الوعود الاستثمارية أداة سياسية في سورية
31.07.2025
مالك الحافظ
الوعود الاستثمارية أداة سياسية في سورية
مالك الحافظ
العربي الجديد
الاربعاء 30/7/2025
ليس جديداً أن تُستخدم لغة الاقتصاد لتصريف الأزمات السياسية. وليست هذه المرّة الأولى التي يُستدعى فيها المال، أو وعد المال، أداةً لإسناد هيكل سلطةٍ قيد التشكّل. ففي الحالة السورية الراهنة، يبدو أن طرح المبادرات الاستثمارية يأتي جزءاً من خطاب رمزي يُستخدَم لتعويض غياب الشرعية التمثيلية وآليات التفاوض الفعلي، وهو ما يجعل من الاقتصاد حقل شرعنة، وليس حقل إنتاج. في الفترات الانتقالية، يمكن أن يتحوّل الخطاب الاقتصادي أداةً تعويضية من أجل تثبيت صورة أولية عن الدولة في المجال العام. وهو ما يمكن فهمه في ضوء ما تُسمّى "الشرعية غير المؤسّسية"، إذ تسعى السلطة إلى بناء تمثيل مقبول خارج أدوات الحوكمة الفعلية. وبهذا المعنى، يُعاد إنتاج الاقتصاد في سورية خطاباً سياسياً يملأ فراغ الشرعية.
منتدى الاستثمار السوري السعودي، أخيراً في دمشق، لا يمكن عزله من هذا السياق، فتتقاطع فيه الاعتبارات الاقتصادية مع التحوّلات السياسية الجارية، فالمليارات التي أُعلن عنها، لا تبدو مستقلّةً بذاتها، وإنما تنتمي إلى منطقٍ أكثر تعقيداً، يوظّف فيه المال الرمزي لتثبيت صورة السلطة القائمة، وليس بالضرورة إعادة بناء مؤسّسات الدولة. ما يتكشّف في الحالة السورية الراهنة هو استخدام الاستثمار بوصفه آليةً سياسيةً غير مباشرة، تُستعمل لإنتاج رسائل موجّهة إلى الداخل والخارج. فعلى الصعيد الداخلي، يُقدّم "الاستثمار" بوصفه تعويضاً مؤقّتاً لغياب السياسات الاقتصادية الفعلية، ووسيلةً لإدارة التوقّعات في ظلّ ندرة الإنجاز التنموي القابل للقياس. أمّا خارجياً، فيُستخدم المال الموعود علامةً على أن ثمّة ثقة إقليمية ودولية بالمسار السياسي، ما يعزّز صورة السلطة أمام شركاء محتملين ومراقبين دوليين.
في أنماط الحكم التي تشكو من هشاشة التمثيل السياسي أو غياب آليات التفاوض العام، يُوظّف الخطاب الاقتصادي وسيلةً لتأجيل الاستحقاقات الجوهرية
لا يخرج هذا النمط من الإدارة عن نموذج يمكن تسميته "الشرعية المؤقّتة عبر المال الرمزي"، وفي هذا النموذج، لا يُنتظر من السلطة أن تقيم دورة اقتصادية مكتملة، بل إنتاج مشهد مالي تمثيلي يوحي بوجود دورة اقتصادية، رغم أنه غالباً ما يكون مؤجّلاً، أو مشروطاً، أو منعدماً في الواقع التنفيذي. مفهوم "الشرعية" المستخدم هنا لا يُحيل إلى شرعية مستندة إلى الإنجاز الفعلي أو التمثيل المؤسّسي، وإنما إلى ما وصفته حنة أرندت بـ"الطاقة الرمزية للسلطة"، التي تستمدّها من قبول الجمهور للصورة التي تُنتجها عن نفسها. كما يمكن أن نستعير من حقل الاقتصاد السياسي النقدي فهماً أعمق لكيف تُنتج الأنظمة شرعيتها عبر تمثيلات ظاهرية للبنى والمؤسّسات من دون الحاجة إلى بنائها فعلياً.
