الرئيسة \
تقارير \ الواقعية شرطاً للاستقرار في سوريا… وللحداثة أيضا!
الواقعية شرطاً للاستقرار في سوريا… وللحداثة أيضا!
16.08.2025
وائل ميرزا
الواقعية شرطاً للاستقرار في سوريا… وللحداثة أيضا!
وائل ميرزا
القدس العربي
الخميس 14/8/2025
في قلب الفكر الحداثي الغربي، ومنذ تشكّله الأول مع عصر الأنوار، برزَ وهمٌ خطير: أن الإنسان قادرٌ على إعادة صياغة العالم بأكمله بقوة العقل وحده، كما لو أن الواقع هو مجردُ كتلةٍ من الطين يمكن تشكيلها بمجرد الإرادة. لكن التاريخ لم يتأخر كثيراً في تقديم الرد العملي: ففي أعقاب الثورة الفرنسية، وبدل أن تصل البشرية إلى “مدينة فاضلة”، وُلد الرعب، وسقطت الجمهورية الأولى في هاوية المقاصل، ثم في استبداد نابليون الذي داس على مبادئ الثورة نفسها باسم خلاصها.
لم يكن هذا مجرد انحرافٍ عارض، وإنما كشفاً مبكراً عن إحدى المفارقات الكبرى في الحداثة: أن الطوباوية الثورية، حين ترفض التعامل مع الواقع بميزان القوى والممكن والمتاح، تنقلب على نفسها، وتُنتج نسخةً أشدّ قسوةً مما جاءت لهدمه.
وهكذا، ظهرت، بالتدريج، نزعةٌ فكرية عميقة ترى أن التحرر الحقيقي لا يتم عبر الهروب من الواقع، بل عبر فهمه فهماً دقيقاً، بل وتفكيكه أحياناً، من أجل إعادة بنائه على أسس عقلانية. هذه النزعة، التي يمكن أن نُسميها “الحداثة الواقعية”، لا تجد ضيراً في العمل داخل النظام القائم من أجل تغييره، ولا تتورع عن الاعتراف بوجود تناقضات وتوازنات قوى، ترى أنها جزء لا يتجزأ من عملية التقدم.
لقد أدرك مفكّرون من أمثال ماكس فيبر وريمون آرون وحنّة أرندت أن السياسة، لكي تكون أداةً فعالة في خدمة القيم، لا بد أن تنطلق من قراءةٍ دقيقة لممكنات الواقع، لا من إسقاط الرغبات والمثاليات عليه.
فحين فرّقَ ماكس فيبر بين “أخلاق النية” و”أخلاق المسؤولية”، لم يكن يُنظّر لانعدام القيم، وإنما كان يُعلّم السياسي الحداثي كيف يكون فاعلاً ضمن تضاريس الواقع لا خارجها. إنه لا يُدين الأولى، لكنه يقول: “السياسي لا يملك رفاهية التصرف فقط وفق نوايا طيبة. السياسة ليست مملكة الأخلاق المثالية، بل حقل من التوازنات، فيها العنف الشرعي، والصراع، والمساومة، ويجب أن يُوزن فيها كل قرار بكلفته ونتيجته”. وبما أنه كان شاهداً على كيف أن الخطاب الأخلاقي المطلق الذي رفعه بعض الثوريين والوطنيين قاد إلى كارثة سياسية بسبب تجاهلهم للواقع الألماني: هشاشة المؤسسات، المزاج الشعبي، القوى الدولية، تعقيدات الحرب، الخ. فقد انتقد بشدة الحركات التي أرادت “إعادة خلق الأمة” من الصفر، ورأى أن الدولة لا تُبنى بالشعارات، بل بمراكمة الثقة، وبمؤسسات تعمل، وبسياسة تُدار كحرفة يومية، لا كخطبة حماسية.
أما ريمون آرون، أحد أبرز من بلوروا ما يمكن تسميته بـ”الواقعية الأخلاقية”، فإنه لم يكن براغماتياً خالصاً، ولا مثالياً عاطفياً، وإنما جمع بين الالتزام بالقيم الليبرالية، وبين الإقرار بتعقيدات الواقع السياسي. ومن هنا مقولته: “السياسي الحداثي لا يهرب من الواقع بل يحوّله بالتدرج، دون إنكار شروطه الأولية”. ومن هنا، أيضاً، رفضه للشيوعية الثورية رغم تبنّيه أفكار العدالة الاجتماعية، لأنه رأى أن الحلم بالمساواة الكاملة إذا أُنزل على الواقع دون مراعاة بنيته، يتحوّل إلى استبداد شمولي. وكذلك انتقاده لليسار الفرنسي في الخمسينيات والستينيات، من الذين ـ برأيه ـ وقعوا في فخ الإيمان الأيديولوجي الطوباوي.
