الرئيسة \  تقارير  \  الفواعل الهجينة: أين موقعها في العلاقات الدولية؟.. سوريا نموذجاً

الفواعل الهجينة: أين موقعها في العلاقات الدولية؟.. سوريا نموذجاً

31.08.2025
محمد السكري



الفواعل الهجينة: أين موقعها في العلاقات الدولية؟.. سوريا نموذجاً
محمد السكري
سوريا تي في
السبت 30/8/2025
تعتبر الشركات الأمنية الخاصة Private Military and Security Companies إحدى أهم الفواعل التي ساهمت بأدوار كبيرة خلال الحروب والصراعات الدولية، ومثّلت حربي أفغانستان والعراق لحظات تجلي دور الشركات الأمنية على خلفية الدور الذي قامت به. فقد ساهمت شركة مثل بلاك ووتر الأميركية (Blackwater) بدور بارز في الحرب العراقية خلال الغزو الأميركي، وبذات السوية خلال الثورة السورية عبر الدور الذي مارسته شركة فيغنر الروسية (Wagner Group) كما شكّلت الحرب العراقية إحدى أهم الانعطافات في العلاقات الدولية.
هذا التحوّل أعاد فتح أسئلة جوهرية في النظرية السياسية والعلاقات الدولية: ما هي الدولة؟ ما هو الأمن؟ ومن يمتلك حق استخدام العنف؟ فوفقًا لتعريف ماكس فيبر: الدولة الحديثة تقوم على "احتكار العنف المشروع"، وهو ما يتناقض جذريًا مع دور هذه الشركات التي أصبحت فاعلًا مستقلًا في دوائر العنف. وذلك على خلفية أدوار هذه الشركات كأطراف عسكرية فاعلة في النزاعات الدولية، قادرة على تغيير موازين القوى دون أن تكون دولًا ذات سيادة.
كما أخذت هذه الشركات بعدًا أعمق، ولا سيما في تشكيل فضاء دولي أمني، خارج نطاق الدولة Global Security Assemblages، بالتالي خارج نطاق العلاقات الدولية الطبيعية بين الدول، ما يعني إعادة التعريف العلاقات بين الدول نفسها، وتعريف علاقة الدولة بالعنف الشرعي، وذلك بتغيير القواعد الأمنية بين الدول.
تحوّل العنف من دور حماية الدولة الوطنية إلى مبدأ العرض والطلب ولو كان على حساب هذه المبادئ، مما قد يمثل تعارضًا مع مفهوم السيادة.
الانتقال إلى ما بعد وستفاليا: اختراق الدولة القومية:
يبرز النقاش النظري والتطبيقي حول انتقال النظام الدولي من الوستفالي (Westphalian Order 1648)، القائم على سيادة الدولة، إلى ما يُسمّى بـالنظام ما بعد الوستفالي (Post-Westphalian Order)، بالتزامن مع تعدد الفواعل ما بين: دول، وشركات خاصة، ومنظمات دولية، وجماعات ما دون الدولة، التي ظهرت كذلك في صراعات كثيرة لا سيما خلال ثورات الربيع العربي.
ولعلّ من أبرز من لحظ هذا التحول هو بيتر سينغر (P.W. Singer) في كتابه The Rise of the Privatized Military Industry حيث أشار إلى أنّ الحرب لم تعد حكرًا على الدولة، بل باتت متاحة لفاعلين آخرين وأن هذه الشركات باتت تشكل ثورة في الشؤون العسكرية؛ ومن خلال مفهوم "التعددية المعقّدة" رأى روبرت كيوهان (Robert Keohane) أنّها أفسحت المجال أمام ظهور فواعل غير دولاتية، باتت تشارك في صياغة التفاعلات الدولية، وهو ما يتوافق مع توسع دور الشركات الأمنية.
بالتالي، أدّت الشركات الأمنية ودورها في الصراعات إلى استشعار خطرها على كيان الدولة القومية والوطنية، مما دفع لنقاشات حقيقية في سويسرا مطلع العام 2008 عن ضرورة قوننة هذه الشركات ضمن إطار القانون الدولي الحديث، حيث شكّلت "اتفاقية مونترو" الدولية لحظة الاستيعاب الدولي لتآكل مفهوم العنف الذي يعتبر العصب المركزي للدولة الوطنية، في محاولة إنقاذ الدولة كفاعل مركزي من التآكل، لكنها في ذات التوقيت لم تنجح في إنهاء دور الشركات الأمنية، بل أصبحت تلك الشركات إحدى أهم الأسواق التجارية العسكرية والأمنية في العلاقات الدولية ولا تقل أهمية عن الأنماط الاقتصادية والتجارية والأمنية في العلاقات.
