الهوية السورية والخطاب الأجوف للطائفية
21.08.2025
نزار السهلي
الهوية السورية والخطاب الأجوف للطائفية
نزار السهلي
العربي الجديد
الاربعاء 20/8/2025
المنعطفات التاريخية في حياة الأمم والشعوب تشكّل نهاية مرحلة وبداية مرحلة جديدة، رغم تواصل الماضي بالحاضر، وتواصل الحاضر بالمستقبل.
لذلك يشهد الواقع السوري هذا المنعطف في مرحلته الراهنة، مع حالة متنامية من الجدل والحراك بعد سقوط نظام الأسد، واستلام السلطة الجديدة لمقاليد الحكم. هذا الجدل يشكّل انعكاساً لمتطلبات الواقع السوري بمستجداته النوعية التي طرأت بعد أحداث ما يُعرف بالساحل السوري ومحافظة السويداء مؤخراً، وتخللها حدوث مذابح وتجاوزات وتعديات، أتت بأثقالها لتعصف بما ظنّه البعض حالة "وئام" وانسجام مع الدولة، واللجوء نحو مظهر التراجع عنها والبحث عن منافذ وأشكال جديدة تبعث الروح في التشظي والتفتت ودعوات "الانفصال" والتخوين المتبادل.
الميل السياسي الخطير لبعض المنجرفين نحو بوصلة الاحتلال بذريعة ما أصابهم من "جَور وظلم" السلطة، ونبذ الحوار معها والعكس صحيح، لا يبرر بأي حال من الأحوال الانسحاق أمام أقدام إسرائيل إعجاباً.
هنا نودّ أن نذكّر البعض أنه بعد مذابح السارين الأسدية في الغوطة وخان شيخون، والمذابح الجماعية في حمص وحلب وحماة وداريا، وكل منطقة ومدينة ومحافظة نالت حصتها من الفاشي الفار على مدار 13 عاماً، لم يخرج السوريون بعدها إلا لفضح وتعرية جلادهم، ولم يطلبوا من الجلاد الصهيوني حماية، لأنهم أدركوا أن هذه الفاشية منبعها واحد تحمي ظهر بعضها. ولم تُرفع الراية الصهيونية بعد جرائم داعش في الرقة والبادية السورية للتغني بإنسانية نفتالي بينت ونتنياهو وغانتس وسموتريتش وزامير، بل كانت البوصلة إسقاط نظام مجرم وتعريته والمطالبة برحيله ومحاسبته، ولم تُرفع الأعلام الإسرائيلية في مسرح الجريمة كراية خفّاقة "للخلاص" أو للانفصال عن الجغرافيا السورية.
هذه الحالة التي نشهدها في سوريا، تحديداً بعد أحداث السويداء، بعناصرها المختلفة من التشظي والتجاوزات والاعتداءات والمذابح المدانة، وتطورها الخطير نحو التخندق بمتراس الاحتلال وتدخله المباشر بالعدوان على سوريا، وصولاً إلى رفع علم الاحتلال في السويداء والاحتماء بظله وتوجيه شكر وثناء لمجرم حرب وفاشي، ثم رفع صوت دعوات الانفصال عن بقية الجغرافيا السورية، رغم أن كل هذا الميل غير الطبيعي لتجاوز الأحداث المؤسفة على الأرض في السويداء والساحل من بعض شراذم السوريين آيلٌ للاندثار والإفلاس، إلا أنه بحمله لحالة القطع مع التاريخ والحاضر، لمواجهة مرحلة جديدة باستحقاقاتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية وعامل الجغرافيا والديمغرافيا، يشير إلى عكس القطع المرجو من البعض.
انجراف بعض السوريين، المحسوبين على السلطة أو على من يعارضها، من منطلقات "طائفية" فيها عداء متبادل: عداء السلطة بلونها الطائفي والديني، وعداء "الطائفة" بوصفه مرضاً منتشراً في مجتمع ما قبل الدولة والمواطنة، يحتكره من يعتبر نفسه "زعيماً" وقائداً لفصيل أو عشيرة أو طائفة أو نخبوي، باعتماد مقاييس طائفية وعنصرية ضد الذات والآخر. وبكل الأحوال، هذه الخيارات المجرَّبة تاريخياً في سوريا لم تصلح يوماً كخيار استراتيجي جدي يمكن تأسيس المواطنة السورية عليه وبناء دولة الحريات والتعددية السياسية. لذلك، فإن هذا الشكل من العداء يبقى عائقاً أمام تطور الهوية السورية، ولا يترك مجالاً لتفهّم مرحلة ما بعد الخلاص من الاستبداد.