وفي السياق نفسه، لم تكن حنة أرندت منظّرةً سياسية تقليدية، وإنما مفكّرة في أصل السياسة، تأثرت بتجربة النازية شخصياً. إذ هربت من ألمانيا قبل ذلك، وعايشت كيف تتحول الفكرة المثالية إلى آلة قمع حين تُفرض بالقوة وتُحاط بالإيمان الأعمى. وتلك خلفية رفضها الحاسم للثورات التي تُحوّل الحلم إلى مشروع شمولي، مثل الثورة البلشفية، وإدانتها للمثقفين الذين يُسقطون المثال على الواقع دون مساءلة، معتبرةً أن ذلك يقود إلى تبسيط خطر للسياسة.
بمثل هذا المنطق، أصبحت الواقعية السياسية إحدى أدوات الوعي الحداثي نفسه، لا نقيضاً له. إذ لا حداثة حقيقية من دون تشخيصٍ دقيق للبُنى الواقعية القائمة، سواء في الدولة أو في المجتمع أو في المنظومات الاقتصادية والمعرفية. وكل محاولةٍ للقفز على الواقع بدعوى “التحرر” أو “الثورة”، دون امتلاك أدوات تفكيكه أو أدوات بناء بديله، سرعان ما تتحوّل إلى نسخة أخرى من المأساة، أو حتى الملهاة.
وفي سياق التجارب البشرية، جاءت الثورات لتُفرز دروساً قاسيةً تُظهر كيف أن (الطهرانية) النظرية يمكن أن تكون سبباً لهزيمة القيم، وبأيدي أبناء الثورات أنفسهم.
ففي روسيا 1917، أصرّ البلاشفة على إقامة الفردوس الاشتراكي دفعةً واحدة، فانتهى الأمر بهم إلى تحويل البلاد إلى سجنٍ جماعي، قاده ستالين بحفلات الإعدام والتجويع. لم تكن المشكلة في الحلم، بل في تجاهل الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي لبلدٍ خرج للتوّ من الحرب والفقر والانقسام.
وفي الصين، أدت “القفزة الكبرى للأمام”، في عهد ماو تسي تونغ، المبنية على طوباوية راديكالية، إلى أكبر مجاعةٍ عرفها التاريخ الحديث، راح ضحيتها عشرات الملايين. وكان جوهر الخطأ هو تجاهل البنية الزراعية والمعرفية للمجتمع الصيني، لصالح حلمٍ يقفز فوق الواقع بلا جسور.
إن الواقعية الحداثية السورية المطلوبة ليست استسلاماً، وإنما هي فنٌّ في التدرج، واستراتيجيةُ بقاءٍ وتحوّل
وقد يكون الفارق فيما يتعلق بعنصر (الواقعية) شديد البروز في معرض المقارنة بين الثورتين الفرنسية والأمريكية. فبينما أرادت فرنسا أن تقطع مع الماضي بحدّ السكين، وأن تبني الجمهورية من العدم، كانت أمريكا أكثر تواضعاً، وأكثر احتراماً لتعقيدات الواقع. لهذا، لم تسعَ إلى تغيير الإنسان جذرياً، وإنما إلى بناء نظامٍ يحترم توازنات المصالح، ويحتوي التناقضات، ويُطوّر ذاته مع الزمن. ولهذا، ما زال دستور 1787 هو الإطار الحاكم في الولايات المتحدة، في حين بدّلت فرنسا جمهورياتها خمس مرات خلال قرنين.
وبشكلٍ عام، تَظهر، في التجارب السياسية التي سقطت في الطوباوية، مفارقةٌ تاريخية مؤلمة: إن خطاب رفض الواقع بإصرار، والتركيز على جزءٍ من صورته الشاملة، والحلم بإسقاط ما هو قائم، ولو كان بلسان الحال وليس بلسان المقال، كثيراً ما تحوّلَ إلى سلطة استبدادية تُعيد إنتاج الطغيان بشعارات أخرى. وإذا كان الاستبداد الكلاسيكي يستند إلى الخوف والقمع، فإن الاستبداد الطوباوي يستند إلى احتكار المعنى، وتأليه الأيديولوجيا، وتجريم كل مَن يختلف أو يسأل.
