الرئيسة \  تقارير  \  الهوية السورية والمسألة الطائفية

الهوية السورية والمسألة الطائفية

16.07.2025
رانيا مصطفى



الهوية السورية والمسألة الطائفية
رانيا مصطفى
العربي الجديد
الثلاثاء 15/7/2025
وجود الطوائف والجماعات الدينية في مجتمعٍ ما لا يدلّ على حتمية الطائفية، باعتبار الأخيرة تمظهراً سياسياً يحوّل عقيدةً تاريخية ما، إلى مشروع يقوم على أحقية الطائفة في السيطرة أو الاستغلال. وربما يقود إلى أحقية الأغلبية الدينية، في رؤية شوفينية، في إلغاء الطوائف الأخرى. ومع سقوط نظام الأسد، انفتحَ أفقٌ جديدٌ للعمل السياسي، استدعى حضور الهويَّات الفرعية، ما قبل الوطنية، مجدَّداً وبقوّة في كل النقاشات السياسية.
لم تنجز النخب السورية نقاشَ الهوية؛ ولا يزال الوعي في المجتمع السوري تقليدياً، نتيجة هشاشة البنية الاقتصادية
لم يدم طويلاً الخطاب الوطني المطمئن للأقليات، فقد استخدمت السلطة الحل الأمني الطائفي، عبر الفزعات والدعوات إلى الجهاد، مرَّة في آذار عبر ارتكاب مجازر متنقلة بحقّ مدنيين علويين في الساحل وريف حماه، ردًّا على تمرّد قامت به مجموعة من ضبّاط نظام الأسد الرافضين للتغيير الجديد؛ ومرّة أخرى نهاية نيسان ضدّ الدروز لكسر شوكتهم بوصفهم جماعة تملك سلاحاً خارجاً عن القانون، وبعد مجازر الساحل باتوا أكثر تمسكاً به، ريثما يتم تشكيل مؤسسات الدولة العسكرية والأمنية على أسس وطنية تشمل كلَّ السوريين. أخاف هذا الوجه الآخر للسلطة كلَّ الأقليات الدينية والعرقية وكذلك سكان المدن، وتصاعدت التخوّفات من سلفية وإسلاموية السلطة. فلا يمكن اعتبارُ المتمرِّدين من فلول النظام البائد تمثيلاتٍ سياسية عن العلويين، إذ تبين أن حجم المشاركة بين العلويين في التمرّد في مارس/ آذار الماضي لم يكن واسعاً، كما أن المجالس الإسلامية العلوية الناشئة لا تحظى بثقة غالبية العلويين؛ ولا يوجد توجّه سياسيٌ واحد يمثّل الدروز، رغم الثقل الاجتماعي لمشايخ العقل وللفصائل العسكرية، لكنَّ التَّخويف بالقتل من فصائل تابعة للسلطة قد شدّ أزر أبناء المحافظة وراء الفصائل ومشايخ العقل، في استجابة قسرية للدفاع عن أنفسهم في الهجوم لا أكثر. وبالقياس نفسه، ليست للمسيحيين تشكيلات سياسية تعبر عنهم، لكنَّ اصطفافاً طائفياً حول بعض رجال الدين بدأ يظهر عقب حادثة تفجير كنيسة مار الياس في حي الدويلعة الدمشقي في 22 حزيران. ولا يمكن اعتبار الأغلبية الدينية (السنية) في سورية طائفة بأي حال، ورغم طائفية بعض القوى العسكرية التي سيطرت على الحكم، إلا أنّها لا تشكِّل تعبيراً سياسياً عن طائفة سنية، لكن شرائح واسعة من البيئات السنّية تنظر إليها أنها تمثيل لحكم السنة، نتيجة إنهائها حكم نظام الأسد، والذي اعتاد السوريون وصفه بأنه حكمٌ علوي.
يسكنُ هاجسُ الصِّراع الطائفي عقول النُّخب السورية، وكثيراً ما تميلُ تحليلاتُهم إلى التفسيرات الطائفية لكل صراعٍ، بدليل وجود الطوائف؛ هكذا جرى تعميم أن نظام الأسد كان علوياً وثورة 2011 كانت سنية.
سؤال الهويّة الجامعة
لم تنجز النخب السورية نقاشَ الهوية؛ ولا يزال الوعي في المجتمع السوري تقليدياً، نتيجة هشاشة البنية الاقتصادية، لذلك استسهلت التحليل الطائفي لكلّ صراع سياسي. لم تحمل البرجوازية السورية بعد الاستقلال، بسبب طبيعتها الكولونيالية، مشروعاً وطنياً، وكان مشروعها هزيلاً ولم يحقّق الاستقرار، إذ كان رثّاً يحصرُ النشاطَ السياسي والاقتصادي بيد عائلاتٍ تنتمي إلى كبرى المدن السورية، والذي كان نشاطاً تجارياً طفيلياً يعتاش على حساب الريف، وبالتالي يحتقر غالبية السوريين، الريفيين، الراغبين في تحسين أوضاعهم الاجتماعية، والذين وجدوا في الحركات التقدمية حلاً لمشكلاتهم. وبالتالي تميَّزت تلك الفترة بعدم الاستقرار السياسي، والانقلابات العسكرية، ونشاطٍ للحركات الفلاحية والطروحات القومية والتقدمية، وكانت النتيجة تغلغل حزب البعث القومي في الجيش، الذي كان