مما ساهم في انتقال القوة من المجال العام إلى المجال الخاص ضمن ما يمكن إطلاق عليه اصطلاحًا خصصة العنف (Privatization of Violence) فلم توفّر اتفاقية مونترو2008 (Montreux Document)، توضيحًا حول حدود الشركات الأمنية ضمن المجال الخاص مما يعني تعارضًا حتميًا مع كيان الدولة وأفسحت التفسيرات للدولة التي عرفت دور الشركات ضمن الإطار العام وفق كل سياق، فعلى سبيل المثال: تربط الإمارات العربية المتحدة دور الشركات الأمنية ضمن "الأمن الوقائي" بينما قلصت جنوب إفريقيا بشكل تام إلّا بما يخدم مصلحة الدولة نفسها.
يعني هذا، تحوّل العنف من دور حماية الدولة الوطنية إلى مبدأ العرض والطلب ولو كان على حساب هذه المبادئ، مما قد يمثل تعارضًا مع مفهوم السيادة، ولعلّ أبرز أوجه تهديد العلاقات الدولية هو تكريس فجوة مبدأ القوة بينها، حيث باتت الدول القوية تستخدم الشركات الأمنية لتوسيع نفوذها، بينما تحوّلت الدول الضعيفة إلى ساحات مفتوحة لنشاط هذه الشركات، ومن أبزر الأمثلة الحية النموذج السوري، كما أنّ أكثر ما يثير القلق هو أن الدول الكبرى لجأت إلى توظيف هذه الشركات لتعزيز نفوذها بأقل كلفة سياسية وعسكرية، في حين أصبحت الدول الضعيفة ساحات مفتوحة لنشاط هذه الشركات، وهو ما يمثل تهديدًا مباشرًا لمفهوم السيادة والعلاقات الدولية المستقرة.
على الرغم من أن البعض يقارن الشركات الأمنية بالميليشيات، إلا أن هناك فارقًا أساسيًا: فالميليشيات عادةً ما تنطلق من مشاريع سياسية أو دينية أو أيديولوجية كفواعل ما دون دولة NON-STATE ACTORS، بينما الشركات الأمنية تُدار بمنطق الربح التجاري، ما يجعلها أقرب إلى أدوات اقتصادية تُسوّق للعنف في صورة خدمات. هذا البعد الربحي يعكس صعود السوق داخل الحقل الأمني، بحيث يُعاد تعريف الحرب كمنتج اقتصادي قابل للتداول، وليس كحالة استثنائية تخضع لسيادة الدولة.
إن المعضلة الأساسية تكمن في أن الشركات الأمنية باتت تُمثّل حالة وسطية بين الفاعل الرسمي (الدولة) والفاعل غير الرسمي (الميليشيات أو الجماعات المسلحة)، فهي تعمل بترخيص من الدول أحيانًا، لكنها في الوقت ذاته تخضع لاعتبارات السوق والشركات العابرة للحدود. وهذا ما جعلها أحد أبرز تجليات العولمة الأمنية التي قلّصت المسافات بين الداخل والخارج، ودفعت الدول نحو أنماط جديدة من التعاقد لتنفيذ أجندة أمنية، حيث بلغت قيمة هذه "الصنعة" نحو 244 مليار دولار سنوياً.
ويمنح هذا النمط من التشكيلات، الفرصة للدول من أجل الانخراط في الصراعات وتعزيز النفوذ وتوسيع المجال الحيوي بأقل كلفة ممكنة، وذلك عبر استخدام الشركات الأمنية، مما يجنب الجيوش الخسائر المادية والجسدية، كما يساعد على تملص الدول من أيّة عمليات ملاحقة كما في نموذج روسيا عبر شركات فيغنر في سورية وأوكرانيا، ولا سيما أن نطاق هذا الشركات على مستوى القانون الدولي ما زال مبهمًا في تفاصيل كثيرة، بالتالي باتت تستخدم هذه الشركات ضمن معادلات القوة في العلاقات بين الدول، هذا ما عدا أنّ بعض الدول تستعين بشركات أمنية تتبع لدول أخرى بناءً على صفقات اقتصادية وأمنية.