وفي ظل جملة التجارب البشرية في القرنين الأخيرين، يبدو من الخطأ القاتل النظَر إلى الواقعية السياسية باعتبارها عدواً للتغيير أو مرادفًا للرضوخ. بل ربما كان الأمر على العكس تماماً، إنها شكلٌ راقٍ من أشكال العقل الثوري، لكنّه العقل الذي يدرك أن الثورات الناجحة ليست التي تُطيح بالأنظمة فحسب، وإنما هي تلك التي تبني ما بعدها من دون أن تبتلع نفسها.
إن الحداثة الواقعية لا تقول للناس: “لا تحلموا”. وإنما تقول: “احلموا بعمق، لكن ابنوا الجسر بين الحلم والواقع، ولا تقفزوا في الهواء فتسقطوا في الفراغ”. ولهذا، فإن الواقعية، في هذا السياق، تُصبح، في الأخلاق السياسية، أعلى قيمةً وفعاليةً، لأنها تعني احترام الإنسان ودمه وجهده، لا المتاجرة به في سوق الأوهام.
وفي السياق السوري المعقد، تتجاوز هذه القضايا كونها مجرد نقاشاتٍ فلسفية، لتدخل في صميم السؤال السياسي اليوم:
هل نُعيد إنتاج أخطاء الطوباويين عبر خطاب نقيّ، ولكنه أعمى عن الواقع، أو أعور يرى بعينٍ واحدة، أم نُراكم بإصرارٍ بطيء، وذكاءٍ مرن، ما يمكن بناؤه داخل شروط اللحظة، بوعيٍ أن التغيير ليس قفزة من الجحيم إلى الفردوس، وإنما هو انتقال شاقّ عبر مناطق رمادية؟
قد يكون جلياً هنا أن من يرفض العمل ضمن الممكن باسم المطلق، يغلبُ عليه أن يخسر الاثنين معاً. ومن ينتظرُ “صفراً كلياً” للنظام ليبدأ البناء، يفتح الباب للفوضى أو للاستبداد بلونٍ جديد.
إن الواقعية الحداثية السورية المطلوبة ليست استسلاماً، وإنما هي فنٌّ في التدرج، واستراتيجيةُ بقاءٍ وتحوّل. وهي، بعكس ما يظن البعض، في جوهر الفكر الحداثي الناضج. فالحداثة التي تُنكر الواقع، سرعان ما تنقلب إلى شعوذة سياسية، تُشبه خطب العرّافين أكثر مما تُشبه مسارات الأمم الناهضة.
والواقعية الحداثية السورية المطلوبة تقبل بالبدايات الناقصة، وترى في الإصلاح الجزئي محطةٍ في مسار التغيير. وهي تُدرك أن التاريخ ليس حلبةً للصراخ، وإنما هو ميدانٌ للفعل المحسوب، وأنّ الطوباوية لا تُنتج مدينة فاضلة، بل فوضى أخلاقية وسياسية قد تُفضي إلى الاستبداد ذاته الذي جاءت لمحاربته.
لكل ذلك، فإنَّ من يرفض الواقعية اليوم، تحت شعار النقاء الحداثي والنضال اللامساوم، قد يكون أبعد الناس عن روح الحداثة الحقيقية. إذ إن الحداثة، في جوهرها، ليست قطيعةً جذرية مع الماضي والواقع، وإنما هي مفاوضةٌ متقنة مع كليهما، لاجتراح مسارات التحول الممكن والتدريجي، دون الوقوع في فخ الاستبداد المضاد، أو، ربما، تطورِها إلى يوتوبيا قاتلة.
إن سوريا الخارجة من الانقسام والدمار، المحاصرة بالتحديات الداخلية والتجاذبات الدولية، لا تحتاج خطاباتٍ طوباوية تُزايد على الدم، ولا تنظيراتٍ متعالية تنكر جراح الناس.
إنها تحتاج إلى: دولة تتصالح مع الواقع دون أن تستسلم له. وسياسة تبني الممكن وترتقي به تدريجياً نحو المأمول. وقيادات، ونُخب، تعرف أن الشرعية تُؤسس بالعقلانية، وتُصان بالحكمة، لا بالصوت العالي.
لكل ما سبق، لم تعد الواقعية الحداثية السورية المطلوبة اليوم ترفاً فلسفياً، وإنما باتت ضرورةً وجودية. إنها ليست خياراً من بين خيارات، وإنما هي قاعدة البقاء ذاته. ومن دونها، لن تبقى دولة، ولن يكون هناك وطن، ولا حتى قضيةً يدافع عنها أحد.