انتخابات تشريعية في سورية بنتائج عكسية
11.09.2025
شفان إبراهيم
انتخابات تشريعية في سورية بنتائج عكسية
شفان إبراهيم
العربي الجديد
الاربعاء 10/9/2025
المُقرّر أن تشهد أجزاء واسعة من سورية، إجراء انتخابات "غير مباشرة" لانتقاء أعضاء من مجلس الشعب السوري. وتأتي هذه الانتخابات في ظلّ تراكم المُشكلات والانتهاكات، وزعزعة الجغرافيا السورية، وعدم شمول محافظات الحسكة والرقّة والسويداء بهذه الانتخابات بشكل كُلي. إضافة إلى التوقّعات بعزوف أهالي الساحل عنها، وإن لم يكن كُلياً؛ فذاكرتهم لم تُشف بعد من الانتهاكات، وجراحهم ما زالت نديّة وطرية. ومع تعالي أصوات الأطراف السياسية والمجتمعية من أحزاب وتجمّعات ديمقراطية وليبرالية عربية سورية، حول واقع الحال ورفضها طبيعة هذه الانتخابات ونوعيتها، فذلك يُشير إلى أنها قد تكون نقيضاً لما تحتاجه البلاد في المرحلة الراهنة.
سورية المُحتاجة لانتخابات ديمقراطية
إذا ما ابتعدنا عن تاريخ بدايات تشكيل الدولة السورية، وركّزنا في حديثنا عن ثلاث مراحل من عمر الدولة السورية في إجراء الانتخابات، نجد أنها بلادٌ مُنهكة ومُثخنة بالجراح من غياب الديمقراطية والنزاهة والعدالة الاجتماعية. ففي المرحلة الأولى: حيث الانتخابات التي جرت في عهد الاستقلال وقبل انقلاب 1963، شهدت سورية تجارب انتخابية متعدّدة في ظلّ النظام البرلماني، ورغم وجود فساد ومشكلات وصراعات نخبوية، ولكن أمكن القول إنّها قدّمت نموذجاً دستورياً لا بأس به في تداول السلطة. كما شكّلت نقطة مرجعية مهمة لفهم التراجع الحاد في المشاركة الشعبية في الانتخابات التي جرت بعدها.
الثانية: انقلاب 1963، والشروع بتأسيس نظام حكم أحادي، والذي كرّس حكم البعث والأمن للسلطة. لم يُنه التجربة الديمقراطية في سورية فحسب، بل إنها حوّلت مجلس الشعب إلى مؤسّسة صورية، عزّزت هيمنة الحزب الحاكم، وإلغاء المعارضة السياسية الحقيقية تاريخياً. وهذا التحوّل المركزي الذي أدى إلى تجميد المشاركة الحقيقية للشعب في الحكم، استمر حتى خلال الثورة السورية. ومن أبرز النُكات السياسية المتداولة حول مجلس الشعب، كان وصفه بـــ"مجلس الدُمى" و"مجلس المصفقين" و"مجلس المتقاعدين"... إلخ.
بلادٌ مُنهكة ومُثخنة بالجراح من غياب الديمقراطية والنزاهة والعدالة الاجتماعية
بالمنطق السياسي السليم، كان غياب الحياة السياسية والبرلمانية والمدنية لحساب تغوّل سلطات (وصلاحيات) الأفرع الأمنية، التي كانت تتدخّل في تعيين أعضاء مجلس الشعب. وعلى سبيل المثال، مهزلة "قائمة الظل" في محافظة الحسكة. والتي كانت تعني نجاح المُعيّنين من الأفرع الأمنية وحزب البعث، بغضّ النظر عن حجم المشاركة ونسبة الأصوات من عدمها. والهدف منع وصول الكرد إلى لبرلمان. حيث خُصّصت أربعة مقاعد فقط خارج قائمة ما تسمّى الجبهة الوطنية التقدّمية الناجحة سلفاً. وفي صبيحة الانتخابات، تصدر تلك القائمة بأربعة أسماء، تُلزم أعضاء حزب البعث على التصويت لهم، وأساساً لم تكن المعارضة في المنطقة الكردية تستمر أو غالباً ما كانت تُقاطع الانتخابات ردّاً على تلك السياسات الإقصائية. والمرّة الوحيدة التي نجحت فيها القائمة الكردية، كانت في انتخابات عام 1990 حين شاركت الأحزاب الكردية في الانتخابات، ومن دون قوائم ظل، بالنتيجة حصْد تحالف الكرد والأشوريين المقاعد الأربعة بواقع ثلاثة ممثلين للكرد وواحد للمنظمة الأثورية الديمقراطية. ليعود الن-ظام السوري مُجدّداً إلى الاعتماد على المؤسسات الأمنية والدولة العميقة، وإعادة تكرار سيناريوهاتها السابقة في التدخّل بكل تفاصيل الانتخابات والمرشحين والفائزين. ومنح أدوار معينة لممثلي العشائر، وتسليحهم، ما أدّى إلى بروز نموذج دولة "مسلّحة" وليست مؤسّساتية، وبرزت ازدواجية بين الدولة والأطراف المسلّحة.