سوريا: نموذج عن تطور الشركات الأمنية
تشكّل الشركات الأمنية الخاصة في سوريا نموذجًا حيًا لكيفية تآكل مفهوم الدولة وتبدل سمات العلاقة بين الدولة على مستوى العلاقات الدولية، حيث باتت هذه الكيانات كأداة لتعزيز استقرار النظام السياسي وضمان بقائه في مواجهة التحديات الداخلية. وفق إحصاءات وزارة الداخلية لعام 2019، كان هناك أكثر من 78 شركة أمنية تعمل في البلاد، غير أن هذا الرقم يمثل مجرد تقدير جزئي، إذ اعتمد نظام الأسد على شبكات شركات محلية مدعومة من قبل إيران وروسيا أو شركات روسية، لتنفيذ مهام عسكرية وأمنية متقدمة. ومن أبرز هذه الشركات: شروق، وقلعة، وقاسيون، والفجر والتي قدمت خدمات متنوعة تشمل الحماية الشخصية لمسؤولين ونخب سياسية، وتأمين المنشآت الحكومية والحيوية والسياحية منها الفنادق، بالإضافة إلى تقديم دعم استخباري لجيش النظام، وأحيانًا إسناد عسكري.
كما من الملفت أن هذه الشركات المحلية لديها استطاعة عالية على إعادة التموضع والتكيف وفق متغيرات الواقع السياسي، مما يترك الريبة حول فعاليتها وأدوارها الوظيفية، فعلى سبيل المثال، أعادت كل من شركة شروق والفجر تعريف نمط الدور بعد انتهاء مرحلة الأسد، متخذة نمط عمل جديد يركّز على تقديم خدمات حماية للفنادق والمنشآت الخاصة وتنتشر بين فندق الشام والفراديس والفردوس في العاصمة دمشق. هذا التحوّل يعكس قدرة هذه الشركات على التكيّف مع المتغيرات السياسية والاقتصادية، ويظهر أنها ليست مجرد أدوات للحرب، بل جزء من النظام الأمني الموازي الذي يتداخل فيه القطاع الخاص مع الوظائف الأمنية التقليدية للدولة.
من الناحية التشريعية، تعكس البنية القانونية السورية للشركات الأمنية ضعف التنظيم والرقابة، إذ تعتمد على مجموعة من القوانين الجزئية والمرسوم التشريعي، منها مرسوم الشركات الأمنية رقم 55 لعام 2013 الذي ينظّم الترخيص ورأس المال والمتطلبات الإدارية الأساسية، والقانون رقم 22 لعام 2023 كتعديل جزئي، بالإضافة إلى قوانين أقدم مثل قانون الحراسة رقم 37 لعام 2006. هذه القوانين ترتكز على الجوانب الإدارية والمالية، لكنها في ذات التوقيت لا تتعامل بفعالية مع النشاط العسكري المباشر أو الشركات الأجنبية، ما يخلق ثغرات تشريعيّة تسمح بمرونة عالية في عمل الشركات، ويضع الدولة أمام تحديات سيادية كبيرة، خاصة في مناطق النزاع.
عند مقارنة سوريا بدولة مثل جنوب إفريقيا، يظهر الفارق الكبير في التنظيم والرقابة. لكن في ذات التوقيت تعتبر جنوب إفريقيا نموذجًا ناجحًا للتعامل مع الشركات الأمنية عقب الصراعات، تعتمد جنوب إفريقيا على قانون شامل ومنظم منذ عام 2001 يعرف باسم Regulation of Private Security Industry Act (PSIRA)، يشمل الترخيص، والتدريب، والرقابة، والمساءلة القانونية. الرقابة هناك قوية، وتشمل التفتيش الدوري، وتقييم الأداء، وعقوبات صارمة، ما يحافظ على سيادة الدولة واحتكارها للعنف المشروع. في المقابل، تعتمد سوريا على تراخيص إدارية غير موحدة ورقابة ضعيفة، ما يعكس هشاشة البنية التشريعية وأثرها على سيادة الدولة.
إن ظهور هذه الشركات ليس مجرد حالة طارئة، بل يعكس تحولًا بنيويًا في شكل ونمط العلاقات الدولية والدبلوماسية، حيث لم تعد الدولة الفاعل الوحيد المحتكر للأمن والعنف، بل أصبحنا أمام مشهد دولي متشابك تبرز فيه قوى هجينة تجمع بين منطق الدولة ومنطق السوق.
الإطار القانوني
لا توجد قوانين متكاملة للشركات العسكرية الخاصة، تنظيم جزئي فقط عبر قوانين الحراسة والأمن الخاص مثل قانون 37 لعام 2006 والمرسوم 55 لعام 2013
لديها قانون متكامل ومنظم منذ 2001، يسمى Regulation of Private Security Industry Act ، يشمل كل جوانب عمل الشركات الأمنية، التدريب، الترخيص، والرقابة.
