"النشيد الأولمبي" وذكرى قاعدة حميميم الروسية
31.05.2025
علي المقري
"النشيد الأولمبي" وذكرى قاعدة حميميم الروسية
علي المقري
المجلة
الخميس 29/5/2025
في الوقت الذي لا يعرف فيه مصير قاعدة حميميم العسكرية الروسية في اللاذقية بعد التحولات السياسية الأخيرة في سوريا، يبدو أن رواية "النشيد الأولمبي" للسوري راهيم حساوي ستصبح يوما ما بمثابة ذكرى للوجود الروسي على الأرض السورية. لا يعني هذا أن الرواية تتمحور حول هذه القاعدة، بل إنها تدور في محيطها من خلال قصة حب بين علياء، ابنة اللاذقية، ولوكاس الطيار في القاعدة الروسية.
الرواية التي صدرت أخيرا عن "نوفل، دمغة الناشر هاشيت أنطوان"، في بيروت، تصور حيوات عديدة من ناس اللاذقية، أولهم علياء التي تبلغ من العمر تسعة وعشرين عاما وتعيش مع أبيها، بعد أن ذهبت أختها مع زوجها وأطفالها إلى دبي، وأخوها إلى برلين، إثر وفاة أمها التي أهلكها الحزن بسبب مصير ابنها رواد، الذي أستدعاه جيش النظام الحاكم لتأدية الخدمة العسكرية، ولقي مصرعه في مواجهة مع قوات المعارضة، فيما قالت أنباء أخرى إنه انتحر، وهو ما رجحه الأقربون بسبب معرفتهم بكرهه للحرب والعنف، ومعاناته من اكتئاب شديد، إذ "كان رواد بأمس الحاجة إلى اللعب، ولكن لم ترقه لعبة الشرطي والحرامي، فلم يكن يملك تلك السادية ليكون الشرطي، ولم تكن على وجهه ندبة سكين لتجعله الحرامي. كل ما كان لديه مصاصة متة في جيبه الأيمن، وقلم رصاص وممحاة في جيبه الأيسر ليرسم الأشياء الصغيرة على دفتره الصغير، أما رأسه فلقد كان مملؤا بحب البلاد والناس الطيبين الذين أكلوا من ترابها حين كانوا صغارا".
حب في اللاذقية
تبدأ القصة حين تجلب علياء، وهي مدرسة لغة إنكليزية وناشطة في جمعيات مدنية، صورة بورتريه لأم لوكاس إلى ابنها، رسمتها ابنة خالته المقيمة في بيروت. يتصل بها ضابط الأمن السوري صفوان لأخذ الصورة، ثم يعاود الاتصال بها لأن لوكاس أراد مقابلتها ليشكرها على إيصال الصورة.
للتسجيل في النشرة البريدية الاسبوعية
احصل على أفضل ما تقدمه "المجلة" مباشرة الى بريدك.
تخضع اشتراكات الرسائل الإخبارية الخاصة بك لقواعد الخصوصية والشروط الخاصة بـ “المجلة".
مع هذه الإشارات القليلة إلى الوجود الروسي وقاعدة حميميم، فإن السياسة لا تظهر إلا لماما، مع أن الرواية قائمة على وجودها
منذ اللقاء الأول يتحدث صفوان عن امتنانه للوجود الروسي في قاعدة حميميم، وعن أهمية روسيا كقوة مهمة "لأجل التوازن الدولي، بعدما كانت أميركا هي من يتزعم سطوة القرارات الدولية في الشرق الأوسط". وعن ضرورة حسن التعامل مع الروس، "فثمة صداقة وطيدة ما بين البلدين، وروسيا بلد حليف وصديق قديم لهذه البلاد".
لا تظهر الرواية حياة الروس في القاعدة، أو وجودهم مع المجتمع السوري، إذ لا يظهرون أو يتجولون إلا برفقة ضباط سوريين، باستثناء لوكاس الذي يدخل المطاعم ويأكل الشاورما والفلافل والفتوش ويدخن الأركيلة. لكن مع هذه الإشارات القليلة إلى الوجود الروسي وقاعدة حميميم، فإن السياسة لا تظهر إلا لماما، مع أن الرواية قائمة على وجودها، كسبب لعلاقة الحب.
تستعيد الرواية طفولة لوكاس في موسكو، مع أمه نتاليا التي عشقت ديمتري، أستاذ الشطرنج الذي كان يأتي إلى البيت، بعد وفاة أبيه، وكيف أثرت اللحظات الحميمة التي رآها لوكاس، حين كان مراهقا، على وجدانه، حيث كان المعلم يتقصد وضع مسائل شديدة التعقيد في الشطرنج ليبقى لوكاس منشغلا في حلها، فيما يحظى هو بوقت ممتع مع أمه على الشرفة. وحين يشعر لوكاس بالمؤامرة يسمع عبارة من ديمتري ظلت ملازمة له "سيأتي يوم وتفهم، كأنك تقف على بلكون وترى العالم من فوق، كما لو أنها النهاية". بدت له العبارة نبوءة، إذ قادته ليصبح طيارا حربيا في الجيش الروسي "ليرى العالم من فوق، وليرى أصغر شيء يمكن رؤيته. وذلك البلكون الذي اعتبره ديمتري مكانا جيدا للعلو، سيراه لوكاس لاحقا بمثابة هدف عسكري يمكن إطلاق صاروخ عليه بكبسة زر كمسألة تتعلق بالنهايات، كخديعة مثل الحرب والسياسة".
