الرئيسة \
تقارير \ بين التباين والتقاطع .. مستقبل العلاقات الفرنسية التركية في سوريا
بين التباين والتقاطع .. مستقبل العلاقات الفرنسية التركية في سوريا
12.06.2025
مالك الحافظ
بين التباين والتقاطع .. مستقبل العلاقات الفرنسية التركية في سوريا
مالك الحافظ
العربي الجديد
الاربعاء 11/6/2025
منذ سقوط نظام الأسد، لم تعد خارطة التحالفات في سوريا مرهونة فقط بتموضع الفاعلين التقليديين، بل بدأت ترتسم وفق خطوط تماس إقليمية ودولية مغايرة، تحاول فيها قوى أكثر تقليدية وتجذرا في الملف السوري كتركيا و قوى مثل فرنسا أقل حضوراً بالمقارنة مع نفوذ أنقرة؛ أن تعيد صياغة حضورها بما يتجاوز المنطق العسكري إلى أشكال ناعمة من النفوذ المؤسسي والسياسي والاقتصادي. هنا، يصبح السؤال حول طبيعة العلاقة بين أنقرة وباريس أكثر إلحاحاً ومتصلاً فيما إذا كنا أمام احتمالية تنسيق قائم على تقاطع المصالح، أم أن التنافس الصامت أو العلاقات المتذبذبة يمكن أن تتحول إلى صراع علني على إعادة تشكيل المجال السوري؟
مسار العلاقات الفرنسية–التركية عبر البوابة السورية
خلال السنوات القليلة الماضية، اتخذت العلاقات الفرنسية–التركية طابعاً تنافسياً في عدد من الملفات الإقليمية، من بينها الساحة السورية. وقد ظهر هذا التباين بشكل واضح منذ انخراط فرنسا ضمن التحالف الدولي ضد تنظيم "داعش" في شمالي سوريا بدءاً من عام 2014، حيث اصطدمت المقاربة الفرنسية بموقف تركي معترض على دعم التحالف لـ"وحدات حماية الشعب" الكردية. بالنسبة لأنقرة، مثّل ذلك الدعم تهديداً مباشراً لأمنها القومي، بالنظر إلى ارتباط تلك الوحدات بـ"حزب العمال الكردستاني" المصنّف كتنظيم إرهابي لدى تركيا وعدد من الدول الغربية. وعلى هذا الأساس، شنت القوات التركية إلى جانب فصائل سورية متحالفة معها، عمليات عسكرية متكررة ضد مواقع "الوحدات"، وهو ما قوبل بتحفظات فرنسية علنية، عكست اتساع الفجوة بين رؤيتي البلدين لأمن المنطقة وطبيعة الشراكات الميدانية فيها.
تاريخياً، لم تكن العلاقات التركية–الفرنسية في سوريا ذات طابع تقليدي. ففرنسا، التي تحمل إرثاً استعمارياً في المشرق، تنظر إلى سوريا كمساحة ذات حمولة رمزية وجيوثقافية. في المقابل، ترى تركيا في سوريا امتداداً لأمنها القومي ومسرحاً مركزياً في استراتيجيتها الإقليمية.
وعلى الرغم من أن بوادر تهدئة محدودة بين أنقرة وباريس بدأت بالظهور منذ عام 2021، لا سيما في أعقاب "مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة"، فإن التحولات الجيوسياسية الكبرى، وعلى رأسها الحرب في أوكرانيا، دفعت الطرفين إلى تعزيز موقعيهما داخل الناتو، ما أعاد تشكيل قنوات تفاهم جزئي بينهما في ملفات مختلفة، بما في ذلك سوريا.
غير أن ذلك التقارب النسبي لم ينجح لاحقاً في تجاوز منطق الضرورة الظرفية إلى بناء ثقة استراتيجية مستدامة. ظلّ كل طرف يراقب الآخر، من دون أن تتبلور بينهما آلية واضحة لتنسيق فعلي، لا في شرق المتوسط، ولا في ليبيا، ولا حتى داخل مؤسسات الحلف الأطلسي نفسه. التباينات حول توزيع الأدوار وشكل النفوذ، وتقاطعات المصالح في مناطق النفوذ القديمة–الجديدة، سرعان ما أطاحت بالهدوء المؤقت، لتعيد العلاقات إلى مسافة باردة.
ومع انحسار الدور الروسي إثر سقوط الأسد، وجدت الدولتان نفسيهما أمام فراغ سياسي وأمني مغرٍ، لكنه بالغ الحساسية، وسط مؤشرات متنامية على تقاطع مصالح جزئية، خصوصاً في مجالات إعادة الإعمار، وإعادة ضبط الأدوار الإقليمية لإيران وروسيا ضمن المعادلة السورية.
