الرئيسة \  تقارير  \  بوصلة الخروج من النفق السوري

بوصلة الخروج من النفق السوري

10.09.2025
أيمن العاسمي



بوصلة الخروج من النفق السوري
أيمن العاسمي
سوريا تي في
الثلاثاء 9/9/2025
الأزمة السورية ليست مجرد مواجهة بين سلطة ومعترضين عليها، وليست صراعًا على الكراسي يمكن حله بانتخابات أو دستور جديد.
إنها قبل كل شيء أزمة ذهنية وثقافية عميقة، تمتد جذورها إلى ستة عقود، تجلّت في كل فترة بشكل جديد، كونها تراكمات لنظام سابق تعمّد إبقاء المجتمع السوري فوق المرجل، لكن على نار هادئة. وكلما حاول الشعب السوري إطفاءها، جاء من الخارج من يساعد السلطة البائدة ليزيدها سعيرًا، إلى أن اندلعت النيران في كامل البيت السوري لمدّة أربعة عشر عامًا. ولم تستطع تلك السلطة أن تطفئ ما أوقدته يداها. وحتى بعد إطفاء الجزء الأكبر من الحريق عقب الانتصار الذي تحقق يوم 8 ديسمبر، فإن نشوة النصر التي اهتز لها الجميع فرحًا بدأت تتلاشى، واستفاق الجمع على المشكلات السابقة المتراكمة والمتجذّرة في طريقة تفكيرنا كأفراد وجماعات؛ حيث تغلب الولاءات الضيقة على الهوية الوطنية، وتُدار المشكلات الناشئة في كل مرة وعلى كل المستويات بمنطق "أنا وأنت"، لا بمنطق "نحن".
بوصلة الحل تبدأ بالإبقاء على شعرة معاوية مع أي طرف، والاقتداء بأفراد وجماعات وقفوا في وسط المجتمع متسلحين بمبادئ واضحة
المؤلم أن الحجج لدى كل طرف حاضرة وجاهزة، ظنًّا منهم أنهم على حق. لكن لو تعمّقنا في التفاصيل لأدركنا أننا جميعًا على باطل، ولكن بدرجات مختلفة.
فالمشكلة لا تقتصر على السلطة فقط، على الرغم من تحمّلها المسؤولية الأكبر كونها القوة المفترض أن تكون راعية الدولة، أي الوعاء الذي يجب أن يتسع للجميع؛ بل تشمل المشكلة المعترضين، والنخب، والمجتمع نفسه بخطابه المليء بالتحريض والانقسام.
وأخطر ما يمكن أن نفعله هو التعميم في مخاطبة أي طرف عند أي جدال أو صراع؛ لأنه يقتل الأمل في وجود تيار وطني جامع نحتاجه في أوقات الخلاف. نحن بحاجة إلى الإبقاء على فكرة أن هناك أفرادًا وجماعات لم تتلوث أيديهم ولا عقولهم بالكراهية والعصبية، ويمكن أن يكونوا حلقة وصل وطوق نجاة لبناء مشروع وطني جامع.
ما الحل للخروج من النفق؟
بوصلة الحل تبدأ بالإبقاء على شعرة معاوية مع أي طرف، والاقتداء بأفراد وجماعات وقفوا في وسط المجتمع متسلحين بمبادئ واضحة:
الهوية الوطنية: بحيث تبقى الانتماءات الطائفية أو القومية أو المناطقية في مكانها الطبيعي كمكوّن ثقافي، وتتراجع أمام هوية المواطنة التي تساوي بين الجميع أمام القانون.
تحييد مؤسسات الدولة: كالجيش، والقضاء، والإدارة المدنية، بحيث تبقى فوق الصراع السياسي، لأنها أركان الدولة وليست أدوات طرف ضد آخر.
منصة الحوار الجامع: لتكون فضاءً يشارك فيه ممثلون عن مختلف المكوّنات، ممن يقبلون مبدأ المواطنة والمساواة كأساس لأي حل.
بهذا تترسخ ثقافة التفاوض والتفاهم بين مكوّنات المجتمع، لا ثقافة الغلبة، ويتضح مفهوم التنازل عند الجميع باعتباره قوة في العمل السياسي لصالح بناء الدولة والمجتمع، لا كهزيمة.
ويجب أن يتزامن ذلك مع حوارات وندوات متعدّدة الأطراف في جميع المحافظات، لبناء وعي مجتمعي جديد، يصبح فيه الإعلام أداة لترسيخ فكرة المواطنة، ويصبح المجتمع المدني ومنظماته وسيلة لترويج الحالة الوطنية بين الجمهور. كل ذلك هدفه محو خطاب الكراهية وغرس قيم التعددية والتعايش، مع الاستفادة مستقبلًا من التعليم كأداة لتثبيت ما تم إنجازه.
يجب أن تستند هذه الحوارات إلى قاعدة واحدة: لا انتصار لطرف على حساب آخر، بل انتصار لفكرة الدولة.
السير على البوصلة
للسير حيث تشير البوصلة، نحتاج إلى فريق متنوع يضم سياسيين، وأكاديميين، وإعلاميين، وأصحاب رأي من مختلف التوجهات دون استثناء. يعملون معًا لرسم خطة انتقال واقعية تنقل المجتمع من حالة الاصطفافات العمياء إلى حالة وطنية جامعة، تؤدي إلى قبول كل طرف بالآخر كما هو.
هذا يتطلب استعداد الجميع للتنازل في القضايا الكبرى لصالح بناء دولة للجميع. ويتم ذلك تحت أنظار السلطة، دون تدخل مباشر منها في نتائج الحوارات والتفاهمات، إلا بقدر ما يعزز التوافق ويثبت المرتكزات الوطنية الجامعة. بل على السلطة دعم هذه المسارات للوصول إلى الحالة المثالية.
ويجب أن تستند هذه الحوارات إلى قاعدة واحدة: لا انتصار لطرف على حساب آخر، بل انتصار لفكرة الدولة.
لسنا أمام خريطة تفصيلية، بل أمام بوصلة تحدد الاتجاه. الطريق طويلة ومليئة بالعقبات، لكن بوجود مرجعية عاقلة وإرادة جماعية لكسر الحلقة المفرغة من الانقسام، يمكن أن نعيد تأسيس سوريا على قاعدة المواطنة والمساواة. عندها فقط يمكن أن نخرج من النفق، ونرى في الأفق وطنًا يستحق أن نحيا فيه جميعًا.