الرئيسة \  تقارير  \  بوصلة أميركية متقلبة تجاه دمشق

بوصلة أميركية متقلبة تجاه دمشق

04.08.2025
طارق علي



بوصلة أميركية متقلبة تجاه دمشق
طارق علي
اندبندنت عربية
الاحد 3/8/2025
في تغير مواقف معتاد من مبعوث ترمب إلى سوريا نصح أخيراً الشرع بتغيير سياساته ووقف إراقة الدماء الطائفية وإعادة النظر بهيكلة الجيش السوري، وتقليص التلقين أو الوجود الإسلامي، والسعي إلى الحصول على مساعدة أمنية إقليمية.
في أواسط مايو (أيار) الماضي كان اللقاء الأول بين الرئيسين الأميركي دونالد ترمب والسوري أحمد الشرع في السعودية برعاية من ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، وبوساطة تركية وإقليمية جانبية. لقاء وصف حينها بأنه "تاريخي" أفضى لنتائج مذهلة لم تكن تتوقعها دمشق في أفضل الأحوال.
على رأس تلك النتائج قرار ترمب المباشر برفع العقوبات التنفيذية ومن ثم التشريعية وضمناً "قانون قيصر" الأشد وطأة على سوريا تمهيداً لإتاحة المجال لها للتنفس وإعادة الإعمار وتفعيل اقتصادها، وقابل ذلك القرار جملة طلبات من القيادة السورية كالمشاركة في مكافحة الإرهاب وبحث ملف المقاتلين الأجانب مع ترحيل القيادات والمقاتلين الفلسطينيين من البلاد والتوقيع على اتفاقات أبراهام مع الإسرائيليين والتدخل بالإشراف والاطلاع على مراكز اعتقال مقاتلي تنظيم "داعش" في شمال شرقي سوريا.
في لحظة جوهرية كتلك مثلت أول لقاء بين رئيسين أميركي وسوري منذ أكثر من 20 عاماً لم يلتفت الشارع السوري لحساسية البنود وتفصيلاتها فعمت تظاهرات الاحتفالات شوارع وساحات البلاد احتفالاً برفع العقوبات، التي لم يشرح لهم أحد الفرق بينها من الناحيتين التنفيذية التي تتيح للرئيس الأميركي إزالتها فورياً، والتشريعية التي تحتاج موافقة الكونغرس وتتطلب وقتاً ليس بالقصير، ومع ذلك لم يكن الأمر بمشكلة كبيرة، فالناس كانت تحتاج بارقة أمل بعد سنين عجاف.
المبعوث الجدلي
عقب ذلك وعلى الفور عين ترمب سفيراً لبلاده إلى تركيا وهو توماس براك، رجل أعمال الظل والسياسي المثير للجدل، ولاحقاً صار مبعوثاً خاصاً إلى سوريا وجوارها، بمرتبة "مندوب سام" كما أطلق عليه في أروقة السياسة. وهذا المندوب لعب دوراً متناقضاً في إدارة الملف السوري بتحيز تام لناحية وجهة نظر تركيا فأغرق بتصريحاته وتوجيهاته القيادة السورية الجديدة غير مرة وفي أكثر من مستنقع لا يحتمل المجازفة، فتارة يدعم دمشق دونما حدود، وتارة يهددها من خلف الستار.
وفي تغير مواقف معتاد من الرجل نصح أخيراً الشرع بتغيير سياساته ووقف إراقة الدماء الطائفية وإعادة النظر بهيكلة الجيش السوري، وتقليص التلقين أو الوجود الإسلامي، والسعي إلى الحصول على مساعدة أمنية إقليمية. كما قال براك إن الشرع اليوم يخاطر بالمكاسب وبخسارة الزخم السريع الذي دفعه إلى السلطة، مهدداً بفقدان الحاضنة التي كانت تدعمه، ناصحاً إياه بالنضوج والتخلي عن نهجه الذي لا يجدي نفعاً.
تزامناً لم تكن سوريا والشارع فيها يعيشان بأحسن أحوال على وقع مسودة قدمتها لجنة الموازنة المالية في الكونغرس لتمديد قانون "قيصر" بدلاً من إلغائه الأسبوع الماضي. وحظيت المسودة بإجماع توافقي من النواب المحسوبين على الحزب الجمهوري الذي يمثله الرئيس ترمب.
وقدم المشروع تحت عنوان "قانون محاسبة العقوبات على سوريا"، النائب الجمهوري مايكل لولر، رئيس اللجنة الفرعية للعلاقات الخارجية في مجلس النواب لشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ويهدف إلى مراجعة القيود المصرفية المفروضة، وتعزيز أدوات مكافحة غسل الأموال، وفرض شروط تتعلق بحقوق الإنسان تمهيداً لرفع قانون قيصر بشكل دائم. وقال النائب لولر، إن المشروع يسعى إلى "حماية الأقليات، وضمان الحريات الدينية، ومكافحة تجارة الكبتاغون"، في إطار مراجعة الإجراءات التي قد يعتمدها الكونغرس لرفع العقوبات المفروضة على سوريا.
