” إلى مشروع بناء الدولة.
ليس لأن الأول لم يكن مشروعًا محقًا، بل لأن أي عمل سياسي يجب أن يتجدد بأدواته وأهدافه عند كل مرحلة، فالسؤال اليوم لم يعد: “من يحكم سوريا؟” بل: “كيف تُحكم سوريا؟” و”كيف نضمن ألّا تعود بلادنا إلى الحلقة المفرغة من السلطوية أو الفوضى؟”
إن المعارضة الوطنية، في هذا السياق، ليست طرفًا يبحث عن دور، بل ضرورة وطنية ملحّة لضمان بقاء سوريا كدولة، وتثبيت ركائزها في ظل عالم متغيّر لا يعترف إلا بالمنظومات المستقرة أو القابلة للتعريف السياسي.
خاتمة: معارضة للعقل والوجدان معًا
بين عقل الدولة ووجدان المجتمع، يجب أن تُولد المعارضة الوطنية السورية، لا بوصفها استجابة ظرفية، بل كفكرة مستمرة. نحن لا نحتاج إلى معارضة غاضبة فقط، بل إلى معارضة عاقلة، ذات مشروع، تملك تصورًا لما بعد اللحظة، وتؤمن أن قوة الموقف لا تُقاس بحدّته، بل بقدرته على إحداث الفرق في الزمن الصحيح.
ولعل أجمل ما يمكن أن تتركه هذه اللحظة التاريخية هو أن نرى السوريين وقد تجاوزوا محنهم، لا ليبنوا سلطات جديدة، بل ليبنوا وطنًا يستحقهم.