عقائدياً، ما مكَّنه من السيطرة على الحكم بانقلاب عسكري. في حين أنَّ تسييس الهويات الدينية، وإعطاء صبغةٍ علويةٍ للجيش والأجهزة الأمنية خدما في تمكين سلطة الفرد الواحد (إلى جانب انفتاح اقتصادي على البورجوازية المدينية، وتضخيم التوظيف البيروقراطي مقابل الولاء)، وساهم العامل الطائفي في زيادة وحشية قمع السلطة، خاصّة في مواجهتها تمرّد الإخوان المسلمين في الثمانينيات. أي أن العامل الطائفي ليس هو الأساس في السَّيطرة؛ فقد حصلت سيناريوهات مشابهة في الجمهوريات العربية، العراق ومصر واليمن وتونس، أي عجز البرجوازية عن السيطرة بسبب غياب المشروع الوطني، وسيطرة الأحزاب القومية.
مع سقوط منظومة "البعث" وأيديولوجيته، بات من الملحّ العودة إلى نقاش المسألة القومية في سياق البحث عن هوية سورية. وإذا كان هذا النقاش سيفتح على سؤال كيفية تجاوز هويَّات القرون الوسطى، فإنه سيفتح أيضاً على نقاشٍ عقلاني للهويات القومية الأخرى، التي لم تعترف بها أيديولوجية "البعث"، بل ساهمت في تأسيس نظرة شوفينية للأكثرية (العربية)، تجاه تلك القوميات الأخرى، ما عمَّق مظلوميَّتها. إعادة المسألة القومية إلى واقعها، كهوية ثقافية لشعب/ أمَّة، يترافق بالضرورة مع نقاش مسألة الأقليات القومية، من زاوية الاعتراف بهويّتها الثقافية أيضاً.
تختلف معالجة المسألة الطائفية في سورية عن معالجة مسألة تعدّد القوميات
لبناء وعيٍ حداثيٍّ في منطقة تحكُمُها الصِّراعات الدولية، لا بدّ من الرَّبط بين مقومات الحداثة ضمن هويّة وطنية؛ وهنا ستفشل كل الطروحات القاصرة: المواطنة- الديمقراطية، المحاصصة الطائفية، مشاريع الإسلام السياسي، الاشتراكية وغيرها. ومن مقومات تشكيل وعي حداثيّ تحييد الدين عن السياسة، عبر طرح المواطنة والديمقراطية الواسعة، إلى جانب تبنّي الدولة اقتصاداً تنمويّاً مستداماً. وهنا الديمقراطية وحرية الرأي والإعلام موضوعات أساسية في منع تحوّل بيروقراطية الدولة إلى الفساد، كما كان الحال خلال حكم الأسدين. لم ينجح البعث، بأفكاره التقدمية بتشكيل مجتمع مدني سوري بالمعنى الحديث، تقوم فيه علاقات المواطنين على أساس المصالح المشتركة، في ظل ديمقراطية صورية وتوغل أمني كبير. في حين أنَّ تراجع دور الدولة بعد 2005، مع انتهاج سياسات نيوليبرالية في عهد الأسد الابن قاد إلى نكوصٍ أكبر في الوعي، وارتداد الأفراد إلى طوائفها وجماعاتها الأهلية.
معظم الأقليات الدينية، عدا الشيعية، منغلقة على ذاتها، وليس في إرث مذاهبها مشاريع لنشر تلك الديانات، بينما كان تنامي جماعات الإسلام السياسي السنّية (وكذلك الشيعية)، وطرحها مشاريع أسلمة للمجتمعات التي تنشط فيها، أو للعالم، يقود إلى تخويف باقي الأقليات. ورغم أن العلويين في الساحل السوري ووسط البلاد كانوا من المتضرّرين من سياسات الأسد الابن النيوليبرالية التفقيرية، كما باقي السوريين، إلَّا أنّ سياسة التخويف من الثورة السورية عبر وصفها بالسلفية والإخوانية، ساهمت في شدّ الطائفة في حمص وحماه والساحل السوري والعاصمة خلال السنتين الأوليين للثورة، إلى جانب اعتماده على مليشيات من السنة أيضاً. وساهم اقتصاد العنف و"التعفيش"في ترغيب فئات كثيرة بالقتال في صفّه.
تختلف معالجة المسألة الطائفية في سورية عن معالجة مسألة تعدّد القوميات، فالأخيرة مفهوم حداثي تُبنى على أساسه الأمم، وحلُّها يرتبط بالاعتراف بشعوب لها ثقافتها ولغتها؛ وعدم حلّها يعمّق مظلوميتها، ويقودها إلى تبنّي خيارات مؤدلجة عدمية تجاه القومية للكبرى. في حين أن الهويات الدينية، كانت تُبنى الأمم على أساسها في القرون الوسطى. واليوم لا يمكن أن يشكِّل دين الأكثرية أيديولوجية الدولة، لأن تسييسه هو عامل مشتِّت داخل تلك الأكثرية أوّلاً. تنبغي إعادة الدين إلى مكانه المقدّس بوصفه طقوساً روحية وجزءاً من الثقافة والموروث لكل السوريين، عبر تنزيهه عن السياسة، والانصراف إلى نقاش أكثر جدية حول مسألة الهوية في سورية.