البحث عن حليف جديد
كل تلك الأحداث جاءت متواترة ومتزامنة مع أحداث السويداء الدموية التي عصفت بالمحافظة في الأسبوع الثاني من يوليو (تموز) الماضي واستمرت قرابة أسبوعين أسفرت عن إزهاق أرواح ما لا يقل عن 1400 شخص بينهم نساء وأطفال، بحسب توثيقات المرصد السوري لحقوق الإنسان،
وخلال الزيارة الأخيرة للوفد الحكومي السوري برئاسة وزير الخارجية أسعد الشيباني إلى روسيا قبل يومين، أطلق الوزير واحداً من تصريحاته الجدلية المعتادة التي قال فيها، "ليس هناك نية للدولة بإبادة الدروز"، ليعود من جديد ساكباً الزيت على نار المحرقة، إذ لا يجوز بشكل أو بآخر إطلاق مثل هذا التصريح من رأس الدبلوماسية السورية في تهديد لمكون أصيل يمثل جزءاً كبيراً من الجنوب السوري، وهو ذات الوزير الذي قال في وقت سابق عن سوريا وشعبها بعد التحرير، "المخطوفة لا يحق لها أن تسأل من حررها إلى أين سيذهب بها".
تصريحات الوزير التي خرجت من روسيا لم تكن بأهمية الزيارة عينها إلى البلد الذي قدم اللجوء للرئيس المخلوع بشار الأسد أولاً، وإلى البلد الذي كان من أشرس حلفاء الأسد منذ 2015 إلى 2024 وخلال تلك السنوات قتل عشرات الآلاف ودمر آلاف المنازل معظمهما في إدلب، المدينة التي جاءت منها "هيئة تحرير الشام" لتحكم سوريا، فهل تلك الخطوة تمثل تحولاً براغماتياً يضمن توازناً لسوريا في وجه الوعود الأميركية المتغيرة أم إنها ستزيد الضغط على حكومة دمشق، وهل كان الملف الإسرائيلي حاضراً على جدول الأعمال كما كان حاضراً ملف تعزيز العلاقات المستقبلية بين روسيا وسوريا في ظل وجود قواعد عسكرية كبرى للطرف الأول على الأراضي السورية؟
تغير في الرؤية
أميركا التي امتصت تجاوزات مرحلة التحرير، وبعدها أحداث الساحل في مارس (آذار) الماضي، حاولت مراراً أن تغطي بمظلتها منطقة الشرق الأوسط وفق توازنات وتفاهمات دقيقة للغاية، تفاهمات تسعى إلى مراعاة مصالحها الحيوية، وقد عملت على ذلك وظلت تستوعب قرارات وإجراءات السلطة الانتقالية وتدعمها في أحيان، وترسل لها تحذيرات من تحت الطاولة في أحيان أخرى.
لكن مما لا شك فيه أنها وبحسب ما بات يرشح عن دوائر القرار السياسية في واشنطن أن الأمر بدأ يأخذ منحى تصعيدياً على شكل توترات غير معلنة، القيادة الغربية التي كانت تنظر للشرع كرجل يحمل دوراً هندسياً محورياً للمرحلة الانتقالية وفي جعبته أوراق لإدارة حزمة ملفات متشعبة متفق عليها أو غير متفق، لكن تلك الملفات بدأت تفقد ثقلها وخصوصيتها والإيمان بمنفذها مع مرور الوقت بخاصة في الشهرين الماضيين على قاعدة "الفشل في الالتزام" و"سوء التطبيق" و"عدم العمل على المطلوب"، إضافة لملفات متكررة من شأنها تقويض عملية السلام الداخلي والسلم الأهلي وغياب مسارات واضحة وشفافة نحو عدالة شاملة مع تعديات وتجاوزات أمنية متكررة وصلت أكثر من مرة حدود تصفية طائفية جماعية أو فردية مستمرة، إضافة إلى ملفات الفساد التي بدت محمولة من حقبة الأسد لمن تلاه كما هي.
كل ذلك دعا مسؤولين أميركيين لمراجعة النهج والجدوى المستندة إلى السلطة الجديدة التي لم تتمكن من إحداث تغيرات بنيوية أو جوهرية لا تدخل البلاد في دوامة عنف، أو تمهد لها في الأقل، مع الاحتفاظ بالنظر لملف "قسد" وهي القوات الكردية المسيطرة على الجزء الشمالي الشرقي من سوريا، وهناك تسعى أطراف متعددة لئلا تلقى المنطقة مصير مناطق مشابهة، أطراف كثيرة تحاول التهدئة وفي الأقل أنقرة ليست من بينها نظراً إلى العداوة التركية – الكردية وفق سلم المصالح الجيوسياسية على حدودها الجنوبية.