النموذج السياسي الاقتصادي الأقرب إلى فهم هذه البنية، يقارب ما وُصف في أدبيات الاقتصاد السياسي بـ"الدولة الريعية الرمزية" أو "الدولة المؤدّية للريع"، إذ لا تتوافر الموارد الطبيعية أو الإنتاجية بشكلٍ ثابت، ولكنه يُحاكى منطق الدولة الريعية عبر تسويق الوعود التمويلية بوصفها أداةً رمزية لبناء شرعية ما قبل مؤسّسية، ويُستعاض عن البنية الإنتاجية الفعلية بإنتاج رسائلَ اقتصادية تعزّز موقع السلطة في المجال العام. في هذا السياق، يُستخدم الخطاب الاقتصادي بوصفه مورّداً رمزياً بحدّ ذاته، ويُعاد إنتاج حضور الدولة من خلال الأرقام والتعهّدات، وليس من خلال بنية اقتصادية متماسكة أو دورة إنتاج حقيقية. وهو ما يجعل بنية الاقتصاد، في نهاية المطاف، تنمو من خطاب مؤجّل يحافظ على الهيكل السياسي أكثر ممّا يقدّم مشروعاً إنتاجياً قابلاً للتراكم.
ولكي نُدرك أبعاد ما يمكن وصفه بالريع المؤجّل في الحالة السورية، من المفيد التمييز بين شكلَين من الريعية: الريع الاقتصادي، الذي يُشير إلى مواردَ ثابتةٍ نسبياً، تُستخدم لتمويل الدولة من خارج دورة الإنتاج (مثل النفط أو الضرائب الجمركية). والريع السياسي، الذي تُعيد فيه السلطة إنتاج شرعيتها من خلال السيطرة على شبكات التوزيع، والوعود التمويلية، ودخول السوق عبر قنوات احتكارية أو مؤجّلة، من دون بنية إنتاجية مستدامة.
تتقدّم مؤتمرات الاستثمار في سورية بوصفها أداةً رمزيةً أكثر من أنها مدخلاً فعلياً لإطلاق دورة إنتاج أو إعادة بناء
وليس هذا النمط جديداً في التجارب الانتقالية العربية. في مصر ما بعد 2013 على سبيل المثال، أُعلنت تعهّدات استثمارية تتجاوز 130 مليار دولار في مؤتمر شرم الشيخ عام 2015، أغلبها من دول الخليج. لم تؤدِّ هذه المبالغ إلى تغيير بنيوي في هيكل الاقتصاد المصري، بل تحوّلت تدريجياً أداةً ماليةً لإدارة الاستقرار، تزامنت مع توسّع هيمنة المؤسّسة العسكرية على المجال الاقتصادي، واستمرار الفجوات التنموية على حالها. في العراق بعد 2003، رُصدت مليارات لإعادة الإعمار، خصوصاً في مؤتمر الكويت عام 2018، لكن غياب المؤسّسات الرقابية، وتداخل الصلاحيات السياسية الطائفية، أفرغ تلك المخصّصات من فاعليتها، كما تحوّلت مشاريع الإعمار واجهاتٍ لتغذية شبكات الزبائنية السياسية، من دون أثر حقيقي في جودة الحياة أو مؤشّرات التنمية. وفي لبنان، كان مؤتمر "سيدر" عام 2018 أبرز تمظهر لهذا النموذج، فقد قُدِّمت حزمة دعم تفوق 11 مليار دولار مشروطةً بإصلاحات هيكلية، لكن النُّخبة السياسية استثمرت الإعلان عنها لتثبيت موقعها في السلطة من دون أن تنفّذ ما يضمن الإفراج عن تلك الأموال. وكانت النتيجة انفجاراً مالياً اجتماعياً لاحقاً، كشف التناقض بين الخطاب الاقتصادي وممارسات الحكم الفعلية.
لا يُعاب على أيّ سلطة انتقالية أن تبحث عن دعم اقتصادي أو استثمار خارجي، فذلك جزء من أدوات الحكم المشروع. لكن يصبح من المشروع، في المقابل، أن تُطرح تساؤلات نقدية حين يُستخدم الخطاب الاقتصادي لتغليف فراغ سياسي لا يزال قائماً. خصوصاً حين تكون المؤسّسات في حالة تشكّل غير مستقر، والضمانات الوطنية للمحاسبة والرقابة لم تتبلور بعد.