لأن الميل السياسي الخطير لبعض المنجرفين نحو بوصلة الاحتلال بذريعة ما أصابهم من "جَور وظلم" السلطة، ونبذ الحوار معها والعكس صحيح، لا يبرر بأي حال من الأحوال الانسحاق أمام أقدام إسرائيل إعجاباً، كما أنه لا يبرر تسفيه وتسخيف تاريخ وانتماء جزء أصيل من شعب سوريا العربي والوطني.
على أية حال، الموضوع الأخطر في سوريا اليوم متعلّق بوجود أو عدم وجود جسم سياسي أو مجتمع سياسي سوري يعمل على التئام جروح المجتمع من النظام السابق ويتجاوزها بحوار حقيقي منفتح على الجميع. فلا تكفي مشروعية الانتقادات الموجّهة للسلطة الحالية، ولا تفهّم وجود تجاوزات وتعديات، فالحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإحياء حياة سياسية حزبية سورية تساهم في البناء وتمنع يد الهدم عنه، بعد اتضاح انهيار بنى النظام الساقط وما رافقه من تفسّخ للقوى التي عاشت تحت كنفه وكانت من نسيجه العضوي.
التنفير المستمر من السلطة القائمة والدولة، الذي يلجأ إليه البعض، بات يعود بمردود سلبي إذا ما أضيف إليه التنفير مما تحقق من إنجاز التحرر من طاغية السوريين. وإذا أضيف لهذا التنفير الشيطنة الطائفية الحالية، تكون النتيجة زيادة تحطيم الهوية السورية، والتي ينتظر نتائجها أعداء المواطنة والحرية والاستقرار في سوريا وخارجها، وبالقرب منها كيان الاحتلال وتدخله السافر. لذلك يتمّ قراءة أي خطوة سياسية في سوريا من قبل الاحتلال وبعض أعوانه في الداخل السوري على أنها تهديد لمصالح فئوية وطائفية يتغذى عليها وجودهم ووجود الاحتلال.
استعادة المجتمع السوري لعافيته أمام التحديات الحالية والقادمة تكون بالاعتماد على حيوية المجتمع بكل طاقاته ومكوناته، لا بالاعتماد على السلطة فقط، لأن الأخيرة، أو أي سلطة عربية، من مصلحتها إبعاد المواطن عن السياسة. ولأن الحياة السياسية الفاعلة والديمقراطية باستطاعتها استيعاب الجميع وتسمح بالتعبير، لا بالصمت والتستر على الأخطاء، فإن كشفها يساهم في إصلاحها، والحوار بشأنها جزء لا يتجزأ من عملية إعادة بناء المجتمع والدولة.
التحدي المصيري الذي يواجهه السوريون، والحديث هنا عن مسؤولية تاريخية يتحمّل وزرها الجميع، هو بإخضاع قواعد الخلاف للعمل السياسي والحوار، لا لضغائن طائفية، ولا لأوهام خارجية.
اليوم، لن تنتهِ الجريمة بدفن موتى الهوية السورية، ولن تنتهِ المجزرة بجفاف الدم. فلكي تستكمل عملية البناء المجتمعي للسوريين، لا بد أن يكون شرطها سورياً قُحّاً، ولا بد للضمير الإنساني والوطني أن يكون حاضراً وفاعلاً. لسبب بسيط هو أن تجربة "ضمير" العالم المنافق، وإنسانية المحتل المفضوحة بمئات آلاف ضحايا الإبادة الجماعية والتطهير العرقي المستمر، أثبتت أن تجربة الاختبار الإنساني ما لم تكن ذاتية وغير مستوردة لا يُعوَّل عليها بضمير حساس من كل شيء إلا من الضحية العربية.
أخيراً، التحدي المصيري الذي يواجهه السوريون، والحديث هنا عن مسؤولية تاريخية يتحمّل وزرها الجميع، هو بإخضاع قواعد الخلاف للعمل السياسي والحوار، لا لضغائن طائفية، ولا لأوهام خارجية. لذلك تبقى قدرة الجميع على الاتصال مع الواقع عبر برامج سياسية واضحة لبناء هوية سورية جديدة وكيانية سورية خالصة، منزوعة من القهر والظلم والاستبداد والتهميش. هي التي تؤسس لمستقبل وكيان سوري بعقد اجتماعي جديد ونظام سياسي أكثر عدلاً، بعيداً عن الخطاب السياسي الأجوف والطائفي المقيت الذي يحوّل مفرداته إلى ضجيج له معنى واحد: الذهاب لتفتيت بنية المجتمع. وسوريا اليوم أمام اختبار تحقيق مبادئ معينة يُشتق منها كل التغيير الذي ينشده الشعب والدولة.