هل فشل الشرع أم أفشلوه؟
السؤال اليوم هو ماذا حقق الرئيس الموقت أحمد الشرع من التزاماته لأميركا، وللدول الإقليمية والعربية، وللشعب السوري نفسه؟ "داعش" يتمدد في البادية، وعصابات إجرامية تنتشر في كل مكان، وممارسات غير منضبطة من عناصر أمنية تفضي للقتل أحياناً، والتلذذ بإهانة الناس على الطرقات والحواجز بإجبارهم على الركوع وتقليد صوت الحيوانات، وأجانب تقلدوا مناصب عليا في الجيش، وصراع فصائلي مستمر، و800 غارة إسرائيلية دمرت كل قوام الجيش، وفزعات عشائرية بمئات الآلاف نحو الساحل والسويداء وقد شكرتها القيادة لـ"حسها الوطني" وقد أفضت تلك العمليات لآلاف القتلى، واختطاف نساء وسبيهم من الطرقات، وتغلغل عناصر إرهابية في صفوف القوات النظامية، وإسرائيل تجول على مقربة من دمشق، وسوريا من دون كهرباء رغم وعود هائلة منذ أشهر بساعات طويلة، ولا ماء، ولا موارد حقيقية، وأزمات في الرواتب، وصرف عشرات آلاف العاملين والموظفين والقضاة لأسباب واهية أو طائفية، ووعود بزيادة الرواتب منذ شهرين ويجري تأجيلها.
إضافة إلى وزراء ومسؤولين منزوعي الصلاحية أمام قرارات "الشيخ" الذي يحكم القرار في كل مفصل متاح، والمسيرات التي كانت تملأ الساحات بمئات آلاف المشاركين في أشهر ما بعد التحرير، باتت اليوم تقتصر على المئات، وتعديات بالجملة على المجتمع المدني ووقفاته، وأزمة في توزيع المساعدات والحصول على تمويل وقروض مانحين، وصندوق سيادة يجمع الأموال لمصلحة السلطة، ولجنة عدالة وطنية تحاسب مجرمي نظام الأسد وتستثني غيرهم قبل الثورة وبعدها، وتوزيع مناصب عائلية، تسويات مع رجال أعمال "شبيحة" من المقربين من الأسد سابقاً وممولي حملاته العسكرية مقابل أرقام مالية كبيرة، فهل فشل الشرع في إدارة دفة البلاد أم إن من حوله أفشلوه؟ هذا هو السؤال الذي يجب التوقف عنده طويلاً في مرحلة حساسة لم تعشها سوريا منذ جمهوريتها الأولى عام 1920 ومنذ استقلالها عام 1946.
ويمكن التصويب هنا نحو أن الشرع لا يحكم البلاد بشكل منفرد ومنقطع النظير، فهو استمد شرعيته الثورية من مؤتمر النصر أواخر يناير (كانون الثاني) الماضي حين عينته الفصائل العسكرية التي لم تكن معظمها على وفائق رئيساً انتقالياً، ولكل من تلك الفصائل أجنداتها ورؤيتها وكثر منها لا يمتثل لأوامر وزارة الدفاع، وبدا ذلك جلياً في أحداث الساحل والسويداء، كما أن الدائرة المحيطة بالشرع نفسه تحمل علاقاتها وطموحاتها وآراءها الخاصة، هذا ما يقوله في الأقل مقربون من دوائر القرار، فهل ما يحصل في المحصلة هو فشل فردي أم جماعي قائم على المصالح وتباين وجهات النظر في أمور كثيرة لا تبدو جلية للعامة؟
الوجه المزدوج
يقول الدبلوماسي السابق أحمد عمر في حديثه إلى "اندبندنت عربية"، إن المشهد في سوريا مركب ومعقد للغاية، منطلقاً من اتفاق الشرع- مظلوم عبدي في الـ10 من مارس الماضي في دمشق، ووضعهم وثيقة من مجموعة بنود لم يتم تنفيذ أي منها حتى الآن، ويرمي المسؤولية في ذلك على الأميركيين، ويخص توماس براك واصفاً إياه بـ"سمسار السياسة والأعمال".