وفي وقتٍ لم تتشكّل فيه مرتكزات واضحة لحوكمة اقتصادية مستقرّة في سورية الانتقالية، تتقدّم مؤتمرات الاستثمار بوصفها أداة رمزية أكثر من أنها مدخلاً فعلياً لإطلاق دورة إنتاج أو إعادة بناء. هذه المؤتمرات أو المنتديات الاستثمارية لا تعبّر عن تحول مؤسّسي جادّ، بل تُستخدَم لإظهار قدرة الدولة على البقاء ضمن منطق العلاقات الإقليمية والدولية، حتى في غياب البنية القانونية والتنفيذية اللازمة. ما يجري في سورية لا يُعبّر عن انخراط فعلي في دورة إنتاجية، بقدر ما يُعيدنا إلى ما يصفه منظّرو السياسة الاقتصادية بـ"الحكم الرمزي"، فتُنتج الدولة حضورها عبر التمثيل المالي المؤجّل، من دون أن تمتلك الأدوات البنيوية لبناء تراكم اقتصادي فعلي أو شبكة قرارات قابلة للمساءلة. كذلك تميل المنتديات أو المؤتمرات الاستثمارية (في مثل هذه الظروف والحالات) إلى أداء وظيفة مسرحية تنتمي إلى ما وصفها جيمس سكوت "الدولة الاستعراضية"، فلا تكون الغاية تحقيق نتائج مادّية أو إنتاجية مباشرة، وإنما إظهار شكل من أشكال الفاعلية الرمزية.
من المشروع طرح تساؤلات حين يُغلِّف الخطاب الاقتصادي فراغاً سياسياً، لم تتبلور معه ضمانات وطنية للمحاسبة والرقابة
في الحالة السورية الراهنة، لا يمكن فصل الخطاب الاستثماري عن طبيعة الهيكل السياسي الذي يقدّمه، فالاستثمار لا يُطرح هنا ضمن رؤية اقتصادية متكاملة أو مشروع إنتاجي فعلي، بل تُستعمل هذه الوعود الاستثمارية لتكريس نمط من الإدارة الاقتصادية يُتخذ فيه القرار في دوائر ضيقة، من دون إشراك مؤسّسات رقابية مستقلة أو فتح نقاش عام حول أولويات التنمية. وبهذا المعنى، لا تؤسّس السلطة لمسار اقتصادي تشاركي، وإنما تحتفظ بالاقتصاد أداةً للضبط السياسي.
في أنماط الحكم التي تشكو من هشاشة التمثيل السياسي أو غياب آليات التفاوض العام، غالباً ما يُوظّف الخطاب الاقتصادي وسيلةً لتأجيل الاستحقاقات الجوهرية. وما قد يظهر في الخطاب الرسمي ليس خطةً اقتصادية بمضامين واضحة، بقدر ما يكون رواية تُستخدم لملء الفراغ الناتج من غياب الإجماع الوطني حول شكل الحكم، وتوزيع السلطة، ودور المجتمع في تحديد الأولويات التنموية.
في نهاية المطاف، لا تُفهم أدواتٌ مثل "مذكّرات التفاهم" و"نيات الاستثمار" في السياق السوري الانتقالي بوصفها مؤشّرات مباشرة على انطلاق مشاريع إنتاجية، أو دخول البلاد في دورة اقتصادية فعلية، بل جزءاً من محاولة لترسيخ حضور رمزي في المجال الاقتصادي. وبهذا المعنى، تتحوّل اللغة الاقتصادية من أن تكون مدخلاً للتنمية إلى أداة تكميلية لبناء شرعية تمثيلية مؤقّتة، تؤدّي وظيفةً استعراضيةً أكثر منها بنيوية، في ظلّ استمرار الغموض حول آليات القرار ومحدّدات التوزيع والتنفيذ.