في الثامن من شباط/فبراير الماضي، أعرب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، خلال اتصال هاتفي مع نظيره التركي رجب طيب أردوغان، عن رغبته في وضع أجندة إيجابية للعلاقات مع تركيا.
الرئيس الفرنسي أشار في ذلك الوقت إلى أن بلاده تولي أهمية لعملية انتقالية شاملة تحترم جميع شرائح المجتمع، مؤكداً أن بلاده ملتزمة وحدةَ وسيادة سوريا.
وفي مطلع نيسان/أبريل الماضي وصل وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، إلى العاصمة الفرنسية باريس في زيارة رسمية يُنظر إليها كمحطة جديدة في مسار العلاقات التركية الفرنسية التي شهدت توترات خلال السنوات الماضية.
وجاءت الزيارة في سياق مساعٍ متبادلة لتهدئة الخلافات وإعادة الزخم للتواصل الدبلوماسي بين أنقرة وباريس، بعد سلسلة من الخطوات التي عكست رغبة الجانبين في تحسين العلاقات مؤخرا.
والتقى فيدان بنظيره الفرنسي وزير الدولة لشؤون أوروبا والخارجية جان نويل بارو، حيث شملت محادثاتهما تعزيز العلاقات الثنائية ومناقشة تطورات إقليمية ودولية ملحة، كان في مقدمتها الملف السوري.
باريس وأنقرة في لحظة اختبار سوري
العلاقة بين باريس وأنقرة في سوريا تتحرك على إيقاع الضرورات أكثر من كونها تعبيراً عن توافق استراتيجي، فبين لحظات التوتر والانفراج المحدود، تتبدّى مقاربات الطرفين بوصفها محاولات متوازية لإعادة التموضع، لا انخراطاً ضمن شراكة واضحة.
فرنسا، التي لم تنخرط عسكرياً على الأرض كما فعلت تركيا، تحاول الحفاظ على موطئ قدم ولو رمزي في الملف السوري من خلال نشاطها الدبلوماسي في بعض المحافل الغربية، ومن خلال مشاركتها في النقاشات الأوروبية المتصلة بمستقبل الإعمار وعودة اللاجئين؛ لكنها لا تملك أدوات نفوذ حاسمة داخل الميدان السوري.
أما تركيا، فوجودها الميداني الواسع يرتكز على منظومة من التفاهمات الأمنية والعسكرية، مدعومة بترتيبات لوجستية واقتصادية وإدارية. وفي ضوء الانكفاء الأميركي، تسعى أنقرة لإعادة تسويق دورها بوصفه عامل استقرار، من دون أن تُظهر استعداداً للتراجع عن محدداتها الأمنية في التعامل مع الملف الكردي أو مع ترتيبات ما بعد الأسد.
في هذا السياق، قد لا يبدو أن الجانبين بصدد تطوير تنسيق مباشر أو تقاسم أدوار، بقدر ما يحاول كل طرف تفادي التصادم مع الآخر، لا سيما في الملفات المتداخلة مثل ملف اللاجئين، وضبط الحضور الإيراني والروسي في المعادلة الانتقالية. ومع بروز السلطة الانتقالية السورية الجديدة، تعيد باريس وأنقرة حساباتهما، كل من موقعه، من دون أن تتقاطع رؤيتهما سوى في الحد الأدنى من المصالح الظرفية.
رغم أن ملف اللاجئين السوريين لا يُعد موضوعاً محورياً معلناً في العلاقة التركية–الفرنسية، إلا أنه يظل حاضراً كعنصر خفي في التفاعلات الثنائية بين البلدين، خصوصاً في ظل ارتباطه المباشر بالأمن الإقليمي والسياسات الأوروبية للهجرة. فرنسا، بصفتها دولة فاعلة في هندسة السياسات الأوروبية العامة للهجرة، تولي اهتماماً خاصاً بمسارات العودة، وضبط الحدود، وتنسيق الجهود مع الدول الإقليمية، ومن ضمنها تركيا.
أما تركيا، التي تستضيف أكبر عدد من اللاجئين السوريين، فإنها تنظر إلى هذا الملف من زاوية مركّبة تتصل بضرورات الاستقرار الإقليمي، وإعادة تأهيل المناطق السورية، والتعامل العملي مع المتغيرات على الأرض. ومن هذا المنظور، يمكن للعلاقة بين باريس وأنقرة أن تفتح مجالاً لتنسيق عقلاني يوازن بين الحاجة إلى ضمان العودة الطوعية الآمنة للاجئين من جهة، والحفاظ على الاستقرار السياسي–المجتمعي في المنطقة من جهة أخرى.