حول تلك النقطة يرى عمر أن "براك قال قبل فترة نحن لسنا مدينين لـ(قسد) بشيء، هي واحدة من حلفاء الماضي، وهذا ما جعل سلطات دمشق تستقوي على الأكراد وتحاول فرض شروط جديدة، ثم عاد ليقول إن أميركا لن تزيل تصنيف سوريا من قائمة الدول الداعمة للإرهاب، وبذلك يكون تلاعب بالطرفين في خطوة لا تعكس نضجاً سياسياً ولا سعياً إلى حلول دبلوماسية مستديمة. يبدو السيد المبعوث مرتبكاً ويسعى لإحداث الفوضى أكثر من التهدئة، وقد كاد في وقت سابق يحدث شرخاً مع لبنان حين تحدث حول ضمها إلى سوريا في حال فشل نزع سلاح ’حزب الله’، وقد قالت أمس الصحافية لورا لومر المقربة من الإدارة الأميركية إنه يجب عزل توماس من مناصبه الدبلوماسية حفاظاً على الأمن القومي الأميركي".
وتساءل الدبلوماسي، "لكن هل براك يملك تلك الصلاحيات الواسعة في إدارة شؤون الإقليم من دون تفويض من مراكز القرار الأميركي غير المباشر، أو دولة الظل؟ لا أظن! إذاً، ما يفعله هو انعكاس واضح للرؤية الأميركية وخصوصاً إذا ما انتبهنا أنها أصبحت أكثر عدائية إبان أحداث السويداء وبعدها، وقد يكون ذلك بضغط من اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة ومن إسرائيل نفسها، فضلاً عن التصويب نحو (قسد) إعلامياً ومن ثم دعمها عسكرياً، وهو ما بدا من ثقة قائدها عبدي في تصريحاته الأخيرة حول اللامركزية والشروط الصارمة التي وضعها والتي توضح حجم الدعم والتحدي".
نجاح خارجي قوضه فشل داخلي
"السياسة هي فن الممكن والمتغير في آن". يقول المحلل في الشؤون الأمنية عزيز الحاج في تصريح خاص إنه إذ يرى أن الدبلوماسية الخارجية السورية بمساعدة حلفائها قد نجحت بشكل منقطع النظير في إدارة كل ملف بشكل منفرد، أسهمت التغييرات الداخلية على الأرض في نسف البنية الواسعة لكثير من التفاهمات الخارجية، وعلى رأسها التفاهم السوري – الفرنسي الذي جاء بدوره بمطالب تتعلق بمشاركة جميع المكونات وحماية الأقليات، مما يعني أن الوصول إلى دمشق مهم جداً، ولكن تطبيق ما يريده الإليزيه هو الأصعب، وهذا ما يقود لضرورة النظر إلى الفشل الداخلي.
وينبه إلى أنه "في الأسبوع الماضي فقط اختطفت عدة فتيات، وجرى قتل شاب في طرطوس لأنه رفض تقليد أصوات الحيوانات على حاجز، ثم مقتل شاب في المسجد الأموي، ودخلت دورية مدججة بالسلاح وسط العاصمة لتعتقل شاباً عائداً من الغربة لأنه مر بخلاف بسيط في وقت سابق مع أفراد الدورية، وسؤال الأشخاص على الحواجز عن طائفتهم، والتعسف باستخدام القوة، وسحب السلاح من العلويين بأكملهم ومن ثم دمج كل الفصائل العسكرية الثورية في قوام الجيش وإعطاء مهلة 10 أيام لالتحاق البقية وإلا العقاب قبل أشهر، ثم تفاجأ الناس أن العشائر لا تزال تملك مئات آلاف قطع الأسلحة الخفيفة والمتوسطة، ثم مجازر السويداء والتهجير الديموغرافي للبدو منها، وافتقارها المستمر لأدنى مقومات الحياة، على رغم إعلان السلطات أنها غير محاصرة، وفي الوقت ذاته تعلن فتح معبر إنساني لدخول المساعدات، هذا تناقض رهيب، وعشرات الأمثلة الأخرى كلها معاً تدفع الشارع اليوم، المؤيد قبل المعارض، للمطالبة بإعادة هيكلة أجهزة الدولة بصورة حقيقية سليمة تقوم على أسس شرعة حقوق الإنسان".
أحد الشيوخ في مدينة حماة، الذي فضل عدم الكشف عن اسمه، أشار إلى أن الصراع في سوريا ليس بين أكثرية وأقلية فحسب، بل هو الآن وفي مرحلة لاحقة سيكون أشد وطأة في ما بين الأكثرية نفسها، ويمكن بدء تلمس ذلك من الاعتداء على أئمة المساجد السنة الذين يطالبون من منابرهم بالوسطية والاعتدال والعيش المشترك وكثير منهم تعرض للاعتداء اللفظي أو الجسدي أو التصفية. ويقول مختصراً تلك الحال، "قريباً سنشهد صراعاً متطرفاً في مواجهة الاعتدال الذي يمثل الأكثرية".