نوع الشركات المنظمة
شركات الحراسة الخاصة، حماية المنشآت، خدمات المراقبة، قانونيًا لا تشمل العمليات العسكرية أو المرتزقة، تطبيقيًا هي مشمولة
شركات الحماية، شركات الأمن الشخصي، الحماية المسلحة، التدريب العسكري الخاص، بما في ذلك بعض الوظائف القتالية المحدودة.
التدريب والمتطلبات المهنية
متطلبات أساسية لتدريب العاملين، لا توجد معايير موحدة شاملة، التفتيش ضعيف.
معايير تدريب صارمة، شهادات اعتماد إلزامية لكل العاملين، دورات تجديد دورية، وتقييمات منتظمة.
لنشاط خارج الدولة
قانونيًا غير مسموح، عمليًا مسموح واستخدمه النظام السابق
النشاط الدولي محدود، وهناك قيود صارمة على العمل العسكري خارج الدولة، مع إمكانية تصاريح خاصة.
الرقابة والتفتيش
       ضعيفة نسبياً، خصوصًا في مناطق النزاع أو الشركات الجديدة.
       قوية ومنظمة، تشمل التفتيش، الغرامات، الإيقاف، وحتى السجن في حالات الانتهاك.
نتيجة على مفهوم الدولة والسيادة
       لا يحافظ على مفاهيم السيادة واحتكار العنف، بل يعرض واقع الشركات الدولة للخطر.
النظام التشريعي يحافظ على احتكار الدولة للعنف، ويضمن الرقابة الكاملة للشركات، ما يقلل التحديات لسيادة الدولة.
سياسيًا وعسكريًا، تمثل الشركات الأمنية الخاصة في سوريا نموذجًا على التحوّلات التي يعرفها العالم بعد اتفاقيات وستفاليا، حيث لم تعد الدولة الفاعل الوحيد في استخدام القوة. فالتداخل السابق بين مصالح نظام الأسد ومصالح القوى الإقليمية مثل روسيا وإيران يجعل هذه الشركات أدوات للسياسة الإقليمية بقدر ما هي أدوات وطنية في النموذج السوري توزعت أدوار هذه القوى بين ما أصبح بعضها بمثابة ظل للدولة، وأخرى كفاعل ما فوق دولة. ولعلّ استمرار نشاطها بعد المرحلة الأولى للثورة السورية يوضّح أنّ القطاع الخاص الأمني كان جزءًا من الأمن الاقتصادي والسياسي للنظام السياسي وليس مجرد أداة عسكرية مؤقتة.
تجربة سوريا تشير إلى أن الشركات الأمنية الخاصة يمكن أن تكون أداة استراتيجية فعالة للدولة، لكنها تشكل أيضًا تهديدًا للسيادة والرقابة القانونية إذا لم يكن هناك إطار تشريعي متكامل يدخل ضمن بنى عدم تهديد مبدأ الأمن والمواطنة. ومن هنا تنبثق الحاجة لإصلاح تشريعي شامل، يوازن بين السماح للقطاع الأمني الخاص بتقديم الخدمات، والحفاظ على احتكار الدولة للعنف المشروع، ومنع أي اختراق سيادي أو تدخل خارجي غير قانوني ولا سيما في ظل عدم وضع الإعلان الدستوري السوري أي إطار أو حدود للشركات الأمنية الخاصة. مقارنة التجربة السورية بدول مثل جنوب إفريقيا تؤكد أن القوانين الصارمة، الرقابة الفاعلة، والمعايير المهنية الواضحة هي عوامل أساسية لضمان أن تظل الشركات الأمنية الخاصة مكملة للدولة وليس منافسًا لها.
أخيرًا، يمكن القول إن ظهور هذه الشركات ليس مجرد حالة طارئة، بل يعكس تحولًا بنيويًا في شكل ونمط العلاقات الدولية والدبلوماسية، حيث لم تعد الدولة الفاعل الوحيد المحتكر للأمن والعنف، بل أصبحنا أمام مشهد دولي متشابك تبرز فيه قوى هجينة تجمع بين منطق الدولة ومنطق السوق، مما يشكل تهديدًا على منطق الدولة الحديثة، ويتصدر العامل الأمني الواقع السياسي والاجتماعي على حساب تنشئة مجتمعات ديمقراطية تجعل العنف أداة منضبطة وليست منفلتة كسلع تجارية خارج أطر الدولة المركزية.