وفي تحليل نشره مركز Esthinktank في بروكسل خلال أيار/مايو الماضي، جرى تسليط الضوء على التعقيد الكامن في العلاقة بين تركيا والاتحاد الأوروبي – ومن ضمنه فرنسا – خاصة فيما يتعلّق بملف اللاجئين السوريين. فقد أشار التحليل إلى أن التعاون الأوروبي مع أنقرة بشأن قضايا الأمن والهجرة يظل رهيناً بمعادلة دقيقة من الثقة والبراغماتية، إذ يرى الأوروبيون، ومنهم صانعو القرار في باريس، أن الدور التركي لا يمكن فصله عن اعتباراتهم المتعلقة بالحوكمة والحقوق، في حين تنظر تركيا إلى ملف اللاجئين بوصفه عنصراً سيادياً يتداخل مع أمنها الداخلي ودوائر نفوذها الإقليمي. هذه التباينات تُظهر كيف يمكن لملف اللاجئين أن يتحول من نقطة خلاف إلى أرضية تفاهم إذا ما أُعيد تأطيره ضمن مسار تفاهمات إقليمية–أوروبية جديدة.
ومع نشوء السلطة الانتقالية الجديدة في سوريا، تتزايد الحاجة إلى بلورة مقاربات مشتركة تضمن احترام كرامة اللاجئين، وتُراعي المعايير الدولية، من دون أن تتحول المسألة إلى نقطة تجاذب أو تنافس سياسي، بل إلى مساحة تفاهم وظيفي ممكنة يمكن أن تُشكّل جزءاً من أجندة العلاقات التركية–الفرنسية في المرحلة المقبلة، ضمن أطر أوروبية–إقليمية أوسع.
يُمكن مقاربة العلاقة بين تركيا وفرنسا في سوريا ضمن ما يسمى بـ "التموضع غير المتناظر"، أي حالة يُسجّل فيها فاعلان حضورهما ضمن ساحة واحدة من دون أن يكونا في علاقة تنسيقية كاملة، ولكن من دون الوصول إلى مستوى التصادم الصريح.
تركيا تُوظّف ما يمكن تسميته بـ"الأدوات التشاركية المرنة"، التي تتيح لها التكيف مع التغيرات السياسية من دون إلغاء تموضعها القائم على مركّب أمني–اقتصادي، بينما تعتمد فرنسا على مقاربة "الوجود الرمزي الموسّع"، عبر أدوات القوة الناعمة والمؤسساتية.
وفي تقرير صادر عن "المركز العربي للأبحاث والدراسات السياسية بباريس – IRIS" نُشر مطلع العام الجاري، فقد أشار إلى أن الاستراتيجية التركية في سوريا باتت تتحرك ضمن منطق إعادة التموضع الجيوسياسي، في ضوء تغير مواقف بعض الحلفاء التقليديين، وتبدّل ديناميكيات القوة في الإقليم. ووفقاً للباحث الفرنسي ديدييه بيون، فإن تركيا تسعى إلى ترسيخ دورها كفاعل محوري في المعادلة السورية، ليس فقط من خلال النفوذ الميداني، بل أيضاً عبر التكيّف مع التحولات السياسية والاقتصادية في مرحلة ما بعد الأسد، وهو ما يفتح الباب أمام تقاطعات أو توترات مع فاعلين مثل فرنسا، الذين يتعاملون مع الملف السوري من زاوية مختلفة تقوم على استعادة التوازن المؤسسي لا الميداني.
رغم ارتباط فرنسا وتركيا في السياق السوري بتاريخ من التنافس المعقّد، إلا أن المعطى الجديد المتمثل بانهيار نظام الأسد قد فرض تحوّلاً في منطق التدخل ذاته؛ فلم تعد تركيا معنية بضبط "الجغرافيا–الحدود"، ولم تعد فرنسا معنية حصراً بـ"الشرعية"، إنما تسعى كل منهما إلى بلورة تمثّل خاص لإدارة مرحلة اللايقين الانتقالي، بما يتجاوز مجرد الحضور إلى التأثير في نمط التأسيس ذاته.
كما يُمكن قراءة التفاعل الفرنسي–التركي في سوريا ضمن سياق أوسع يمتد إلى دوائر التنافس الجيوسياسي في إفريقيا. إذ يتقاطع حضور البلدين في مناطق النفوذ القديمة مثل الساحل الإفريقي وغربي إفريقيا، حيث تسعى فرنسا إلى استعادة تموضعها في مواجهة تراجع نفوذها التقليدي، في حين تعمل تركيا على تعميق شراكاتها الاقتصادية–الرمزية، ولا سيما في دول مثل النيجر، السنغال، وليبيا. هذا التداخل قد يُلقي بظلاله لاحقاً على الساحة السورية، ويجعل منها حلقة جديدة في سلسلة إعادة تشكيل النفوذ جنوب المتوسط.