انتخابات تركيا صراع على هويتها الجيوسياسية
15.05.2023
القدس العربي
انتخابات تركيا صراع على هويتها الجيوسياسية
القدس العربي
الاحد 14/5/2023
تركيا-” القدس العربي”: تحظى الانتخابات التركية بأهمية استثنائية في العالم بالنظر إلى المكانة الخارجية المهمة التي وصلتها تركيا في ظل عقدين من السياسة الحازمة للرئيس رجب طيب اردوغان، والتي كرّست مكانة بلاده كقوة قائمة بحذ ذاتها وأضحى لديها هامش واسع من الاستقلالية في السياسة الخارجية عن الغرب، فضلاً عن إقامته شراكة جيوسياسية وثيقة مع روسيا. إن أحد أكثر الأسئلة أهمية في هذه الانتخابات يتمحور حول مستقبل السياسة الخارجية التركية خصوصاً إذا ما أدّت الانتخابات إلى إحداث تحول سياسي يُنهي حكم حزب العدالة والتنمية. لا شك أن هذا التساؤل يشغل منذ فترة حيّزاً كبيراً من تفكير صناع القرار من موسكو إلى واشنطن مروراً ببروكسل والشرق الأوسط. في لحظة عالمية مضطربة وعصر جديد من التنافس الجيوسياسي بين القوى العظمى، فإن القوى الإقليمية، كتركيا، أصبح لديها تأثير أكبر في تشكيل الجغرافيا السياسية المحيطة بها ودور مؤثر على حسابات ومصالح القوى الكبرى.
سيُجيب فوز محتمل للرئيس رجب طيب اردوغان في الانتخابات عن هذا التساؤل، وفي هذه الحالة لا يوجد ما يدعو للاعتقاد بأن تركيا ستُحدث تغييراً كبيراً على سياساتها الخارجية الحالية. سيواصل اردوغان بحزم تعزيز نهج تركيا الاستقلالي في سياستها الخارجية عن الغرب والحفاظ على الروابط الوثيقة التي أقامها مع روسيا في السنوات الأخيرة ومواصلة نهج الحياد في الحرب الروسية الأوكرانية وتعزيز العلاقات الجديدة مع دول المنطقة لا سيما العربية منها. من المرجح أن تتوج عملية التقارب مع مصر بلقاء بين اردوغان ونظيره المصري عبد الفتاح السيسي بعد الانتخابات، وكذلك الحال بالنسبة للمفاوضات الجارية منذ فترة بين أنقرة ودمشق برعاية روسية وإيرانية. من المرجح أن يحدث تقدم على هذا المسار وربما يُعقد لقاء بعد الانتخابات بين اردوغان ورئيس النظام السوري بشار الأسد. وعلى صعيد ملف توسيع الناتو، من المرجح أن تبقى مسألة انضمام السويد إلى حلف شمال الأطلسي عالقة لحين الاستجابة للمطالب التي وضعتها أنقرة. باختصار، ستبقى تركيا مزعجة للغرب وصديقة لروسيا ولمحيطها الإقليمي.
تحول جذري
لكنّ فوزاً محتملاً للمعارضة قد يؤدي بالفعل إلى إحداث تحول جذري في بعض السياسات الخارجية لا سيما في القضايا الأكثر حساسية كالعلاقة بين روسيا والغرب والدور المستقبلي لتركيا في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. إن الحماسة التي أبدتها وسائل الإعلام الغربية في تغطيتها المنحازة بشدة لصالح المعارضة، تعكس في الواقع الآمال العريضة التي يضعها الغرب على هذه الانتخابات. يعتقد الغرب ببساطة أن تركيا بدون اردوغان ستعود صديقة مخلصة للغرب وستتخلى عن روسيا وستُصبح “أقل عدوانية واندفاعة” في سياستها الخارجية. يبدو جزء من هذا التقييم صحيحاً لأن زعيم المعارضة كمال قليجدار أوغلو وعد في حال وصوله إلى الرئاسة بإعادة التأكيد على الهوية الجيوسياسية لتركيا كجزء من حلف شمال الأطلسي وبإعادة تشكيل العلاقات مع روسيا. كما أبدى رغبته في إصلاح العلاقات مع الاتحاد الأوروبي. قد يكون التفاؤل الغربي مفرطاً بعض الشيء. مع أن قليجدار أوغلو سيكون في الغالب زعيماً محبوباً، أو على الأقل، غير مكروه في الغرب كما اردوغان، وسيعمل على تهدئة التوترات مع الدول الغربية، إلآّ أن وصول المعارضة إلى السلطة لن يكون علاجاً سحرياً للمشاكل التركية الغربية. ستبقى القضية القبرصية إحدى القضايا التي تُعرقل انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي وستبقى الخلافات التركية اليونانية المزمنة والتاريخية عاملاً مفسداً لوحدة حلف شمال الأطلسي. كما من غير المُرجح أن تنسجم تركيا بشكل كامل مع السياسة الغربية تجاه روسيا لأن لديها مصالح كثيرة مع موسكو ولا يُمكن لقليجدار أوغلو إدارة ظهره لروسيا بالكامل. وسبق أن وضع التحالف السداسي المعارض وثيقة للسياسات المشتركة خصّص حيزاً منها لرؤيته للسياسة الخارجية والأمن القومي ومكافحة الإرهاب. بالنظر إلى الدور الخارجي المتنامي والمؤثر لتركيا في كثير من القضايا الإقليمية والدولية في ظل انخراطها العسكري في عدد من الصراعات المحيطة بها كسوريا وليبيا والتوازن الحساس الذي تُدير به موقفها في الحرب الروسية الأوكرانية، فضلا عن علاقاتها المتشابكة مع روسيا والغرب، فإن المعارضة ستواجه اختباراً صعباً في إدارة السياسة الخارجية. لقد بنى تحالف المعارضة جانبا أساسياً من خطابه على معارضة معظم السياسات الخارجية للرئيس رجب طيب اردوغان من سوريا والإقليم إلى العلاقات مع الغرب وروسيا. مع ذلك، فإن المقاربة المثالية التي تطرحها المعارضة لإصلاح العلاقات الخارجية تبدو غير واقعية مقارنة بالظروف التي تتحكم بهذه العلاقات، كما أنها لم تُقدم رؤية واضحة وعملية يُمكن تنفيذها على أرض الواقع.