انتخابات الثورة
لا جديد يُذكر فيما يتعلّق بالانتخابات التي جرت في خضم الثورة، سواء انتخابات المجالس المحلية والبلديات، أو انتخابات مجلس الشعب، أو الانتخابات التي جرت في ظلّ هياكل الحكم المحلية الطارئة. لم ترتق إلى مستوى الشرعية السياسية والديمقراطية. وعملية التعيينات، أو النجاح المضمون، أو استخدام أجهزة الأمن والجيش والشرِطة، سواء في التوجيه للتصويت لقوائم مُحدّدة، أو التأثير على الناخبين، من دون نسيان الأدوار الرئيسية للدوغمائية السياسية التي طبعت كل سياقات الانتخابات، وصولاً إلى الخُطبّ الشعبوية التي لم تقدّم سوى سيولة ضخمة من الوعود لا غير. وفي المحصلة، بقينا نحن السوريين من دون ممثلين شرعيين أو مُنتخبين حقيقيين. بل إنّ كامل العملية الانتخابية في كُلّ سورية، ولدى كُلّ نماذج الحكم، لم تكن سوى تكريس لشرعية الحكم في مختلف المناطق، واستمرّت المواطنة ممسوخة ومشوهة. والواضح أنّ السوريين لم يحظوا بنموذج انتخابي حقيقي منذ حكم الأسد، وحتى خلال عمر الثورة. بل كُلّ شيءٍ تحوّل لأداة تكريس السلطة، مع غياب تام لإرادة الشعب وغياب تام لشراكتهم في بناء مؤسسات دولة حقيقية. وبالتالي بقي السوريون يحملون سؤالاً مُركّباً طرفه الأوّل: متى يسقط النظام الأسدي. والثاني: متى سيشعر السوريون بأنهم ذوو دولة ونظام حكم يحترم رغباتهم، ويتشاركون في صناعة القرار الجمعي عبر المؤسسات المعنية بها.
انتخابات التحرير
يستعد السوريون، من دون شمولهم جميعهم، للمشاركة في انتخاب بنكهة تعيين، لممثليهم في البرلمان. ولم تُبد حتّى لحظة كتابة هذه المادة، أيّ جهة دولية أو إقليمية رغبتها في الإشراف على سير العملية الانتخابية. وفي ظلّ إصرار المجتمع الدولي على قرار مجلس الأمن 2254، والمتضمّن في إحدى سلاله إجراء انتخابات حرّة ونزيهة، بإشراف الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية، ومع استثناء المحافظات الثلاث، وصعوبة مشاركة نسب كبيرة من أبناء الساحل؛ بعد الانتهاكات الجسيمة في الأرواح والممتلكات، ستقود هذه الانتخابات إلى مضرّة في الانتقال الديمقراطي، ومسار العدالة الانتقالية.
وفوق الظرف الراهن، غالباً ما ستفاقم هذه الانتخابات الشروخ الطائفية والإثنية. بل أساساً لا مؤسّسات شرعية مبنية بعد نجاح الثورة، كي تُجرى الانتخابات تحت سقفها. ومع تشعّب مصادر السلاح، وعدم إيجاد حلول للقرار العسكري، سواء لقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، أو جيش سوريا الحرّة، أو راهن السلاح في درعا، والسلاح في السويداء. وعدا عن أنّ الفصائل المسلحة المسيطرة على الوضع السوري لم تخضع بالكامل لوزارة الدفاع، ولم تتحوّل إلى جيش وطني، فإنّ أغلب مؤسسات الدولة في عهد النظام السابق، والتي توجّب الحفاظ عليها وتطويرها، وتطهيرها وإعادة هيكلتها، جرى حلّها، مثل الجيش، الشرطة، الأجهزة الأمنية. وجرى تسريح آلاف الموظفين الحكوميين،علماً أنهم الأساس البيروقراطي لتسيير شؤون البلاد والمواطنين.
لا مؤسسات شرعية مبنية بعد نجاح الثورة، كي تُجرى الانتخابات تحت سقفها
جغرافياً: تسعى السويداء إلى نوع خاص من الحكم، رُبما سيتطوّر إلى الانفصال، وإن كان غير مطروح حالياً بشكل فاعل ورسمي. و"قسد" متهمة بالمماطلة في تنفيذ اتفاق 10مارس (2025)، وتهمة الانفصال لا تزال تُلاحق الكرد، ولا يزال العلويون مُجرّد "فلول". والأحزاب والتجمّعات السياسية الليبرالية والديمقراطية للسوريين العرب السّنة، هي الأخرى، ضمن دائرة النفس المُعادي للسلطة. وأمام هذه اللوحة غير المسبوقة، والوحدة الوطنية شبه منسوفة، وغير الموجودة سوى في القصائد التي تُتلى من على جبل قاسيون، وإعادة إعمار البلاد مقتصرة على أغنية "بالحب بدنا نعمرها" وغياب تام لأيّ تنازلاتٍ حقيقية لأيّ طرف لصالح طرفٍ آخر، تصرّ السلطة على إجراء الانتخابات.
