الرئيسة \
تقارير \ بعض ملامح الشرق الأوسط القديم وتبدّياته الجديدة
بعض ملامح الشرق الأوسط القديم وتبدّياته الجديدة
18.08.2025
حسان الأسود
بعض ملامح الشرق الأوسط القديم وتبدّياته الجديدة
حسان الأسود
سوريا تي في
الاحد 17/8/2025
لقد كان الشرق الأوسط على الدوام عقدة كبيرة تتقاطع عندها خطوط التجارة والطاقة والمشاريع الاستراتيجية الكبرى في العالم. بعض الدول كما في الخليج العربي قرأت مبكرًا الاتجاه العام، فأخذت طريق التنمية الداخلية مع الاندماج في المجتمع الدولي، وقاربت الأمور من منطق خلق التوازن بين القوى الكبرى تحقيقًا للمصالح الوطنية، مع انحياز واضح للغرب في مجموع منظومة القيم والإدارة والاقتصاد والتوجه السياسي عمومًا. توافق هذا النهج مع طبيعة مجتمعاتها ذات الخصوصيات المتقاربة فيما بينها من جهة والمختلفة عن مجتمعات دول الجوار مثل العراق وإيران من جهة ثانية. ساعدها في التنمية الاقتصادية عاملان رئيسان، هما الديمغرافيا ضئيلة الحجم والنفط الذي مكّنها من بناء شرعيةِ حكمٍ قائمة على الخدمات والقبول المجتمعي.
بعضها الآخر مثل إيران، أرادت أن توجد لنفسها موطئ قدمٍ باعتبارها لاعبًا كبيرًا بين اللاعبين الدوليين، فاعتمدت مبدأ تصدير النفوذ من خلال القوّة، وكانت هذه النظرة للذات منطلقة من عوامل نفسية تتكئ على ماضٍ عريق وعلى إمكانات بشرية واقتصادية وثروات هائلة تدعم هذا الإحساس بالتفوّق على المحيط الأقرب. لم تأت هذه المقاربة إلا بالدمار على الشعب الإيراني بعد استلام رجال الدين الحكم. فبعد النجاحات الجزئية المحدودة في دول الجوار، انكفأ المشروع الإيراني إلى داخل حدوده بعد الضربات الموجعة والخسائر الفادحة التي تعرّض لها. هذه النظرة الاستعلائية تجاه الجيران العرب بدأت تتكسّر في الواقع اليومي الذي تعيشه إيران، فهي محاصرة من الخارج ومخترقة من الداخل، ومواطنوها لا يرون من ثروات بلادهم إلا ما يصرف منها على أجهزة القمع والسيطرة وحماية نظام الحكم الثيوقراطي.
بعض الدول حاولت الاندماج مبكرًا منذ تأسيسها الحديث في الصف الغربي، فتركيا التي ذهبت مع مؤسسها مصطفى كمال أتاتورك بعيدًا تجاه الغرب حققت نجاحات كبيرة على صعيد بناء الدولة وتأسيس نظام عَلماني محروس بالعسكر والقومية التركية. لكنّ هذه المسيرة لم تكن على طول الخط من دون شوائب، فالدكتاتورية التي أسست للدولة حرمت المجتمع من كثيرٍ من حيويته بسبب محاولتها فرض رؤية واحدة تتعارض في جوهرها مع خلفيات جمهور واسع منه. وعندما انتصرت نضالات الأحزاب التركية وقوى التغيير مع فوز حزب العدالة والتنمية قبل عقدين من الزمن، عاد التوازن للحياة التركية، فبدأت التنمية الاقتصادية تثبت أنّ التعدد في الأفكار وأنّ إطلاق الحرية للمجتمع هما مصدر غنى وليسا مصدر فقر أو تخلّف كما تمّ ترسيخه عبر عقود سبقت. لكنّ هذه المسيرة ذاتها بدأت تتعثر منذ أعوامٍ عدّة أيضًا، فسعي فردٍ أو مجموعة للبقاء في السلطة غيّر محور التوازن الداخلي لتركيا بمجملها، باتت السياسة كلها تدور في فلك هذا التأبيد. هكذا تراجعت الحريات نسبيًا، وتراجع الاقتصاد كثيرًا، وتحوّلت مؤسسات الدولة لأجهزة مسيّسة لصالح فريق من دون الآخر. تركيا اليوم على مفترق طرق حاد، فإما أن تعيد التوازن للعلاقة بين الدولة والسلطة الحاكمة والمجتمع، أو ستمضي رجوعًا في طريق الخراب الذي سلكته من قبلها الأنظمة الجمهورية في البلدان العربية قاطبة.