مشروع السياسة الخارجية
يرتكز جوهر مشروع السياسة الخارجية التركية لقليجدار أوغلو على ثلاث قواعد أساسية: الأولى، إعادة التأكيد على هوية تركيا كجزء من الناتو والمنظومة الغربية عموماً، والثانية، إعادة تشكيل الشراكة الجيوسياسية الحالية مع روسيا على قاعدة أكثر توازناً بما يراعي بين مصالح تركيا مع روسيا وبين هويتها الجيوسياسية الغربية، والثالثة، إدارة الظهر للشرق الأوسط لأن الانخراط الفعال فيه، بحسب عقيدة قليجدار أوغلو، لم يجلب سوى المشاكل لتركيا. في هذه القواعد الثلاث، سيجد قليجدار أوغلو صعوبة في إحداث الموازنة التي أتقنها اردوغان بعناية. في ظل حكم محتمل للمعارضة، ستكون تركيا أقل قدرة على مقاومة الضغوط الغربية بالحفاظ على الهامش الاستقلالي الذي صنعه اردوغان في السياسة الخارجية عن الغرب. كما سيخاطر قليجدار أوغلو، بفعل توجّهاته الغربية، بتحويل روسيا إلى خصم استراتيجي لتركيا. مثل هذا التحول، سيكون له أضرار كبيرة على المصالح التركية المتداخلة مع روسيا في كثير من المجالات الحيوية، من تقاسم النفوذ معها في آسيا الوسطى وجنوب القوقاز وسوريا إلى تجارة الطاقة المربحة لتركيا، مروراً بالفوائد الاقتصادية الكبيرة التي تجنيها تركيا من العلاقة الودية مع روسيا خصوصاً في مجال السياحة والتجارة البينية. لقد برزت أهمية هذه التجارة بشكل أكبر بعد العزلة الغربية التي تعرضت لها موسكو بسبب حربها على أوكرانيا.
وسيتمثل التحدي الأول الذي سيواجه قليجدار أوغلو في السياسة الخارجية ـ إذا ما وصل إلى السلطة ـ بكيفية الحفاظ على موقف تركيا المتوازن في الحرب الروسية الأوكرانية. من غير المرجح أن يتخلى عن هذا التوازن، الذي ساعد أنقرة كثيراً في الحد من تداعيات الحرب عليها ومكّنها من تقوية موقفها الجيوسياسية في العلاقة بين روسيا والغرب، لكنّه من غير الواضح أيضاً كيف سيدبر الأمر بين هذا التوازن وبين إعادة التأكيد على هوية تركيا كجزء من المنظومة الغربية. أما التحدي الثاني الآخر، فيتمثل في كيفية إدارة المعارضة للسياسة التركية في سوريا والتعامل مع مسألة الوجود العسكري التركي فيها. يعد قليجدار أوغلو بإعادة العلاقات مع النظام السوري، لكنّه لم يذكر صراحة كيف سيتعامل مع مسألة الوجود العسكري التركي. ستكون هذه القضية إحدى أكثر المسائل تعقيداً في أي علاقة جديدة بين أنقرة ودمشق في المستقبل. أما التحدي الثالث الآخر في السياسة الخارجية في عهد محتمل للمعارضة، فيتمثل في كيفية إدارتها للقضايا الخلافية مع الاتحاد الأوروبي. لقد وعد قليجدار أوغلو بتحسين العلاقة مع الأوروبيين والاستجابة للشروط التي يضعونها على أنقرة من أجل رفع التأشيرة عن دخول الأتراك إلى أراضي الاتحاد الأوروبي ودفع عملية انضمام تركيا إلى الاتحاد، لكنّه سيواجهة مُشكلة كبيرة في كيفية إدارة موقف تركيا من القضية القبرصية.
على العكس من ذلك، لن يجد قليجدار أوغلو على الأرجح صعوبة في إدارة العلاقات مع المنطقة العربية خصوصاً أن اردوغان استطاع في الأعوام الثلاثة الماضية إعادة تحسين العلاقات مع معظم الخصوم الإقليميين السابقين كالمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة وإسرائيل، وجزئياً مصر. يُمكن استثناء الحالة الليبية التي ستكون التحدي الرابع الذي سيواجه قليجدار أوغلو. لدى تركيا مصالح حيوية في ليبيا ومن غير المرجح أن تتنازل المعارضة عنها لأنّها مرتبطة بالموقف الجيوسياسي لأنقرة في الصراع على ثروات شرق البحر المتوسط وكذلك بالمكانة التي سعت تركيا في عهد اردوغان لتحقيقها في القارة الأفريقية. سيخلق أي تحول سياسي محتمل في تركيا تساؤلات كبيرة حول مستقبل الدور الخارجي التركي خصوصاً في المنطقة العربية. وقد يؤدي إلى فراغ يعمل على إعادة ضبط عملية تشكيل النظام الإقليمي الجديد في الشرق الأوسط.