السؤال والسلطة
وبما أن الرواية كتبت في فترة ازدادت فيها هجرة السوريين إلى المنافي، فإننا سنجد أن المنفى صار مطمح الكثيرين في الداخل، فهدباء، ابنة بائع الخضر، صارت مكتئبة وهي تبحث عن فرصة سفر إلى أوروبا، بعد أن ضاقت بها اللاذقية، مع "غيرة الصبايا بعضهن من بعض، فابنة عمتها أصبحت في أميركا وصديقتها جيداء أصبحت في باريس، وهذه البلاد أصبحت مثل محرقة لأحلام الشباب والشابات، إذ لم يعد فيها أمل للفرح أو لشيء من الشغف".
مجتمع سوري، يكابد مشاكله اليومية ويحاول أن يتجاوز الإحباط بأي شكل وحال "فالمتاهة واحدة، والأيام تكاد تكون متشابهة"
يحضر رجل الأمن في الرواية من خلال الضابط صفوان الكثير الأسئلة، فـ"الضابط في هذه البلاد عندما لا يجد ما يقوله، فإنه يطرح سؤالا ليخبر الآخر من خلاله بأنه صاحب سلطة". وبمزيد من الإيضاح، تقول علياء في موضع آخر "هؤلاء يحبون أن يسألوا المواطن عن لونه المفضل، ومهما كانت الإجابة فسيأتي بعدها الكثير من الاستفسارات بنبرة توحي أنه متهم بشيء ما، ولن ينجو بنفسه حتى وإن قال إن كل الألوان تعجبني، فمهوم السلطة يتجلى بالدرجة الأولى عن طريق اللغة، مهما كان نوع السلطة، سواء كانت بمنصب أو بمال أو بعلاقة عاطفية، أو بالعمل ما بين المدير والموظف".
سنجد الضابط نفسه يطلب من صاحب كشك قهوة "أبو ريحانة" أن يزيح صورة ابنته التي قتلت، كي لا يظن الأجانب أن البلد غير آمن. هناك شخصيات أخرى كبديع وميسون وجوجو وجبران وغيرهم، يقدمهم المؤلف نماذج لحال مجتمع سوري، يكابد مشاكله اليومية ويحاول أن يتجاوز الإحباط بأي شكل وحال، "فالمتاهة واحدة، والأيام تكاد تكون متشابهة".
مشهد حياة
كتبت الرواية بأسلوب الراوي العليم، من خلال وجهات نظر متعددة، يتنقل بينها الكاتب باحترافية نادرة في الرواية العربية.
وإذ قرأنا في الرواية عبارات تأملية كثيرة على لسان الراوي، "العالم مليء بكل شيء، ولكن ما من شيء إلا والعالم كله في داخله". فإن هناك شعرية في السرد، يبدو أن الكاتب معها ترك للكلمات حرية التحليق بلا حدود، دون أن ينغمس في اللغة الرومانسية، "كانت تلك الليلة ثملة بالكحول، وجامحة بالرغبة، ورشيقة بالحب، وسعيدة بلوكاس، وعالية المقام على ذلك البلكون، كما لو أنها رغبت في أن تتأرجح في الهواء كما شعرها الذي تدلى من الأعلى".
لا نسمع فيه غير صوت الحب وهو يعلو في لقاء حميم، لا يبالي بتعاليم قاعدة حميميم ولا بغيرة الضابط المحلي
يمكن من قرأ لراهيم حساوي من قبل، وخصوصا روايته "ممر المشاة"، أن يلحظ احتفاظه بولعه المعتاد بتصوير اللحظات الإيروتيكية، وإن جاءت في هذه الرواية بمساحات أقل.
إلى ذلك، فإن رواية "النشيد الأولمبي" ليست من الروايات التي تريد أن تقول بشكل مباشر، وإن كان القول مبثوثا في كل صفحاتها،. فالهاجس الفني الذي كتبت فيه، يعلو على أي توصيف أو تصنيف، وكأنها امتداد لولع القص والتصوير لمشهد حياة لا ينتهي.
هذا المشهد تمحى فيه الحدود والجغرافيا والهويات، بل والأسلحة، فلا نسمع فيه غير صوت الحب وهو يعلو في لقاء حميم، لا يبالي بتعاليم قاعدة حميميم ولا بغيرة الضابط المحلي.