دول أخرى مثل لبنان لم تجد هويتها منذ التأسيس وحتى اليوم، وعنوانها الأبرز فقدان التعريف الذاتي والتحديد الدقيق للدولة والهوية الوطنية. لا شيء يجمع اللبنانيين سوى اختلافهم على كل شيء واتفاقهم على إدارة هذا الاختلاف، مرّة بالسياسة ومرّات كثيرة بالعنف، وقد أثبتت الحرب الأهلية التي دامت خمس عشرة سنة أنّه ما من هويّة وطنية لبنانية، بل هناك هويات فرعية أصيلة. هناك مسيحيون ومسلمون، هناك عرب وأرمن وغيرهم، هناك سنّة وشيعة ودروز وغيرهم. لم يكن هناك لبنان إلا على الخريطة، وقد يكون هذا هو حاله منذ أن تأسس كدولة طوائف ومكونات لا كدولة أمّة أو شعب. قد يبقى لبنان كذلك إلى أمد طويل ما دام أهله لم يستطيعوا التخلّص من دولة حزب الله داخل دولتهم إلا بمبضع الجراح الإسرائيلي. وحتى هذه قد لا ينجحون بها لحاجتهم لقوّات برية تنفّذ الأمر في عموم البلاد. هذا ما لا تستطيع إسرائيل القيام به، وما لا ترغبه أيضًا، وقد يعجز عنه الجيش اللبناني، خاصّة مع تهديدات الأمين العام للحزب الشيخ نعيم قاسم يوم 15 آب الجاري التي أعلنها صراحة عندما قال مستقويًا بالدعم الإيراني: "لن نسلّم السلاح، وسنخوض معركة كربلائية".
في سوريا لم يكن الحال بأفضل مما هو عليه في لبنان، على الأقل منذ الوحدة مع مصر في العام 1958. وبعد انقلاب البعث صارت الوحدة الوطنية مدثّرةً بلحاف الدكتاتورية السميك، وما أن بدأت الثورة السورية صهر هذا الستار الحديدي، حتى بدأت تظهر للعلن تلك الانقسامات الرهيبة التي كان يجمعها ملاط التسلّط والاستبداد عنوة وبالحديد والنار. حاول النظام البائد بناء سرديته الوطنية الخاصة لمواجهة الثورة، لكنّ ممارساته فضحته وعرّته تمامًا. بالمقابل حاول جمهور الثورة بناء سرديّة وطنيّة مضادّة، لكنها سقطت أيضًا بعد التحرير في فخاخ التعصب القومي والانقسام الديني والطائفي. مجرّد وجود إحساس لدى الأكثرية العربية، والأكثرية العربية السنية تحديدًا بأنها استعادت حقها السليب في الحكم، هو مؤشر لا يمكن تجاهله على هذا الانقسام وعلى غياب الهويّة الوطنية الجامعة. ناهيك عن المعاداة الواضحة والصريحة والعلنيّة لمعظم الأقليات لهذا الحكم الجديد، أو على الأقل للتمظهرات التي بدأها النظام الجديد. بعض أسباب هذا الموقف العدائي يمكن وضعها تحت خانة المطالب المشروعة بطلب دولة القانون والعدالة والمساواة، لكنّ كثيرًا منها لا يمكن تبريره أبدًا، خاصّة التعامل مع إسرائيل العدوّ التاريخي لسوريا، وإن كان يمكن فهمه ضمن سياق التخويف الكبير والمستمر منذ عقود من هذه الأكثرية التي تمت دعشنتها رغمًا عن أنفها، والتي أسهم بعض فرقائها وأفرادها بهذه الدعشنة من جهتهم.
هذه كانت ملامح الشرق الأوسط القديم، والآن تتبدّى ملامح جديدة نراها في الخرائط المرسومة بالقوة العارية، إنها الدويلات المخطط لبناء جدرانها بالأحقاد ورسم حدودها بالدماء، فالعصا الإسرائيلية الغليظة التي حطّمت المشروع الإيراني وأذرعه، والتي تعبث الآن بسوريا وتهدد المنطقة بمجملها، ما كان لها أن تقوم بذلك لولا الرعاية الأميركية الكاملة والأوروبية من خلف ستار. نحن الآن في مرحلة انتظار ما ستسفر عنه محاولات نزع سلاح حزب الله، وبانتظار تطورات حرب الإبادة في غزّة وخطط التهجير المعلنة، وبانتظار صراع الدولة والميليشيات العراقية تحت العباءة الإيرانية، وبانتظار التفاهمات التركية الداخلية مع حزب العمال الكردستاني والخارجية مع أكراد سوريا، وبانتظار مسارات التمدد في الجنوب السوري التي يراد لها الوصول إلى دجلة والفرات فيما بات يطلق عليه اسم ممر داوود، هذا الممر الذي سيقود للدولة الحلم التي تحدّث عنها نتنياهو بثقة النبّي قبل أيام. نتنياهو، الذي يشبه كثيرًا جورج يوش الابن في خيالاته الدينية، هو حسب تصوّره يحمل رسالة إلهيّة لبناء إسرائيل الكبرى من البحر إلى النهر. ولمَ لا، فالمنطقة حفلت بالدجّالين ومدّعي النبوّة كما كانت دائمًا مهبط الوحي ومهد الديانات السماوية والأرضية. مع كل التعقيدات في المنطقة، ومع كل الرجاء بألا نبقى خارج مربّع الفعل وداخل دائرة المفعول به، سنبقى على حافّة البركان آملين ألا ننزلق إلى قلبه مجددًا، وأن ننجو من العودة وقودًا للمحرقة القادمة.