وعوضاً عن الخوض في انتخابات غير مباشرة، وبطريقة لا تتناسب وحجم تضحيات السوريين، كان الأفضل أن يكون بناء الدولة والمؤسسات الأولوية قبل أيّ شيء آخر. ففي ظلّ شروخ مناطقية وطائفية وقومية، وحالة من هشاشة الدولة، ليس الأفضل أن نبدأ بالانتخابات، بل ببناء الدولة ومؤسساتها، فالانتخابات في ظلّ غياب تلك الأسس والأرضية، تقود لضرر كبير.
حلولٌ رُبما كانت أفضل
الانتقال السياسي في دول ما بعد النزاع، المفروض تشكيل هيئة توافقية من كل الجماعات السياسية والإثنية والأحزاب السياسية، والشخصيات السياسية، يُمكن تسميتها بالحكومة المؤقّتة أو هيئة حكم انتقالي، من أوّل مهامها توافقها على وثيقة مبادئ دستورية. ثم يجري الاتفاق على انتخاب هيئة تأسيسية بمثابة برلمان مؤقّت، من جملة مهامّها كتابة دستور دائم أو مؤقّت للبلاد، وعرضه للاستفتاء إن كانت الظروف ملائمة. لكن ما حصل كان مُعاكساً لكلّ الأصول والأعراف لدول ما بعد النزاع والصراع، مع غياب العدالة في توزيع مقاعد البرلمان على المحافظات وفقاً للمساحة والكثافة السكانية. وغياب تام لتمثيل المكوّنات والقوميات، والأصل في حالات كهذه كان توافق كافة المكونات والقوميات ومشاركتها في إدارة البلاد.
أرقام أجّجت مواقف الاعتراض
تأتي محافظة الحسكة في المرتبة الثالثة من حيث المساحة، والتي تبلغ 23,334 كلم، ولم يُخصّص لها سوى عشرة مقاعد في حين أنّ محافظة حلب ومساحتها 18,482 كلم خُصّص لها 32 مقعداً؟ وتبلغ مساحة محافظة ريف دمشق 18,032كلم ومحافظة حماة 8,883 كلم، وخُصّص لكلّ محافظة 12 مقعداً. والمفارقة أنّ محافظة حمص أكبر المحافظات السورية 42,223 كلم لم يخصّص لها سوى 12 مقعداً. ومحافظة إدلب التي لا تتجاوز مساحتها 6,097 كلم مُنحت 12 مقعداً. وهو ما يُسحب على باقي المحافظات، من حيث غياب الشفافية والمساواة، لحساب تفضيل أبناء محافظات على أخرى على خلفيات تتعلّق بنوع مُعيّن من الانتماء. وبحسبة بسيطة، فإنّ مساحة محافظة الحسكة تتجاوز تقريباً مساحة محافظات إدلب واللاذقية وطرطوس ودرعا والسويداء معاً. مع ذلك، جاءت التقسيمات الإدارية مجحفة بحقّ المكونات، وعدد تمثيل المقاعد المُخصّصة لها شكّل تقزيماً وتحجيماً لمكوّناتها. عدا أنّ الخلل في التركيب السكاني موجود في كلّ المحافظات، وكتلة النازحين أيضاً موزّعة على محافظات الشمال السوري بالكامل.
المشكلة في سورية ليست في الانتخابات بحدّ ذاتها، بل في غياب الدولة التي تضمن حياد المؤسسات
النسب السابقة: في حين إنّ نسب توزيع أعداد أعضاء مجلس الشعب على المحافظات سابقاً قبل الثورة السورية كانت وفق ما يلي: الحسكة 14 مقعدا، حلب 20 مقعدا، مناطق تابعة لمحافظة حلب 32، ريف دمشق 19، حماة 22، حمص 23.... وهكذا بالنسبة لباقي المحافظات. وكانت تُحسب وفقاً للنسبة السكانية، والتي خُصّص مقعد برلماني لكلّ مائة مواطن ضمن دائرته الانتخابية. لكن حالياً لا آلية واضحة لاختيار النسب الحالية، بخلاف الآلية المتعبة سابقاً.
خاتمة
الواضح أن المشكلة في سورية ليست في الانتخابات بحدّ ذاتها، بل في غياب الدولة التي تضمن حياد المؤسسات، وخصوصاً أنّ سورية تمثّل أحدث نماذج الدول الهشّة، وكان يجب إعطاء الأولوية لإعادة بناء الثقة بين المواطن والدولة، وهذا لا يتم عبر الانتخابات السريعة، بل عبر حوارات وطنية شاملة وبناء مؤسسات شفافة. وفي ظلّ الهجرة والتهجير، والنزوح، وفقدان الثبوتيات لأعداد ضخمة من السوريين، وتشتّتهم في دول المهجر، والجوار، والمخيّمات، فإنّ إجراء الانتخابات بهذه الطريقة هو حتماً حرمان مئات الآلاف من السوريين من المشاركة في حلمهم القديم الجديد، في تحديد مسارات رسم السياسات والتشريعات القضائية لسورية وكُلّ ما يهم المجتمعات المحلية.